أزمة البحث العلمي في الجزائر
طالعتنا صحف يوم الإثنين 25 ماي 2009 بالقرار الصادر عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بتشكيل لجنة علمية على مستواها لدراسة وتقييم البحث العلمي بالجزائر. ورغبة منا في إثراء هذا الموضوع، ارتأينا تسليط الضوء على مسألة البحث العلمي في الجزائر والتعرض للجوانب والعناصر التي تحول دون توظيف تكنولوجية البحث العلمي بالجامعات الجزائرية.
وفي هذا المقام يتعين علينا أن نقول أن البحث العلمي ضرورة من ضرورات الحياة وأن قوة النظام الغربي الذي حافظ على قوته وصلابته منذ عشرات السنين، لأنه ينمو باستمرار ويواكب التطورات، ومن خلاله استطاع الباحثون والعلماء الغربيون أن يجدوا الحلول العاجلة والآجلة لمشاكل البشر! وإذا كان البحث العلمي متعثرا عندنا أو شبه معطل ويمر بظروف صعبة، فهذا راجع إلى أنه ليس هناك من يشعر أنه في حاجة إلى البحث العلمي، لأنه يعتبر بمثابة luxe والناس يحلوا لهم الإفتخار به لأنهم يدركون أن عمليات الابتكار والإبداع تمر عبر العقل البشري، وأنه لا يمكن لأي إنسان أن يحصد أية غلة إذا لم يقم بعمليات الزرع وصيانة المزروع.
لهذا، فإن البحث العلمي ليس في أزمة فقط، وإنما جوهر المشكل من الناحية الواقعية، أنه ليس هناك من هو في حاجة إليه! نعم، ما أسهل التقليد والاستيراد، وما أصعب ترقية البحث والاعتماد على الخبراء الوطنيين الذين يعرفون بيئتنا معرفة جدية وفي إمكانهم التعرف، بعد التشخيص، على العراقيل والصعوبات التي تحول دون تقدمنا وإيجاد الحلول الملائمة لمشاكلنا.
إنني أعتقد أنه سيأتي يوم، يدرك فيه أصحاب اتخاذ القرارات في بلدنا، بأن تفوق الأنظمة الغربية وقلة الأخطاء في أدائها، وقدرة الأجهزة الإدارية على تقديم الخدمات الراقية لمواطنيها، يرجع إلى فعالية البحث العلمي وقدرة أصحاب المهارات والكفاءات والخبرة والتجربة على إنقاذ الناس والمؤسسات من الأزمات والإفلاس. فالسياسيون والعسكريون والإقتصاديون في العالم الغربي يلتجؤون إلى المتخصصين والباحثين لعرض قضاياهم على هؤلاء الخبراء لكي ينصحوهم بما ينبغي عمله وكسب ثقة مواطنيهم وإعطاء مصداقية للمؤسسات وتحسين العلاقات بين المواطنين والمسؤولين على جميع المستويات.
ولهذا فإن أزممتنا لا يمكن أن تحل بالتخمين أو البحث عن جرعات دواء عرب أو أعشاب طبيعية، وإنما تحل بالتوجه إلى الباحثين والمختصين لإجراء الفحوصات اللازمة وتحديد المرض، ثم تقديم الوصفة العلمية للداء الذي يعاني منه البشر! إن التمادي في تجاهل ضرورة الإعتماد على البحث العلمي والتخوف من تكاليفه الباهظة والبخل على الباحثين بدعوى التقشف والميل إلى إستراد الحلول الجاهزة، بدلا من الإستثمار في البحوث المحلية والإعتماد عليها لإيجاد الحلول الملائمة لقضايانا، هي عبارة عن سياسات خاطئة، غير مثمرة ومن الأحسن تصحيح المسار قبل فواتÿۿلأوان، وتغيير الذهنيات.
من أين تنبع أزمات البحث العلمي في الجزائر؟
إذا قلنا أن البحث العلمي يعاني من أزمات، فإن هذا يتطلب منا تشخيص الداء
والبحث عن الحلول الناجعة لهذه المشاكل. وباختصار، يمكن تحديد الصعوبات التي يعاني منها البحث العلمي فيما يلي:
- المشكل الأول ينبع من التشريع، ونقصد بذلك القوانين والإجراءات الإدارية التي يكون فيها الحرص على التقيد بالنصوص القانونية وليس تحقيق الأهداف المنشودة لمن البحث. إنه من الواضح أن القادة الإداريين يقررون وحدهم أو بمفردهم ما ينبغي أن يتقيد به الباحث، ولا يهمهم ماذا أنتج، وكل ما يهمهم أن يحترم التشريع المعمول به ويحمي الباحث نفسه من أي عقاب. إن الإنسان الذي يبحث، يتساءل باستمرار: لماذا مدير المخبر أو رئيس فرقة بحث بالمخبر لا يحصل على أية مكافأة مالية؟ ثم لماذا لا يستطيع دفع فاتورة الهاتف إذا لم تصله النسخة الأصلية واضطر لإستخراج نسخة ثانية من إدارة الهاتف وتسديد الفاتورة؟ الجواب على ذلك أن القانون لا يسمح بذلك! وإذا سئل أي إنسان، لماذا يحرم الباحث في جامعة قسنطينة من علاوة الجنوب، بينما يحصل على تلك المنحة الباحث في جامعة باتنة، فإن الجواب على ذلك هو أن التشريع لا يسمح بذلك!
