الأبعاد السياسية والقانونية والثقافية للهجرة
إن الحديث عن هجرة الجزائريين إلى فرنسا وإلى بعض الدول الأوروبية يعتبر في نظرنا حديثا ذو شجون لأن المغتربين الجزائريين بفرنسا يعانون من مشاكل اجتماعية وتعليمية لا حصر لها. وتتمثل مشاكلهم في انتمائهم إلى مجتمع عربي إسلامي مختلف عن المجتمع الأوروبي المسيحي حيث نجد عمال إسبانيا والبرتغال وبولونيا يتلقون المساعدة والتفاهم من طرف إخوانهم الكاثوليكيين في حين نجد أن الجزائريين يشعرون بالغربة والضياع نتيجة لعدم تخليهم عن قيمهم العربية الإسلامية. فانتماؤهم إلى ثقافة غير أوروبية جعلهم يعتبرون بمثابة جنس ليس في مستوى الجنس الأوروبي المتحضر. وإذا كان ليس من ذنب فرنسا أن يكون العمال الإيطاليون والبرتغاليون والإسبانيون والبولونيون المهاجرون إليها فقراء ويعيشون في بؤس فإنها تعتبر مذنبة في حق الجزائريين الذين أجبرتهم الظروف القاسية على مغادرة الجزائر والبحث عن مكان آخر للرزق نتيجة للسياسة التعسفية التي أتبعتها الإدارة الفرنسية بالجزائر طوال 130 سنة من الاحتلال، وليس هناك جدال بأن سياسة التجويع وكبت الحريات وحرمان الأطفال الجزائريين من الثقافة والتعلم قد نفذتها الجالية الأوروبية في الجزائر بتواطئ مع الحكومات الفرنسية في باريس، لهذا فإنه يتعين على فرنسا اليوم أن تتحمل جزء من مسؤولياتها تجاه هؤلاء الشبان الذين كانت تعتبرهم رعاياها لكنها أهملت مستقبلهم وتركت أبنائهم مثلما تركت آبائهم بدون ثقافة أو مقدرة على كسب العيش(1).
وفي الحقيقة أن الحكومة الجزائرية قد أعطت أهمية كبيرة لرعاياها في المهجر وحاولت أن تنشئ منظمة وطنية جزائرية في فرنسا لكي تقدم إليهم الخدمات وتساعدهم على حل مشاكلهم الاجتماعية التي تواجههم سواء في فرنسا أو في داخل الوطن. كما أن الحكومة الجزائرية قد قامت بمجهودات معتبرة للحد من الهجرة إلى فرنسا ومراقبتها والتحكم فيها وذلك منذ 1964، أي يوم قررت الحكومة الفرنسية إغلاق باب الهجرة في وجوه الجزائريين وزعمت أنها اتخذت هذا القرار بسبب استجابة العمال الجزائريين وقبولهم للعروض المقدمة إليهم بشأن العمل لأن ذلك حرم العمال الفرنسيين من حق المطالبة بالزيادة في الأجور والحصول على رواتب عالية. كما ادعت فرنسا أن أغلبية العمال الجدد غير أكفاء أو غير مؤهلين للعمل وتنقصهم الخبرة والمهارة الفنية.
وبعد دراسة عميقة للواقع، اتفقت الحكومتان الفرنسية والجزائرية في شهر أفريل من عام 1964 على السماح للطلاب والتجار والسواح الجزائريين بالتوجه إلى فرنسا بدون تأشيرة دخول ولكن لا يحق لهم الإقامة أكثر من ثلاثة أشهر. أما بالنسبة للعمال فلا يمكن أن يلتحق بفرنسا أكثر من 12000 عامل كل سنة. كما وافقت الجزائر على إنشاء مكتب وطني لليد العاملة حيث تعطي له الصلاحيات لاختيار العمال الذين يمكنهم التوجه إلى فرنسا وذلك بمنحهم بطاقات تخول إليهم الهجرة إلى فرنسا. لكن هذا الاتفاق لم يدم طويلا وذلك بسبب إقدام فرنسا على طرد حوالي 4000 عامل في سنتي 1963 و 1964 بدون استشارة المسؤولين الجزائريين أو إثارة هذه القضية معهم. كما أظهرت الجزائر استيائها من الطريقة السمجة التي كان يتبعها البوليس الفرنسي في معاملة الجزائريين الموجودين بالأراضي الفرنسية. ثم إن فرنسا تضايقت هي الأخرى من قدوم عدد كبير من الجزائريين إلى فرنسا كسواح ثم يبحثون عن عمل ويحاولون الاستقرار حالما يصلون إلى هناك.
