أين هو الدور الإبداعي لرجال العلم في الجزائر ؟
يحلو لكثير من الناس أن يتكلموا عن الإصلاحات السياسية، و تقاسم السلطات بين الهيئة التنفيذية و الهيئة التشريعية، وانتقاء الرجال النزهاء الذين يتحملون المسؤولية في المستقبل و يحققوا المطالب الأساسية لأبناء الشعب الجزائري، وفي اعتقادي أن هذه الحلول المرحلية للتخلص من مشكلة تدخل الحزب في شؤون السلطة التنفيذية، و تخفيف أعباء المسؤولية على رئيس الدولة بتقاسمها مع رئيس الحكومة، وتعيين وجوه جديدة يثق فيها الشعب ويطمئن إليها، غير كافية لتحقيق ما نصبوا إليه من تقدم ملموس في جميع الميادين السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، و السؤال المطروح : لماذا غير كافية ؟
العلاقة بين رجال الحكم و رجال العلم:
و الجواب على ذلك، أننا مثل بقية عباد الله في هذه المعمورة، نعلن بحماس قوي عن رغبتنا في تحقيق المعجزات و تغيير مجرى الأمور، و نبشر الناس بأنهم سيقطفون ثمار مخططات و مشاريع الحكومة في المستقبل القريب، لكننا، للأسف الشديد، وهذه مشكلتنا الرئيسية، أننا خلافا لبقية عباد الله، نلتجئ إلى أصدقائنا وإلى الموظفين البسطاء لكي يضعوا الخطط في أسرع وقت ممكن و بأقل التكاليف، ثم نورط الدولة و ذلك بإعطاء المشروع صبغة رسمية ، وبكلمة وجيزة، إن معظم القرارات تتخذ بطريقة فردية وبناء على كلمة همس من صديق أو قريب أو مساعد يجيد فن التعلق ، و الشعب طبعا هو الذي يتحمل نتائج أي قرار ارتجالي يتخذه مسؤول في أية وزارة، و عليه، فإن مشكلتنا الرئيسية تتبع من اتخاذ القرارات بدون مبالاة في المسائل الحيوية، وعدم الاعتماد على العلماء و الخبراء الذين تزخر بهم بلادنا و لكن مواهبهم وخبراتهم غير موظفة لخير هذا الشعب الأبي الذي أطاح بغلاة الاستعمار و انتزع حريته واستقلاله يوم كان الهدف واضحا و قادته ، ومن ورائهم جميع أبناء الشعب، مجندون للدفاع عن المصالح العليا للأمة .
إنه لمن العجيب حقا، أن نرى كل فرد فينا يلتجئ بصفة أوتوماتيكية إلى استشارة الرجل الأخصائي في المرض الذي يعاني منه، لكنه لا يفعل نفس الشيء عندما تواجهه مشكلة وطنية تتطلب استشارة إنسان متخصص، بل يسمع إلى كل من يخالطه ويتعامل معه و يتخذ القرار الذي يحلو له عن طريق الحدس و التخمين.(*)
لماذا التعثر ؟
وانطلاقا من ما تقدم، ينبغي أن نتساءل فيما بيننا، لماذا تعثرت تجربة الثورة الزراعية في بلادنا؟ لماذا تحولت الجامعات إلى مؤسسات لإعطاء الشهادات و ضمان مناصب عمل للمتخرجين؟ لماذا استفحلت الديموغرافية وتعذر على الدولة أن تفيء بالتزاماتها في مجال السكن و تمويل السوق بكميات كبيرة من المواد الغذائية ؟ لماذا صعب على المواطن الجزائر في الخارج أن يحول أمواله إلى بلده و يستثمرها في الجزائر ؟ .
و الجواب على هذه الأسئلة كلها أننا لم نقم بالدراسات الجدية و لم نعتمد على الخبراء و العلماء الجزائريين الذين يقومون بتحليل هذه المواضيع الحيوية للتنمية الوطنية في بلادنا، وبالتالي ، تأثر اقتصادنا سلبيا بالقرارات المرتجلة التي برزت عيوبها بعد اصطدامها بالواقع الجزائري المعاش يوميا، فلو كانت هناك دراسة ميدانية من طرف الخبراء في الزراعة لكان في الإمكان التفطن إلى أن الجزائر بلد زراعي بالدرجة الأولى، وأن هناك 70 % من سكان الجزائر يحترفون الفلاحة، وعليه، فلابد من تشييد السدود لتخزين المياه وتوفير الأسمدة والجرارات لهؤلاء الفلاحين حتى يوفروا الغذاء اللازم لأنفسهم و لبقية أببناء الجزائر (ويجنبوا الجزائر صرف ملايين الدينارات على استيراد المواد الغذائية من الخارج بالعملة الصعبة). ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الجامعات الجزائرية التي كان من المفروض أن تتحول إلى ورشات عمل لتنمية الصناعات واختراع الآلات و ابتكار الأجهزة الضرورية لتقوية المؤسسات الجزائرية، و المساهمة في انتقاء النظريات العلمية التي يمكن تطبيقها في جميع القطاعات الإنتاجية .
