أبو القاسم سعد الله، كما عرفته
بقلم
الأستاذ عمار بوحوش
إن أكبر ميزة يتميز بها الأستاذ أبو القاسم سعد الله في كتاباته الشيقة عن غيره من المفكرين هي أنه يتمتع بعدة مواهب في مختلف مجالات العلم والثقافة والشعر وترجمة دواوين المفكرين والباحثين المغمورين. فمن خلال معرفته وقراءة أجزاء من أبحاثه، تأكد لدي أن هذا الرجل متألق في أبحاثه المتعددة والمتنوعة لأنه متعدد المواهب في مجال الكتابة وإبراز الجوانب المخفية في كتابات غيره من المفكرين الذين كشفوا عن جوانب هامة من التاريخ الجزائري لكنها لم تتبلور حتى الآن، فقام الأستاذ أبو القاسم سعد الله بترجمتها إلى العربية أو لم يتم نشرها على نطاق واسع وإبراز المعالم المخفية في كتابات بعض المفكرين.
إنني أعتقد بأن التنوع في كتابة أي باحث والتطرق إلى عدة اختصاصات في آن واحد، هي ظواهر فيها بعض الإيجابيات ولكنها في معظمها تحتوي على جوانب سلبية. وفي رأيي الشخصي أن التعمق في تخصص واحد والإبداع فيه هي الطريق المثلى لمعالجة أي موضوع تاريخي أو أدبي. لكن أبو القاسم سعد الله اختار أن يتوسع في كتاباته ويولى أهمية علمية لكل موضوع يتعلق بالتاريخ الجزائري سواء كان ثقافيا أو أدبيا، ومع ذلك فقد حالفه الحظ في تنويع كتاباته، وكان يهمه غزارة الإنتاج في مجالات بعيدة عن تخصصه، وهي كتابات فيها الغث والسمين.
سياسة العفاف والكفاف
من يخالط الأستاذ أبو القاسم سعد الله يدرك من أول وهلة أنه مسالم وليس له سلوك عدواني. فهو يتميز عن غيره بعزة النفس والعيش على قدر ما يملك بدون زيادة أو نقصان. إنه إنسان نزيه وباحث متميز في التاريخ القديم، الوسيط والحديث، ومربي للأجيال في الجامعة.
إنه لا يطمح للحصول على مناصب إدارية أو امتيازات اجتماعية، ولا يوجد شيء يغريه في هذه الدنيا، سوى القيام بواجباته المهنية واحترام القوانين الوضعية والقيام بالفروض الدينية.
وحسب ما سمعت من بعض الزملاء الأساتذة، وهو الأستاذ أبو العيد دودو، رحمه الله، أن السيد محمد الشريف مساعدية، المسؤول الأول في قيادة جبهة التحرير الوطني في السبعينات من القرن العشرين، قد طلب من الأستاذ أبو القاسم سعد الله أن يترشح لمنصب رئيس اتحاد الكتاب الجزائريين، فأجابه الأستاذ أبو القاسم سعد الله بلطف وأدب وقال له: ” إنني غير متحمس لتبوء هذا المنصب، لكم سياستكم ولنا سياستنا ” فسأله مساعدية، ما هي سياستنا وما هي سياستكم ؟ أجابه الأستاذ سعد الله، أنتم منشغلون بالسياسة ونحن منشغلون بالتحصل العلمي والثقافي !
وفي نفس السياق، يقال أن المرحوم قاصدي مرباح، كلف عبد الرحمان بلعياط في سنة 1989، الاتصال بالمؤرخ سعد الله وعرض عليه منصب وزير الثقافة وفي حكومته التي كان ينوي تشكيلها، لكنه، أي الأستاذ سعد الله، أظهر امتعاضه ونفوره من تولي هذا المنصب، فسأله بلعياط لماذا ؟ فقال له أبو القاسم سعد الله، فلو قبلت بالوزارة لضاعت الثقافة !
نستخلص من ما تقدم، أن أبو القاسم سعد الله قد كرس كل جهده وطاقته لإبراز الجوانب الغامضة في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية والنهضة الثقافية في الجزائر منذ الفتح الإسلامي إلى يومنا هذا. وبكل بساطة، أن الله أنعم على الجزائر بوجود مفكر بارع، كرس حياته لإبراز محاسن المفكرين والباحثين الجزائريين الذين عانوا من الظلم الاستعماري واختفت إنجازاتهم العلمية وتم طمسها بصفة متعمدة.