وفي يوم 28 ديسمبر 1968 اتفقت فرنسا والجزائر على تعديل اتفاق 10 أفريل 1964 بحيث ثم الاتفاق على السماح للجزائر بارسال 35000 عاملا بدلا من 12000 وتسهيل تنقل الجزائريين إذ أنه في إمكانهم القيام بزيارة إلى بلدهم ثم العودة إلى فرنسا بكل بساطة والمطلوب منهم فقط هو إظهار وثيقة الراتب الشهري التي تثبت قيامهم بنشاط معين. وبالنسبة للمهاجرين الجدد فإن المكتب الوطني الجزائري لليد العاملة هو الذي يتولى اختيار العدد المتفق عليه والسماح لهؤلاء الخمسة والثلاثين ألف بالتوجه إلى فرنسا. وفي جميع الحالات، فإن الحكومة الفرنسية والحكومة الجزائرية لا تتحملان مسؤولية البحث أو إعطاء ضمانات بأن المهاجر سيجد عملا يقوم به عندما يصل إلى فرنسا وكل ماهو مطلوب منه أن يحصل على عمل خلال مدة محدودة من الوقت لا تتجاوز 9 أشهر. وبمجرد أن يجد عملا في إحدى الشركات فإنه يحق له أن يحصل على بطاقة الإقامة في فرنسا لمدة 5 سنوات، وفي حالة ما إذا أخفق العامل المهاجر في العثور على عمل خلال 9 أشهر، فإنه مجبور على العودة إلى الجزائر على حسابه الخاص.
مساهمات العمال المغتربين في خدمة الجزائر:
إذا كانت سياسة الجزائر تقوم في الوقت الحاضر على مساعدة العمال المغتربين وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، فإن ذلك يعتبر مكافأة للعمال المغتربين على الدور الإيجابي لهم في بناء الدولة الجزائرية. ولعل المساهمة الرئيسية للعمال المغتربين في خدمة وطنهم هي أنهم نقلوا صورة واضحة لمأساة شعبهم خلال فترة الاحتلال إلى الشعب الفرنسي الذي دأبت الدعاية الفرنسية على تزويده بحقائق مشوهة عن الجزائر. إن حالة المغتربين البؤساء وحرمانهم من الحقوق السياسية سواء في بلدهم الجزائر أو في فرنسا ذاتها قد دفع بكثير من أصحاب الضمائر الحية أن يتساءلوا عن مستقبل الشعب الجزائري الذي يعتبر سكانه من الناحية النظرية فرنسيين ولكنهم يخضعون من الناحية الواقعية لشرذمة من المنبوذين الأوروبيين الذي جعلوا من أنفسهم أوصياء على سكان أرض الجزائر.
والمساهمة الثانية للعمال تتمثل في تلك المظاهرة الصاخبة التي نظمها المهاجرون الجزائريون بالعاصمة الفرنسية يوم 17 أكتوبر 1961. لقد عبروا في تلك المسيرة الهائلة عن رغبة جميع أبناء العب الجزائري في التحرر من الهيمنة الاستعمارية، وأثبتوا أن الجزائريين أينما كانوا في الغربة أو الجبال لا يختلفون في مبدأ حصول الجزائر على استقلالها والانفصال عن فرنسا. وقد سجل التاريخ هذه الحقيقة بحروف بارزة حيث أدركت القيادة الفرنسية مغزى تلك المظاهرة الشعبية وأعلنت بعد أربعة أشهر من ذلك التاريخ بأنها تعترف باستقلال الجزائر وذلك في شهر مارس من عام 1962.