لكن الشيء الذي حصل الآن أن هذه الجامعات نفسها تعتبر عاجزة عن مسايرة التطورات العلمية، و تفتقر إلى الكومبيوتر الذي يعينها على ربح الوقت و تسهيل عمليات البحوث العلمية، وعلماؤها أصبحوا عبارة عن عمال بدون مكاتب، ينحصر دورهم في إلقاء المحاضرات، و تمكين الطلبة من الحصول على شهادات يأخذوا رواتب عالية حسبما ضبطها القانون العام للعامل. ونفس الحقيقة تنطبق على عجز وزارة المالية في إيجاد نظام مالي بتسم بالمرونة و القدرة على استقطاب رؤوس الأموال لاستثمارها في مشاريع التنمية الوطنية، الشيء الذي نتج عنه تحايل الأفراد على القانون و انتشار السوق السوداء. فلو كانت هناك دراسة جدية للموضوع، واعتمدت الدولة على الخبراء في الشؤون المالية، لكان في الإمكان وضع نظام نقدي يسمح بتحويل أموال المهاجرين إلى بلدهم بالسعر الذي يخدمهم و يخدم الاقتصاد الوطني، مثلما هو الحال في البلدان المجاورة لنا .
لقد أتيت على ذكر هذه الحقائق لكي أبين أن المشكل يكمن أساسا في عدم القيام بالدراسات واتخاذ القرارات المبنية على الحقائق و البدائل الواقعية. وبكلمة أخرى ، فإنني أردت أن أركز على ظاهرة واضحة للعيان وهي أن هناك أخطاء ترتكب على مستوى نظام الحكم، و لا توجد جهة أخرى تصحح المسار و تنبه إلى الأخطاء أو تعترض على اتخاذ القرارات الارتجالية. والمفروض أن الهيأت المختصة في الدولة هي التي تنتهج سياسة الاعتماد على المختصين وأصحاب الخبرة العملية في تقييم المشاريع و إبداء الرأي فيها قبل أن تتبناها الدولة، و بذلك تساهم القيادة في حماية المصلحة العامة من أي عبث بمصلحة المواطنين .
القرارات السياسية والقرارات الفنية
أما النقطة الثانية التي تشكل ثغرة كبيرة في مسيرة التنمية الوطنية بالجزائر فإنها تتمثل في الخلط بين القرارات السياسية و القرارات الفنية المبنية على الكفاءة و المهارة في الاختصاص. إن القرارات السياسية التي تنبع من القيادة السياسية، تصدر في شكل توجيهات و تعليمات لما ينبغي عمله في المستقبل، أما القرارات التفصيلية المتعلقة بكيفية العمل و تحديد الأهداف بدقة وانتقاء الأساليب الناجعة والبدائل المطروحة، فتلك أعمال فنية تتطلب مهارات معينة وكفاءة عالية في الاختصاص، وبالتالي، فإن القرارات الفنية مثل هذا النوع تسند إلى رجال الاختصاص لكي يبتوا فيها، و إذا وقع خلاف بين المختصين، فإن القيادة السياسية هي التي تكون الحكم في الموضوع، و تتخذ القرارات التي تراها أكثر ملاءمة و تماشيا مع منهجها العام.
وإنطلاقا من هذه الحقائق، فإن الفرق بين إداراتنا و إدارات بعض الدول النامية والدول المتقدمة بصفة خاصة، هو أننا نجمد كل شيء و نخضعه لموافقة المسؤول السياسي الذي لا يكون بالضرورة متخصصا، في حين أن الدول التي توجد بها أنظمة عصرية للعمل، تعتمد على أراء المستشارين في كل صغيرة و كبيرة، بصفتهم خبراء، يقوم المستشارون بدراسة المواضيع وتقديم الاقتراحات و متابعة التنفيذ حتى تتجسم وتتحقق الأهداف المرسومة. وعليه، فالعبرة بنجاح أية سياسة للدولة و المحافظة على هيبتها و مصداقيتها تتمثل ليس فقط في وجود الرجال القياديين الأكفاء و المخلصين، وإنما في وجود بطانة مؤهلة علميا و متمكنة مهنيا وذاات خبرة قوية في الاختصاص.