إن الشيء المدهش في كتابات الأستاذ أبو القاسم سعد الله أنه اعتمد على نفسه وإمكانياته البسيطة لكتابة عشرات الكتب والمقالات التي تمجد الجزائر وتبرز مكانتها في العالم. إنه كان يحرم نفسه من التمتع بالأكل اللذيذ واللباس الأنيق والعطلات الممتعة ويخصص كل وقته للتنقيب عن الحقائق وكشف الالتباسات في القضايا الغامضة والمشاركة في الندوات والمؤتمرات العلمية لإثراء معلوماته حول مواضيع تهمه وشغوف بمتابعتها.
معرفتي بالأستاذ سعد الله في جامعة الجزائر
عندما التحقت بجامعة الجزائر سنة 1970، وجدت الأستاذ أبو القاسم سعد الله يدرس بجامعة الجزائر. وبما أن اختصاصه يختلف عن اختصاصي في العلوم السياسية فلم أتمكن من مخالطته والاتصال به بصفة دائمة لكننا كنا نلتقي في اجتماعات في مجلس الجامعة أو في مكتبة جامعة الجزائر. وفي الحقيقة، أنني كنت أتابع أخبار ونشاطات الأستاذ سعد الله من خلال اتصالي الوثيق بالأستاذ أبو العيد دودو، الذي ينتمي إلى عائلتي ومن قريتي.
صورة للندوة الفكرية لأبو القاسم سعد الله بقمار، الواد، يوم 14 جانفي 2023
إنني لا زلت أتذكر، حين كان يجلس الأستاذ سعد الله في اجتماع المجلس العلمي لجامعة الجزائر بجانبي. لقد فاجأنا عبد الحق برارحي وزير التعليم العالي بالقيام من الكرسي الذي يجلس عليه وجاء إلى أبو القاسم سعد الله لكي يطلعه بأن الأستاذ العربي الزبيري اتصل به وأبلغه أن سعد الله يعاني من مشكلة في البحث، وأنه على استعداد تام لحل مشاكله في البحث العلمي. وعليه أن يطمئن. وذات يوم سألت الأستاذ سعد الله، إذا كان الوزير قد أوفى بعهده، فأجابني أبو القاسم سعد الله، أنه لم يسمع شيئا من الوزير منذ اليوم الذي كلمه بالجامعة ! وهكذا أدركت أن الوزارة لا تبالي ولا تعطي أي اهتمام للباحثين الجزائريين.
وفي مناسبة أخرى التقيت بالأستاذ سعد الله في مكتب عبد الرحمان ماضوي، مدير النشر بالشركة الوطنية الموجود بنهج العربي بن مهيدي، وفهمت منهما أن أبو القاسم كان يتردد على الشركة بقصد التعرف على مصير أبحاثه المقدمة للنشر. وحسب ما سمعت من الأستاذ عبد الرحمان ماضوي، أن الشركة غير قادرة على نشر إنتاج الباحثين الجزائريين، فقلت له: ما هو الحل لمشكل النشر بالجزائر ؟ فأجابني بأن ديار النشر في المشرق العربي هي البديل لشركة النشر والتوزيع بالجزائر لأن لها إمكانيات كبيرة للنشر والتوزيع بسرعة وتوزيع الكتب في جميع أنحاء العالم.
وبالفعل، فقد بدأنا جميعا نبحث عن ديار النشر في المشرق العربي، وتمكن الأستاذ أبو القاسم سعد الله من العثور على الناشر البارع لحبيب اللمسي في بيروت، وأقنعه بنشر أغلب المخطوطات التي كانت متراكمة في بيته. وبفعل هذه المبادرة، استطاع الأستاذ سعد الله أن يفك الحصار المضروب حوله، وينال سمعة طيبة في الأوساط العلمية في جميع دول العالم العربي، لأن الأستاذ اللمسي كان يشارك في جميع معارض الكتاب التي كانت تنظم في كل بلد. وهكذا استفاد الأستاذ سعد الله من وصول كتبه إلى جميع المفكرين والباحثين داخل الجزائر وخارجها.