والمساهمة الثالثة هي مد جيش الجبهة التحرير بالأموال التي كانت تستعمل لشراء الأسلحة وتزويد الثوار بما يحتاجونه من مئونة وأغذية لأن العمال المغتربين هم الفئة الوحيدة التي كان لها مدخول شهري متواصل.
والمساهمة الرابعة هي تكوين منظمة جزائرية في فرنسا تشرف على توجيه أبناء الجالية الجزائرية بأوروبا وتزودهم بأخبار الوطن من خلال نشارتها الدورية(2). وقد أنشات “ودادية الجزائريين” حسبما ينص عليه القانون الفرنسي الصادر في أول جويلية 1961 الذي حدد فيه نوع النشاطات التي يمكن للجمعيات الأجنبية القيام بها في فرنسا. ومنذ إنشاء هذه المنظمة عقد الاستقلال الجزائر في سنة 1962 والملتقيات السنوية تعقد في إحدى الجهات بفرنسا لبحث قضايا المهاجرين ودراسة إمكانيات تدعيم الروابط الوثيقة بينهم وبين وطنهم. وفي شهر جانفي من عام 1973، قررت الودادية عقد مؤتمرها السنوي بالجزائر العاصمة حيث أشرف على افتتاحه آنذاك السيد رئيس هواري بومدين رئيس مجلس الثورة والحكومة واقترح في الخطاب الذي ألقاه على 300 إطار من المغتربين إنشاء مركز ثقافي في فرنسا وذلك من أجل اتاحة الفرصة لأبناء المهاجرين للحصول على ثقافة عربية. وعندما انعقد بالجزائر العاصمة في سنة 1964 أول مؤتمر لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائري بعثت ودادية الجزائريين بأوروبا بوفد يتكون من 70 منذوبا لتمثيلها في ذلك المؤتمر الوطني. وبصفة عامة، فإن الدور الهام الذي تقوم به الودادية في وسط المغتربين الجزائريين بفرنسا يمكن تلخيصه فيما يلي:
- زيارة المرضى في المستشفيات الفرنسية.
- القيام بدور الوسيط بين السلطات الفرنسية والمغتربين في حالة بروز مشاكل خطيرة.
- البحث عن عمل للعاطلين.
- تمكين العمال من الحصول على الوثائق الهامة.
- إعانة العمال في ميدان القضاء بتقديم النصائح لهم عندما تعرض قضاياهم على المحاكم الشرعية.
- تنظيم رحلات ثقافية لأبناء المغتربين.
- تشجيع العمال على التخصص في مهن واكتساب خبرة فنية عالية.
- تسيير بعض الفنادق والبيانات التي أنشئت خصيصا لتسكين العمال المهاجرين.
- الإشراف على مراكز ثقافية وتعليم العربية والفرنسية بمدارس ليلية (أي محو الأمية).
- القيام بدور إعلامي وتوجيهي في المراكز التي أنشئت بأغلب المدن الفرنسية والجزائرية.(3).
وقد لاحظ كاتب هذا البحث خلال زيارته لبعض مراكز الودادية بفرنسا أن هناك بعض النشاطات الثقافية والإعلامية التي تنظم أسبوعيا بقصد إطلاع العمال على المنجزات الصناعية بأرض الوطن وشرح القوانين والاتفاقيات التي تربط بين الجزائر وفرنسا. وبدون شك، فإن مثل هذه المبادرات من طرف قادة الودادية تعتبر حسنة للغاية حيث تساهم في تثقيف العمال وإفادتهم بمضمون التشريعات الجديدة التي لها علاقة مباشرة بإقامتهم في الأراضي الفرنسية. ومن الأشياء التي أثارت انتباهنا في هذه الملتقيات الثقافية والإعلامية أن العمال يتمتعون بمقدرة هائلة في مناقشة المواضيع التي تطرح على بساط البحث في الاجتماعات الأسبوعية، ويبدوا أن معظمهم كانوا يحرصون جدا على عرض آرائهم وإبراز وجهات نظرهم في بعض القضايا الحيوية بالنسبة للجزائر وبذلك يكونوا قد ساهموا في تفادي الأخطاء التي وقعت في الماضي وتجنبها في المستقبل.(4)
مجهودات الجزائر لتعليم أبناء المغتربين:
في نهاية 1981 قامت الجزائر بمبادرة جديدة تهدف إلى المحافظة على الهوية العربية لأبناء المغتربين الجزائريين بحيث توفر لهم التعليم باللغة العربية وتفسح المجال للشباب لكي ينالوا قسطا من التعليم باللغة العربية وهم في المهجر. وانطلاقا من هذه الرغبة، أبرمت حكومة الجزائر وحكومة فرنسا اتفاقا بتاريخ فاتح ديسمبر 1981، على أن يتم تطبيق بنود هذا الاتفاق في العام الدراسي 1982-1983، وينص هذا الاتفاق على التزام الحكومة الجزائرية بتحمل الأعباء المالية وارسال المعلمين من الجزائر ووضع برامج التدريس الخاصة باللغة العربية، والتلاميذ لا يدفعون أية رسوم مالية، وقد تم الاتفاق بين الحكومتين على مايلي:
- أن تكون مادة اللغة العربية التي تدرس في المدارس الفرنسية مادة اختيارية وليس إجبارية.