العلم النظري و العلم التطبيقي
أما نقطة الضعف الثالثة في مسيرة التنمية ببلادنا فإنها تكمن في الدعوة إلى الاعتماد على تقنوقراطيين تتوفر فيهم مقاييس، الكفاءة و النزاهة و الفعالية، أي أفراد يتميزون بتطبيق القوانين حرفيا أثناء إنجاز المهام المسندة إليهم من طرف القيادة السياسية، وبهذا المعنى فإن التقنوقراطيين يوجهون عنايتهم و اهتمامهم إلى العلم التطبيقي الذي يتجه إلى العمل ضمن الواقع، وبالتالي تحقيق الفعالية في العمل و الاستفادة من اعتبارات المردودية والإنتاجية والفوائد التي يمكن جنيها بصفة ملموسة، والثغرة الموجودة في هذا المنطق والتي تغيب عن أذهان بعض الناس هي أن العلم التطبيقي أو التقني يتطلب وجود العلم النظري الذي يتجه إلى تفسير الواقع أو فيما ينبغي أن يكون . وعليه، فالعلم النظري يسبق العلم التطبيقي، ولكي ينجح التقنوطرايين فلابد أن يغذيه العالم المتخصص في النظريات بالمعرفة العميقة و القدرة على الإبداع و تطوير ما هو موجود. و بهذا المعنى، فلابد أن ندرك بأن العلم النظري هو الذي يخلق الأرضية للعلم التطبيقي لأنه هو الذي يجيب على الأسئلة المحيرة و يعطينا البراهين و الأدلة على صحة النتيجة أو عدم صحتها، بينما العلم التطبيقي ينحصر دوره في ربط النظريات و تطبيقها في أرض الواقع .
ونستخلص من ما تقدم أن المشكلة الرئيسية التي تعاني منها أجهزة الدولة الجزائرية هي أننا لا نعطي الفرص لعلمائنا ومفكرينا لكي يعبروا عن آرائهم في قضايا الأمة و يبدعوا و يساهموا في التخطيط للمستقبل وتوضيح الرؤيا، وبالتالي. فإن العلماء محرومون من فرص خلق التأثير الإيجابي و المطلوب بالنسبة لبلادنا. و الاتجاه السائد الآن هو الاعتماد على البيروقراطيين التنفيذيين الذين يعملون بطريقة روتينية و يحرصون على الالتزام بالتطبيق الحرفي للقوانين، وبالتالي، يظهرون عجزهم عن الاستجابة السريعة للتحديات المعقدة و التي تتطلب مهارات فكرية و مقاييس علمية دقيقة. و الشيء الأكيد هو أن تحويل البروقراطيين إلى مفكرين و منفذين في أن واحد لن يغير مجرى الأمور. وإذا أردنا أن تتغير الأمور في بلادنا بطريقة إيجابية و ملموسة، ينبغي أن لا يقتصر التغيير على تعويض مسؤولين بأخرين وإنما يكون التغيير في العقليات و في أسلوب العمل وذلك بإدراك حقيقة أساسية وهي أن قوة الدولة و الثقة في مؤسساتها مستمدتان من قوة الأبحاث و الدراسات التي تفرزها عقول المفكرين و المبدعين في كل اختصاص. ولعل الشيء المثير في هذا الموضوع أن الدولة الجزائرية تصرف ملايير الدينارات على نشر العلم وتكوين الشباب، وهذا بناء على إدراك من قادتها بأن قوة العلم والمفكرين و ابتكارهم هي ضرورة من ضرورات الحياة و لازمة لمصالح دائمة تتعدى شواغل الساعة، و لكن هذه الإرادة أو الرغبة لم تتجسم في أرض الواقع حيث أننا نلاحظ بأن مؤسسات الدولة من وزارات و قطاعات إنتاجية لا تستعين بأقدر العناصر في الجامعات و المعاهد المتخصصة، و لا تستدعيهم لمساعدتها في توضيح الرؤيا المستقبلية و تحديد الأهداف العامة لكل المؤسسة .