- عدم وجود رغبة أو إدارة لنجاح عملية البحث، ويقصد بهذا، قلة الحرص والمتابعة من طرف المسؤولين في كل قطاع، لأن المتابعة اليومية وإظهار الإهتمام بالموضوع تدفع بالباحث أن يعمل بجدية ويتوصل إلى نتائج مرضية لكي ينال رضا وتقدير قادته.
- عدم وجود إستقلالية مالية لمراكز البحوث، يعني أن الجهة المركزية التي تمول البحث هي التي تفرض شروط الصرف، وقواعد العمل والطريقة التي تراها مناسبة لإنجاز المهام. ولهذا، فإن عملية البحث لا يمكن أن يكون لها معنى، إذا لم تكن مراكز البحوث مدعومة من الجهات الممولة للبحث، وقادرة في نفس الوقت على جمع ثروة مالية تسمح للباحثين بالإبداع وتسويق إنتاجهم والحصول على مداخل مالية مقابل إنتاج خدمات يمكن تقديمها للزبائن.
وبهذه المناسبة يجدر بنا أن نشير إلى أن الجامعات الفرنسية التي يبلغ عددها 85 جامعة، قد شرعت منذ بداية 2009 في العمل بطريقة الإستقلالية المالية. وفي سنة 2010، ستتمتع جميع الجامعات الفرنسية بالإستقلالية المالية الكاملة، والدولة تقدم فقط 250.000 أورو إضافية لتمويل عمليات البحوث والإصلاحات، و50.000 أورو كدعم مالي في شكل حوافز للباحثين. وحسب التوقعات، فإن تعاقد الجامعات والباحثين مع المؤسسات الإقتصادية والإدارية سيتضاعف وتحصل مراكز البحث جراء إنتاج مجلات ودراسات على نسبة عالية من المداخيل المالية.
- سوء التنظيم والتسيير، والذي يسمى باللغة الإنجليزية Mismanagement، ومعناه أن عملية التوظيف رديئة لأن مصير المنظمة يتوقف على عملية إختيار الباحثين المتخصصين في حين أننا نوظف كل من يبحث عن عمل يتقوت منه! إن اللامبالاة في التوظيف وعدم التقيد بتقنيات الإختيار حسب التخصص، أفسدت نظام البحث لأن الغرباء إذا دخلوا مهنة لا ينتمون إليها ولا يعرفون قيمتها فإنهم يفسدونها ولهذا، فلا بد من إعادة قطار البحث إلى السكة، وتوظيف رجال الإختصاص، كل في منصبه اللائق به.
- قلة المؤطرين الأكفاء، ونقصد بذلك المتخصصون المتميزون الذين يمكن أن يتتلمذ على يدهم جيل جديد من الباحثين ويمكنه مواصلة المسيرة بعد رحيلهم أو توقف أعمالهم في مجال إثراء المعرفة. ينبغي أن لا ننسى أن لكل تخصص علمي قادته والمفكرين المرموقين فيه والذين تعول عليهم كل دولة وتستفيد من كفاءتهم ومن الإطارات التي تتعلم منهم. وباختصار، فإن المشرفين على البحوث والمتخصصين هم الذين يتفننون في تحفيز الباحثين وتشجيعهم على العمل لكي يحصلوا على نتائج ذات منفعة عامة. إنهم les encadreurs في البحث، هم الذين يعطون مذاقا لطعم البحث، وهم الذين يتركون بصماتهم العلمية في طلبتهم وقضايا التنمية في وطنهم.
ولهذا، فإن الخطأ الكبير في بلدنا أن تحاول وزارة التعليم العالي والبحث العلمي جلب الإطارات العلمية المهاجرة إلى داخل الوطن والإحتفاظ بهم كديكور في مكاتب مجهزة بأحدث الأجهزة المكتبية الفخمة. فالمطلوب هو إيجاد بيئة محفزة للعمل داخل المؤسسات الوطنية وتوجيه العناية إلى الباحثين المتواجدين داخل الوطن وإتاحة الفرص لهم لكي يتفوقhᘧ على زملائهم المتواجدين بالخارج!