معرفتي بالأستاذ سعد الله في الولايات المتحدة الأمريكية
لقد سبقني الأخ سعد الله إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث وجدته يدرس التاريخ بجامعة مينيسوتا وأنا أدرس العلوم السياسية بجامعة إلينوي التي توجد جنوب مدينة شيكاغو. كان لقاءنا الأول في مدينة ريدج فيلد بولاية كونيكتيكيت USA، Ridgefield, Connecticut أثناء انعقاد المؤتمر الثاني لفرع اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين في الولايات المتحدة حيث رفعنا العلم الجزائري عاليا في المدينة الأمريكية سنة 1961. وعند انتخابي أمينا عاما للمالية في اللجنة التنفيذية، اقترحت عليه أن يرأس اللجنة الاجتماعية لفرع الاتحاد، وقبل باقتراحي، وأقرت اللجنة العامة للاتحاد ذلك ولكن للأسف الشديد لم تعقد هذه اللجنة أي اجتماع لها، لأنه كان منهمك في البحث العلمي وليس له الوقت الكافي لتحمل مسؤولياته في هذه اللجنة.
لقد كنت أتراسل معه بقصد جمع الاشتراكات الشهرية المفروضة من طرف الفرع على جميع الطلبة الجزائريين، وكان يزودني بأخباره في المراسلات ويطلب مني أخبار اتحاد الطلبة وتطور المفاوضات بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني. وفي بعض الأحيان كان يطلب مني الحصول على سلفات مالية من خزينة الاتحاد، لأن المنحة ضعيفة وهو في حاجة لشراء كتب والاشتراك وفي مجلات علمية.
وما ينبغي معرفته عن الأخ أبو القاسم سعد الله أن مكتبة جامعة مينيسوتا ساهمت في إثراء بحوثه، ومهدت الطريق لنشر كتبه من طرف السيد لحبيب اللمسي في بيروت، لأن مكتبات الجامعات في أمريكا تتمتع باستعارة الكتب من جامعات أخرى بدون تكلفة مالية. وعليه، فالطالب أبو القاسم سعد الله قد اقتنى كل وثائقه التي كان يحتاجها مجانا وبدون معاناة.
كما أن أبو القاسم سعد الله قد استفاد من وجوده في الولايات المتحدة حيث تعرف على العديد من الباحثين الأمريكيين الذين عندهم اهتمام كبير بقضايا شمال إفريقيا سواء في الماضي أو في الحاضر. لقد كان يحدثني عن كثير من المختصين في السياسات الجزائرية سواء في المجال السياسي أو الثقافي، لكنني لا أتذكر أسماءهم الآن. والشيء المهم أنه حصل منهم على وثائق ثمينة استغلها في أبحاثه العلمية.
صورة للطالبين أبو القاسم سعد الله وعمار بوحوش، يوم 21 ديسمبر 1961، بمدينة Ridgefield, Connecticut, USA
الصداقة بيننا تعززت في جامعة آل البيت بالأردن
بناء على اتصالات بيني وبين رئيس جامعة آل البيت الأستاذ الدكتور عدنان البخيت، التحقت بجامعة آل البيت في جانفي 1996، فنصحته بتوظيف الأستاذ الدكتور ناصر الدين سعيدوني وخاصة أنه كان يعيش في ظروف صعبة أثناء العشرية السوداء في الجزائر، إلا أنه فاجأني باستقدام الأستاذ سعد الله، ثم الأستاذ سعيدوني. وكيفما كان الحال، فقد غمرتني السعادة بتواجد هذين الزميلين في جامعة أردنية مرموقة لا يسمح لأي أستاذ أن يلتحق بجامعة آل البيت إلا إذا كان مرموق في جامعته الأصلية.
وفي عام 1997 زارنا رئيس الجمهورية الجزائرية السيد لمين زروال، وزار معظم الأقسام بالجامعة، واندهش رئيس الجمهورية من الإنجازات والكفاءات العلمية في الجامعة، وكأنه كان يتمنى أن تحظى جامعة الجزائر بهذه الكفاءات العلمية. وفجأة توقف لمين زروال في مخبر اللغات الأجنبية بالجامعة، وسأل الدكتور البخيت عن سر نجاحه في قيادة هذه الجامعة المرموقة، فأجابه البخيت بأن نجاحه يرجع إلى الإرادة السياسية لملك الأردن الذي يتابع ما يجري في الجامعة باستمرار، وكذلك وجود أساتذة جزائريين مرموقين في هذه الجامعة أمثال سعد الله، سعيدون وعمار بوحوش. وقال له الرئيس زروال بارك الله فيكم، وفي ملك الأردن وفي الأساتذة الجزائريين. ومرة أخرى، التقينا بالرئيس زروال في حفل استقبال بهيج نظمته الجامعة على شرفه، فتقدم إلينا الرئيس منا وقال لنا أن الجزائر تعتز بكم وبمفكريها. وحضر هذا الحفل عمار تو وزير التعليم العالي الذي شعر بقلة كفاءته في تسيير جامعة الجزائر وخجل من بقاء هؤلاء الأساتذة في الخارج، وتقدم إلي وأوصاني بزيارته بعد العودة إلى الجزائر. وبالفعل، فقد أوفيت بعهدي وذهبت إلى زيارته في مكتبه ببن عكنون، لكنه أبلغني عن طريق مدير البروتوكول السيد محفوظ أنه مشغول والوقت لا يسمح له بمقابلتي !