رجال الحكم و رجال الفكر
وعليه، فإن مشكلتنا الرئيسية ليست في انخفاض ثمن البترول و قيمة الدولار أو دفع فوائد القروض الأجنبية، و إنما مشكلتنا تكمن في سوء التنظيم و سوء استخدام الطاقات والمهارات الجزائرية و الإمكانيات الداخلية المتوفرة ببلادنا الفنية بكل خير وثروة. وفي قناعتي الذاتية أن بلادنا تزخر بمفكرين و علماء مرموقين في كل التخصصات، و أن نسبة كبيرة منهم قد اكتسبوا مهارات علمية راقية في جامعات ومعاهد أوروبية وأمريكية، لكن العلاقة بين رجال الحكم و رجال العلم و المعرفة معدومة، و كل طرف يعيش في عزلة تامة عن الآخر وعليه ، فإن مشكلة التنمية في بلادنا متوقفة على مبدأ استعمال الفكر لتحليل الظواهر و التعرف على الحلول الممكنة للمشاكل اليومية التي يعاني منها كل جزائري، و الظاهر أن عملية استعمال الفكر هي في طريق مسدود لأن المفكر في المجتمع موجود، نظريان لكنه، عمليا، مكبل بالقيود و حركته محدودة، و لا يعرف كيف يصرف وقته و طاقاته في العمل المنتج، و هذا دليل على أنه يفتقر إلى منهجية عملية. ومن خلال تأملي في هذا الموضوع، توصلت إلى قناعة بأن الفرد في مجتمعنا الحديث لا تنقصه المعرفة و الكفاءة و الخبرة لأنه، كبقية عباد الله في أوروبا وأمريكا الشمالية، عنده عقل و فكر و مهارات ذهنية، لكن الشيء الذي ينقصه و يفتقر إليه هو البيئة المشجعة على العمل و الإبداع، و الثقافة ذات الجذور العميقة التي تدفع بالفرد أن يتعاون مع المسؤولين في دولته، و يتعاونوا معه حتى يمكنهم جميعا تحصين وتقوية النظام السياسي ضد المخاطر المحدقة بالبلد من الخارج .
وبهذا المعنى فإننا كمثقفين ومسؤولين في أجهزة الدولة مطالبون بإعادة النظر في مسارنا ، و تغيير أسلوب العمل، و إحداث تقاليد جديدة في العمل بحيث يشعر كل طرف أن المصلحة العليا للبلاد تتطلب فتح المجال و إعطاء الفرص لكل مثقف أن يبدع و يظهر قدراته الحقيقية و المخفية في ميدان تخصصه، و بذلك يساهم فعلان لا قولان في تلبية احتياجات المواطن و تعزيز دور الدولة وخلق المصداقية لها في نفوس المواطنين، وبالتالي تعزيز المركز القيادي للمسؤولين السياسيين. ولو أدرك كل طرف مدى احتياجه للطرف الآخر لكي ينجح في مهامه، لتغيرت الأمور رأسا على عقب بحيث تبرز قيمة الفكر و يقطف ثمار النجاح كل المواطنين الذي يترقبون باستمرار النتائج التي تتجسد على أرض الواقع بفضل التعاون المثمر بين المفكرين المبدعين و القادة السياسيين الذين يتحملون أعباء المسؤولية السياسية ، لأن السياسات المطبقة في المجالات الاقتصادية والثقافية و الإنتاجية ، ما هي إلا التطبيق الفعلي للفكر الذي أفرزته العقول الوطنية.
و الشيء الذي لا جدال فيه أن عملية انتعاش الإبداع في الجزائر و الاستفادة من الطاقات الوطنية المجمدة ، و الاعتماد على الفكر لتوجيه مشاريع التنمية الاقتصادية والثقافية و العلمية ، يتوقف على الرعاية التي توليها القيادة السياسية للعلماء و المفكرين وأصحاب الخبرة و المهارات المرموقة في الجزائر. فإذا أردنا أن نوفر لأبناء شعبنا كل ما يحتاجونه من أمن، و ملبس، و غذاء، و تعليم، و آلات وكرامة و عزة نفسن مثلما تفعل دول الغرب، فلا مفر من الاعتماد على المفكرينن و تكليفهم بأن يقوموا باختباراتهم العلمية، و تسجيل ملاحظاتهم و التعبير بحرية تامة عن القضايا الوطنية و المهنية التي تشغل بالهم، فبفضل هذه الرعاية التي توفرها القيادة السياسية و التي تحميهم من غضب البيروقراطيين و تعسف بعض التعساء الذين تخيفهم الحقيقة المرة إذا كانت تمس مناصبهم السياسية و تتسبب في فقدان سلطاتهم التحكمية، و بعبارة أخرى، فإن العقبة الرئيسية في وجه الإبداع و خلق الفعالية في المجتمع الجزائري هي ظاهرة سعي المرؤوس لترضية رئيسه و عدم مخالفته، و انتظار التعليمات منه باستمرار حتى يحافظ على منصبه، وبالتالي، يكافئه و يرقيه إلى رتبة أعلى من تلك التي هو فيها، و النتيجة المستخلصة من هذه الحقيقة ، أن الشيء المهم الذي يشغل بال نسبة كبيرة من كبار المسؤولين في دولتنا هو التفكير في الترقية و تحقيق المنافع الذاتية على حساب الآخرين بينما المفروض هو أن يشغل كل واحد منا نفسه بالقيام بواجباته و تحقيق الأهداف المرسومة له بفعالية و كفاءة عالية. وعليه فإن سكوت القيادة السياسية عن هذه التصرفات السلبية و اختفاء دور الدولة في حماية المثقف المبدع من نفاق الجهاز البيروقراطي المتصلب و العاجز عن الاستجابة السريعة للتحديات، هي التي تسببت في اضمحلال أثر المعرفة العلمية و قلة مفعولها. وبالتالي، تهميش العلماء المبدعين وتعجيزهم يظهرون أنه لا فائدة تجدي منهم وأنه لا نفع منهم.