- أن تكون ساعات التدريس في حدود ما يسمح به القانون أي لا يتجاوز 27 ساعة في الأسبوع (حسبما ينص القانون الفرنسي).
- تفتح المدارس الفرنسية أقساما لتدريس اللغة العربية في حالة وجود 50 تلميذا أو أكثر.
- لا يتجاوز. عدد ساعات تدريس اللغة العربية 3 ساعات في الأسبوع.
- تقوم الجزائر بدفع تكاليف الكتب والأساتذة الذين يتم انتدابهم من الجزائر للقيام بهذه المهمة العلمية.(5)
وتنفيذا لهذا الاتفاق قامت الجزائر في بداية السنة الدراسية 1982-1983 بإرسال حوالي 300 معلم لتدريس اللغة العربية لأبناء المهاجرين. ونظرا لرغبة العمال وتصميمهم على العودة إلى الجزائر بعد الوصول إلى سن التقاعد، فقد كان هناك إقبال كبير على تعلم اللغة العربية بحيث وصل عدد التلاميذ المسجلين في البداية إلى حوالي 35000 تلميذ. كما أظهر أبناء العمال رغبة كبيرة في مزاولة الدراسة وإجادة لغتهم العربية. إلا أن الأوضاع الصعبة التي مرت بها الجزائر بعد انخفاض أسعار البترول في سنة 1985، واضمحلال فرص العمل بالجزائر واستفحال التزايد الدمغرافي، قد قللت، على ما يبدو، من عودة نسبة كبيرة من العمال المهاجرين إلى بلدهم. ولعل هذه ما دفع بالعمال وأبنائهم إلى عدم الإقبال بحماس على تعلم اللغة العربية بالمدارس الفرنسية حيث تدل الإحصائيات بأن عدد التلاميذ الذين سجلوا أنفسهم بمادة اللغة العربية قد انخفض من 35000 في عام 1982 إلى 15000 تلميذ في سنة 1990.
وهناك بعض الخبراء الذين يفسرون تقلص عد التلاميذ إلى أقل من النصف بالصعوبات التي يواجهها التلاميذ الذين عندهم رغبة لتعلم اللغة العربي. ومن جملة هذه الصعوبات:
- تضارب في توقيت تدريس اللغة العربية مع مواد إجبارية وأساسية.
- وجود برامج مكثفة لمواد أساسية لا يسمح للتلاميذ بإضافة مادة اللغة العربية.
- القوانين الفرنسية لا تسمح بأكثر من 27 ساعة في الأسبوع.
- الأساتذة يشجعون التلاميذ على الاهتمام بالمواد الأساسية وعدم إعطاء أهمية للمواد الاختيارية.
وكيفما كان، فإن مسألة تعليم العربية في المدارس الفرنسية تعتبر عملية صعبة وذلك نظرا لكثافة المواد المقررة على التلاميذ وعدم وجود وقت كافي لتعليم التلاميذ. وقد حاول المشرفون على عملية تعليم اللغة العربية للتلاميذ أن يخصصوا وقتا إضافيا في أيام العطل أو الأيام التي يوجد فيها فراغ، لكن المشكل هو أن البرامج تصير ثقيلة على التلاميذ ومرهقة لهم.