إن فترة تواجدنا في جامعة آل البيت سمحت لنا نحن الأساتذة الثلاثة، بتنظيم وتخصيص يوم في الأسبوع للالتقاء في بيت أحدنا كل يوم أربعاء بالتناوب وتناول الطعام في بيت كل واحد منا. وكانت هذه الفرصة الرائعة مناسبة لتبادل الآراء في كل صغيرة وكبيرة، ونبش سلوك أصدقائنا في جامعة الجزائر والتعليق على سير الأحداث بالجامعة عندما كنا نزاول التدريس بها لمدة طويلة.
لقد كانت هذه السهرات مع أفراد عائلاتنا، فرصة مناسبة للتعرف على مجهودات البحث العلمي للدكتور أبو القاسم سعد الله وكذلك اتصالاته المكثفة مع الحبيب اللمسي لنشر كتبه في بيروت وتوزيعها في الجزائر وجميع مكتبات الدول العربية. وفي هذا المجال، أؤكد انني استفدت من ملاحظاته وتعليقاته على الثقافة في الجزائر وتعرفت على مساهماته الفكرية في إعادة إحياء الثقافة في الجزائر.
وفي ربيع 1998 قررنا القيام برحلة عائلية إلى سوريا وقضينا حوالي 14 يوما في حلب وحماه، ودمشق، وزرنا كذلك متاحف دمشق. لقد كانت هذه الزيارة رحلة تثقيفية وسياحية وغذائية لأننا كنا نتناقش حتى في الثقافة الغذائية.
للأسف الشديد، لم يكن للأستاذ سعد الله منزلا لائقا في الجزائر يتسع لمكتبته وزواره، ولهذا قرر أن يبني منزلا واسعا يليق بمقامه. وعليه، فقد كان ينفق نصف راتبه على بناء مسكن ملائم له في الجزائر العاصمة.
وبما أن ابنه أحمد، لم يكن موجودا معه في الأردن، فإنه استضاف ابن أخيه عمر، السيد هشام سعد الله حيث كان يشرف وينفق على تعليمه من أول يوم وصل فيه إلى الأردن. وقد انبهرت بسخائه وحنانه على ابن أخيه، وشعرت أنه يتمتع بالأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة لأفراد أسرته.
الخاتمة
إنني شعرت بالافتخار والاعتزاز بإطلاق اسمه على جامعة الجزائر 2، واعتبرت هذه الالتفاتة بمثابة إنصاف لهذا المؤرخ الموقر. لقد استفادت الجزائر من كتابات الأستاذ أبو القاسم سعد الله، وأتمنى أن يجعل منه عبرة، لتكريم أساتذة وباحثين آخرين وتطلق أسماءهم على المؤسسات التعليمية والثقافية. كما أتمنى أن تنظم وزارة الثقافة ووزارة التعليم العالي، جائزة باسم الأستاذ أبو القاسم سعد الله وتمنح الجوائز العلمية السخية على الفائزين في هذه المسابقات الثقافية. كما أنه مطلوب من دولتنا إعادة طبع الإنتاج العلمي للأستاذ أبو القاسم سعد الله وتمكين الشباب الجزائري من قراءة ومعرفة ما أفرزته قريحة الأستاذ أبو القاسم سعد الله وما جال بخاطره وتركه رصيدا معرفيا غزيرا ينهل منه أبناء الجزائر.
* هذه مداخلتي في الندوة الفكرية الخامسة للدكتور أبو القاسم سعد الله المنعقدة يوم 14 جانفي 2023 بمدينة قمار، الواد.