ولكي تتضح الرؤية يتعين علينا أن نأتي بأمثلة بسيطة بأوروبا التي انبهر باختراعاتها جزء كبير من كبار المسؤولين الحكوميين في بلادنا، فليعلم إخواننا بأن المفكرين في الدول المتقدمة هم الذين يوجهون الجهاز البيروقراطي أو الجهاز التنفيذي للدولة، و ذلك بفضل الثقة التي يصفها رجال الحكم فيهم بصفتهم الخبراء المختصين والمستشارين و الذين يتمثل دورهم في القيام بالدراسات و رسم طريق المستقبل. وبعد إتمام هذه العمليات من طرف المفكرين المستقبل و موافقة رجال الحكم تأتي مرحلة تحويل تلك الخطط لرجال التنفيذ لكي يقوموا بتطبيق ما خططه لهم أسيادهم العلماء والمفكرون و الاختصاصيون البارعون، و بتعبير آخر، فإن النقطة الأساسية في نجاح أية خطة سياسية أو اقتصادية أو تربوية يتوقف على وجود رؤية مستقبلية واضحة المعالم، يقوم بإعدادها وضبط أهدافها رجال الفكر و الإبداع في ذلك الاختصاص، أما إذا غاب التصور الأساسي و الواضح، فإن كل شيء يتعثر، و يختل، وفي الحال يبرز الفراغ السياسي و الغموض أو التذبذب في العمل .
و نتيجة لذلك تفقد المؤسسات مصداقيتها و قدرتها على توجيه دفة الأمور، و لعله من تحصيل الحاصل أن نشير هنا إلى أن غياب الفكر من أي عمل ينعكس سلبيا على رجال الحكم الذين يصيبهم الهلع بسبب خوفهم من الفشل في مهامهم و امتناع الناخبين عن تأييدهم في المرات القادمة، و لهذا فإن نجاح السياسيين متوقف على توظيف العلم والخبراء لفائدة الشعوب و تحقيق مطالب المواطنين في كل بلد.
خلاصة و استنتاجات
يبدو أن مسألة الإبداع العلمي مجمدة في بلادنا إلى إشعار آخر لأن الاتجاه العام في البلاد منذ سنة 1962 هو الاهتمام بالخطاب السياسي و إبراز الشعارات البراقة، والابتعاد قدر الإمكان عن التحليل الصحيح و الكلام في سياسة الأمة بأسلوب علمي ينبع من قيمنا و يعبر عن شخصيتنا و عقليتنا الجزائرية، و لكي نطوي صفحة الجمود والعشوائية و نفسح المجال للرجال المبدعين في الجزائر، يتعين على المسؤولين الكبار في الدولة أن يدركوا حقيقة أساسية و هي أن الشعارات البراقة لا تجدي نفعا، و أن عملية الإبداع العلمي تتطلب وجود مناخ علمي في المجتمع، و رغبة صادقة لتقبل النتائج العلمية، و الاعتراف بمكانة العلم المرموقة في المجتمع، وليس هناك أدنى شك بأن عملية النضال للخروج من التخلف إلى مرحلة التقدم تتوقف بصفة أكيدة على جعل العلم والعلماء قوة إنتاجية حقيقية و ليس كلاما.