- مشكل الخلط بين البحث العلمي في مجال العلوم الطبية وعلم الأحياء والرياضيات من جهة، والعلوم الإنسانية بصفة عامة من جهة أخرى، ينبغي أن يكون هناك فرقا شاسعا بين مكونات وطرق البحث في مجال العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. فإذا كانت العلوم الطبية تحتاج إلى مخابر لفحص العينات وإجراء التجارب والتعرف على النتائج التي تتمخض عنها الفحوصات الدقيقة، فإن العلوم الإنسانية، بصفة عامة تحتاج إلى مراكز أبحاث لفحص وتحليل الوثائق وتحديد السلوك الإنساني. إن قضايا الناس في مجال العدالة وصنع السياسات العامة ودراسة الإستراتجيات الأمنية تتطلب وثائق ومعلومات وحقائق ميدانية أكثر مما تتطلب مواد كيماوية للمخابر وآلات عصرية لمعرفة بصمات الإنسان وفصيلة دمه. ولهذا، لا بد من إعتماد مقاييس مختلفة للنشاطات العلمية في مجال العلوم الطبيعية ومجال العلوم الإنسانة.
- قلة الوعي بالبحث العلمي، فالمفروض أن تتحول الجامعات وكبار المفكرين والباحثين بها إلى منتجين للأفكار والنظريات في مجال البحث العلمي، والمؤسسات السياسية والإقتصادية والمدارس التطبيقية إلى ورش عمل لتطبيق وتنفيذ التوصيات العلمية التي يقترحها كبار المختصين والباحثين في الجامعات، أي أن هناك مؤسسات جامعية يتم فيها إنتاج الأفكار والتصورات والإستراتجيات، وهناك المؤسسات التي تختار ما تطبقه وتستفيد منه في مجال تخصصها. ولهذا، فالمفروض أن لا تقوم المؤسسات بإنشاء مراكز البحث الموجودة فيها وإنما تتوجه إلى مراكز البحث في الجامعات حيث يوجد كبار العلماء والمفكرين الذين يحصلون على دعم مالي لتمويل مشاريع الأبحاث التي تخصهم.
- عدم وجود ميزانيات لنشر المجلات العلمية، وبدون شك، فإذا كان هناك قحط علمي في الجزائر، فإن سببه هو قلة العناية بنشر المعرفة وتبليغ المعلومات والحقائق إلى الباحثين والطلبة في جميع المجلات. للأسف الشديد، فإنه لا توجد مجالات علمية متخصصة ومحكمة، تصدر بانتظام في الجزائر والباب مغلوق في أوجه الباحثين محليا، اللهم إذا توجهوا إلى الخارج وأعطيت لهم الفرص لنشر إنتاجهم العلمي. ونفس الملاحظة يمكن قولها بالنسبة للحصول على المعلومات الحديثة على آخر النظريات والأفكار في مجال أي تخصص. فلا يمكن تحديث المعلومات إلا عن طريق الإطلاع على الآراء والأفكار الواردة في المجلات التي تصدر بالخارج.
الحل المطلوب
ينبغي إعادة تقييم الوضع والتخلص من المشاكل والعراقيل التي أتينا على ذكرها آنفا والتي حولت مراكز الأبحاث إلى مقابر للإبداع العلمي. في رأيي، يجب تغيير التنظيم الحالي تغييرا كليا، وعلى وزارة التعليم العالي البحث العلمي وباقي المؤسسات الوطنية أن تغير أسلوب العمل الحالي، لأنه بيروقراطي ويهدف إلى تقديس وتكريس القانون، في حين أنه كان من المفروض أن نعتبر القانون وسيلة للعمل فقط، والمهم هو تقديس العمل وبلوغ الأهداف المنشودة.
يتعين علينا أن نقتدي بمراكز الأبحاث في العالم التي توجد بها مراكز أبحاث مستقلة ماليا، والباحثون فيها يتعاقدون مع المؤسسة، أو الهيئات التي تمنحهم المال للقيام ببحوث تحظى باهتمام المتخصصين. وعندما يتم الإتفاق بين الباحث، سواء كان بمفرده أو مع مجموعته، والجهة التي تدعم البحث، يحصل الباحث على نصف المبلغ، وعند إتمام البحث المتعاقد عليه، يحصل الباحث على النصف المتبقي. وبالنسبة لمصاريف البحث العلمي. فيمكن أن توضع بالجامعات لكن الآمر بالصرف هو الباحث بمفرده، وهو الذي يجمع الفواتير ويقدمها للجهة المسؤولة عن تمويل بحثه لتبرير تلك المصروفات.
إن هذه الطريقة هي التي تحرر الباحث من عراقيل البيروقراطية والإجراءات العقيمة المتمثلة في المرور على اللجان العلمية والمجالس العلمية التي وجدت أساسا للنظر في القضايا البيداغوجية وضبط الإحتياجات التعليمية، وليس وضع الأختام الرسمية على الأوراق وتمرير مشاريع الأبحاث العلمية!
* محاضرة ألقيت بمنتدى جريدة الشعب يوم الاثنين 26 ماي 2009 بمناسبة حفلة تركيمي من طرف منتدى الشعب.