و إذا كنت قد طرحت المشكل في بداية العنوان و تساءلت: أين هو الدور الإبداعي لرجال العلم في الجزائر؟ فقد أردت أن أوضح أن عملية الإبداع في كل تخصص في بلادنا متجمدة للأسباب التالية :
1. غياب الرؤية المستقبلية : و الاستراتيجية الهادفة و الرامية لتحديد معالم الطريق، و السبب في ذلك أن جولتنا تعتمد على الجهاز البيروقراطي (الذي ينحصر دوره في التنفيذ) و الذي يتعامل مع مشاكل الساعة، و لا تعتمد بصفة ملموسة، على جهاز الخبراء و المستشارين الذين ينصب تفكيرهم في الاستراتيجية البعيدة المدى. وهكذا كان من المفروض أن يتم تجنيد العناصر ألوطنية في الجامعات، وأذكى العقول لكي تعكف وتنقطع للتفكير و التخطيط على المستوى الاستراتيجي و التكتيكي في كل المجالات، وهذه العملية ضرورية و لازمة لمصالح دائمة تتعدى شواغل الساعة و تتخطاها.
2. تهميش المثقفين و الأخصائيين المبدعين :
بحيث لا تكون لهم فعالية اجتماعية و لا يمكنهم أن يشكلوا قوة وطنية تعتبر ضمير الأمة الحي و المعبر عن شواغل و تطلعات المواطنين. وبعبارة أخرى، إن الرجل المتخصص وصاحب المعرفة الغزيرة في أي ميدان معين، لا يمكنه توظيف تلك المعرفة في مجال عمله لأن المثقف الذي يملك أفكارا لا يملك في معظم الحالات وسائل تجسيدها أو القدرة على اختبارها في الحياة العملية. وإذا أراد أن يقوم بتجريب أفكاره فعليه أن يتقرب و يخضع لمن يملكون الوسائل. و يتحول في هذه الحالة إلى تابع وتحت رحمة غيره، وليس مبدعا .
3. استعمال أسلوب عقيم في العمل:
حيث نهتم بالشكل و لا نبالي بالجوهر، فالمفروض أن نركز على نجاح خطط العمل، و نتابع تنفيذها، و إذا اكتشفنا أخطاء بها، نسرع إلى تصحيح المسار و عدم الاستمرار في المسار الخاطئ. لكن الشيء الذي يحصل عندنا أننا نحرص على احترام القوانين ، ولو كانت تلك ألقوانين عقيمة و معرقلة لتحقيق الأهداف المرسومة، أي أن القوانين الجامدة تعتبر مقدسة، و جوهر العمل ثانوي، ولا مانع في فشل الخطط التي تخنقها القوانين لأن المحاسبة تكون على مدى احترام القوانين و ليس على تحقيق الأهداف المرسومة، في حين أنه كان من المفروض أن نركز على فكرة تحقيق الخطط المرسومة، و إذا كان هناك إشكال في تحقيق ذلك، فلابد من تعديل القوانين في الحال لكي تستقيم الأمور، لأن القوانين هي عبارة عن إجراءات لتسهيل العمل ليس لخنقه، و نفس الأسلوب العقيم نراه في اختيار الأشخاص لمناصب عليا في الجامعات و المعاهد و المؤسسات الحيوية، إذ تقوم الدولة بتحويل الشخصيات السياسية المبعدة من مناصب وزارية أو قيادية بسبب ارتكابها لأخطاء واضحة أثناء أداء مهامها، إلى مناصب أخرى في مؤسسات حيوية من مؤسسات الدولة، في حين أنه كان من المفروض أن لا يوظف أي إنسان إلا بعد أن يثبت نجاحه في مناصب أخرى و يثبت فيها بعد أنه نجاح في المهام المسندة إليه، و بذلك يكون أهلا للترقية و التعيين في منصب قيادي جديد، ومعنى هذا أننا نسد الباب في وجه الإنسان المبدع و نفسح المجال للإنسان الفاشل لكي يكون تجربته الفاشلة في مؤسسة أخرى.
4. عدم تعريف أبناء الشعب بالحقائق :
في غياب الحقائق يصعب خلق التأثير و التوجيه السليم لسياسة البلاد، و ليس هناك شك بأن هذه هي المشكلة الرئيسية التي تخلق البلبلة في أذهان الناس و تجعلهم يقومون بالتخمين و الاستماع إلى الشائعات و إلى الإذاعات الأجنبية التي تبث أخبارا مسموعة ومشككة في سياسة بلادنا .
والسؤال المطروح: كيف يحصل المواطنون على المعلومات و الحقائق و على ما يجري في البلاد وما هو في أذهان المسؤولين ؟ إن الجماهير تتعرف على ما يجري في البلاد من خلال أجهزة الإعلام و خاصة التلفزة التي تنقل إلى المواطنين كل ما ينبغي أن يعرفوه و هم جالسون في بيوتهم، إن هذه الآلة السحرية المسماة بالتلفزة هي التي تنقل للناس ما يجري في الدنيا من اختراعات وتطورات و مسائل تشغل بالهم، و في الواقع أن هذه الوسيلة الإعلامية لا تكفي ببث برامج التسلية والرقص والغناء، وإنما تنقل إلى أذهان المواطنين ما يؤثر في العقول و الأفكار و المصالح التي تشغل بال الناس، وعليه فإن تحويل أجهزة الإعلام إلى وسائل لنشر البلاغات و الأخبار التي تنقلها وكالات الأنباء، هي التي تثبط عزائم المبدعين بسبب عدم الاستعانة بهم لسد الفراغ، وبالتالي حجب الحقائق الموضوعية عن المواطنين .
5. وجود جامعات ومعاهد معزولة عن أهدافها الاجتماعية ، ولا تلعب الدور الإيجابي في تأهيل الشباب و تدريبهم للوظائف المهنية و العملية التي تتماشى واحتياجات البلاد. وكما لا يخفى على أي إنسان، فالمعاهد في الجامعات تضع برامجها في غرف مغلقة، و القطاعات المستخدمة للمتخرجين تأخذ ما هو موجود في سوق العمل بشرط أن يحمل شهادة جامعية فقط حتى لا يحرجها من ناحية الراتب. و يأخذ حقه حسب مقاييس القانون العام للعامل ! ثم إن الجامعات تحبذ تدريس النظريات العلمية أما الجوانب التطبيقية لهذه النظريات العلمية فلا أهمية لها، و الغلط هنا أن العلم الذي لا يتحول إلى منفعة عملية تؤثر في مناهج الحياة كل يوم لا يمكنه أن يتغلغل في بنيان المجتمع و لا يؤثر في القوى المتفاعلة فيه، كما يضاف إلى هذه المعضلة قضية أخرى، وهي أن الجامعات عاجزة عن عقد الندوات العلمية و التدريبية و تحديد معلومات الشباب سواء في المؤسسات التعليمية أو المؤسسات الاقتصادية و لذلك يتجمد الإبداع و تتحجر الأفكار.
6. انعدام بيوت الخبرة الاستشارية التي تقدم النصيحة و التقييم الموضوعي لكل مشروع حكومي أو خاص و هذا يدل على عدم إعطاء قيمة للدراسات المعمقة و الحصول على الرأي المحايد من جهات مختصة و عندها تجربة ميدانية، و على سبيل المثال، لقد أقامت الدولة معهد الدراسات الاستراتيجية، وأنا أتساءل أين هي دراساته؟ من هي الوزارات التي قدمها للجزائر؟.ونفس الملاحظة يمكن إبداؤها تجاه المجلس الأعلى للغة العربية، فإن هذه المؤسسات الحكومية (العقيمة) هي التي ساهمت ولازالت تساهم في تجميد الإبداع الجزائري لأنها لم تأت للاتقاء بالمستوى العلمي للدراسات و إنما جاءت لخلق وظائف لبعض النوع من المؤسسات قد يحل مشكلة البطالة لكنه لا يحل قضية الإبداع.
7. تغليب الاعتبارات السياسية على الاعتبارات العملية ، و يتجلى هذا بوضوح في مسألة تعيين الموالين لأشخاص يحتلون مناصب قيادية، بدلا من الاعتماد في التعيين على الكفاءات الشخصية لكل مرشح لوظيفة علمية أو منصب عال. فعلى سبيل المثال، إنه يصعب على الإنسان أن يفهم لماذا كل وزير يأتي إلى وزارة معينة يقوم بتعيين أحد أصدقائه في منصب الأمين العام للوزارة حتى و لو كان لا يتقن اللغة العربية ! مع العلم أن حكومتنا قد قررت تعريب العلوم الاجتماعية (والعلوم الدقيقة فيما بعد). والسؤال المطروح: كيف يمكن أن يزدهر الإبداع في الجامعات و المعاهد إذا كان كبار الموظفين في الوزارات لا يتقنون اللغة العربية التي أقرها الدستور الوطني لبلادنا ! .
8. انعدام المصداقية و الاستمرارية في منهج واحد، و نقصد بذلك أن الدولة عندما تقرر أن تلتزم بعمل أي شيء، فعليها أن توفي بذلك و تلتزم بما تقرره، لأن الشباب يقرر مستقبله و مصيره بناء على قرارات الدولة، و بدون شك فإن قرار وزارة التربية بإنشاء المدرسة الأساسية وتعريب مواد التدريس و التخلص من الإزدواجية في التعليم، قد دفع بالكثير من الآباء أن يحثوا أطفالهم على تعلم اللغة العربية و إتقانها حتى يواصلوا بها دراساتهم التربوية في المستقبل لكن النقاش الذي دار حول المنظومة التربوية في هذه السنة (1988) يوحي بأن المسؤولين في وزارة التعليم العالي قد لا يحترمون رغبات التلاميذ المتخرجين من الثانويات في عام 1989 ، وقد يضطرون إلى مواصلة دراساتهم الجامعية باللغة الفرنسية بدلا من اللغة العربية التي تعلموا بها في الثانويات الحكومية ! وهذا يعني تعجيز التلاميذ وعبث حكومتهم بمصيرهم. ثم كيف يمكن للتلاميذ أن يبدعوا بلغة غير اللغة التي تعلموا بها و يتقنوها .
9. صعوبة الاقتداء بالقيادة ، و نعني بذلك أن عملية الإبداع عملية مرتبطة بالتكوين و الاحتكاك و اكتساب المهارة من الأساتذة و الرؤساء في العمل و المشرفون على التوجيه الذين يعتبرون هم القدوة لغيرهم. فإذا نحن وضعنا الرجل المؤهل علميا في الوظيفة التي يستحقها فإننا نكون بذلك قد ساهمنا في كسب الخبرة و المهارة على يده، ونتعلم منه النزاهة و الجدية في العمل. وبهذا نستفيد من رصيده العلمي، ثم نقوم بإثرائه و إضافة ما هو جديد، وبالتالي فإن القائد في مثل هذه الحالات يدفع الناس إلى الاقتداء به و عدم الانحراف عن الخط المرسوم. وفي مثل هذا المناخ ينتعش الإبداع ، و تصرف كل الطاقات في العمل البناء. أما إذا كان المسؤولون يعينون بناء على اعتبارات خاصة، فإن تلك العدوى تنتشر إلى المعاونين، و يصعب على الإنسان أن يجد من يقتدي به و بمثله العليا .
وباختصار، فإن توفر البيئة المحفزة للعمل، تساعد على ازدهار عملية الإبداع في كل قطاع بحيث يمكننا أن نرى برامج جديدة في التلفزة يعدها كتاب لهم كفاءة عالية ويقبل الناس على مشاهدتها و الاستفادة منها ، ذلك مقالات ثرية في الصحافة الوطنية لا تدفع الناس أن يتسابقوا لقاراءتها بدلا من قراءة الصحف الأجنبية ، فالشيء المهم، هو توظيف الطاقات البشرية و المادية الموجودة ببلادنا و استخدامها بفعالية لتحقيق النوعية في العمل و الجودة في الإنتاج و القدرة على مواجهة الصعاب .
وإذا تعذر علينا استثمار هذه الطاقات الإنسانية و الاعتماد عليها لتحقيق المطالب الشعبية في بلادنا ( لسبب من الأسباب) و انعدمت الرغبة في الاستفادة منها أو تقرر الاستغناء عنها. فلماذا لا توظفها في الخارج و خاصة في الدول التي أظهرت رغبتها في الاستفادة من جميع الطاقات لتحقيق رغبات أبنائها ؟ لماذا لا نقتدي بتجارب أبناء بعض الدول الذين تفطنوا لهذه الفكرة و قاموا بتوظيف كل طاقاتهم العلمية في الخارج وهم الآن منتجون و يقومون بتمويل مشاريع التنمية في بلدانهم الأصلية ؟
وفي الأخير أرجو أن لا يفهم القارئ الكريم بأنني أحاول تبرير عجز المفكر الجزائري عن الإبداع في مجال تخصصه. وكل ما أردت أن أقوله لإخواننا الوطنيين المخلصين والتواقين لنهضة هذا البلد ورفع شأنه والذين ينتقدون المثقف الجزائري باستمرار ويتهمونه بالتقصير وبعدم القدرة على الإبداع واضمحلال مساهمته في إخراج الجزائر من طور التخلف إلى طور التقدم، بأن الرجال الجزائريين المبدعين موجودون بكثرة، وأن في حوزتهم مهارات راقية ، لكن مثلما يقول المثل العربي: إن العين بصيرة …. واليد قصيرة .
( * )بحث منشور في جريدة الشعب ( الجزائرية ) ، العدد 7812 ، الصادر ييوم 17 ديسمبر 1988 ،ص 5.
* : دراسة منشورة في جريدة الشعب (الجزائرية ) ، العدد 782 ، الصادر يوم 17 ديسمبر 1988 ، ص 5 .