وفي نفس الإطار، اتفقت الجزائر مع فرنسا على تنظيم دروس ليلية للراغبين في تعلم اللغة العربية، لكن هذه التجربة أثبتت عدم جدواها وذلك بسبب المسافات البعيدة عن مراكز التدريس، وعودة العمال أو التلاميذ إلى البيت وهم مرهقون من أعمالهم طول النهار.
ونستخلص من تجربة الجزائر في تعليم اللغة العربية لأبناء العمال المهاجرين أن محاولة إقحام تدريس اللغة العربية في المدارس الفرنسية تعتبر عملية غير مجدية وذلك نظرا لعدم إدراج اللغة العربية في المدرسة الفرنسية بصفة منتظمة وتحفيز التلاميذ لدراستها، كما ان التلاميذ يركزون على المواد الأساسية لكي يتخرجوا ويلتحقوا بالجامعات التي تدرس باللغة الفرنسية فقط. وعليه، فاللغة العربية لا تحظى بأي دعم مادي أو معنوي من طرف المسؤولين الفرنسيين، والتلاميذ لا يجدون أي حافز لتعلم لغة أبائهم وأجدادهم والمحافظة على شخصيتهم العربية الإسلامية.
الواقع والآفاق:
إنه لمن الواضح أن وجود900.000 مهاجر جزائري بفرنسا في الوقت الحاضر وكذلك حوالي 700.000 مهاجر مغربي وما يقارب 500.000 تونسي بالمهجر، يتطلب من قادة دول المغرب العربي التفكير جديا في إنشاء مدارس مشتركة لأبناء العمال المهاجرين وذلك على غرار ما تفعل فرنسا في الأقطار الثلاثة حيث توجد مدارس تلقى فيها الدروس باللغة الفرنسية وفقا لبرنامج التعليم في فرنسا. إن وجود حوالي 2 مليون من أبناء المغرب العربي في فرنسا يدفعنا إلى التفكير في العمل من أجل حماية الشباب العربي من الذوبان في بوثقة الحضارة الفرنسية والتخلي عن الشخصية العربية. إن تشتت مجهودات الدول المغاربية لتعليم أبناء مغتربيها لا يخدم مصلحة أية دولة بل يتعين على دول المغرب العربي أن تتظافر جهودهم من أجل إنقاذ أبناء الجاليات المغاربية في فرنسا.
ولعل النقطة التي لا يستوعبها تلاميذ أبناء المهاجرين العرب في فرنسا هي أن معظم الجاليات الأجنبية المقيمة في فرنسا قد استطاعت أن تقيم مدارس خاصة لأبناء الجاليات الأجنبية التي تقل عددا عن جاليات المغرب والجزائر وتونس، في حين نجد أن العرب لم يتعاونوا فيما بينهم ويقيموا مدارس للأفراد الذين ينتمون إلى الأمة العربية. إن المدارس الإنجليزية والأمريكية والاسبانية والبرتغالية والإيطالية والألمانية موجودة بكثرة في فرنسا وكل مواطن من مواطني هذه الدول يستطيع أن يبعث بابنه إلى المدرسة التي تدرس لغته وحضارته وأصالته وبرامج بلاده، والاستثناء لهذه القاعدة هي الدول العربية التي لم تتوفق في إنشاء مدارس تجمع شمل أبناء لغة الضاد.
وإذا لم تتمكن دول المغرب العربي من تأسيس مدارس خاصة بتدريس المواد باللغة العربية لأبناء المهاجرين المغاربين في فرنسا، فإن الإنسان يتساءل هنا: لماذا لا تتفاوض دول المغرب العربي مع فرنسا بشأن تدريس اللغة العربي في المدارس الفرنسية بصفة رسمية وتتحمل فرنسا جميع المصاريف؟ لماذا تقوم دول المغرب بالمحافظة على اللغة الفرنسية وتدريسها لحوالي 15 مليون تلميذ وطالب في دول المغرب العربي وتدفع تكاليف تدريس اللغة الفرنسية من خزائن هذه الدول في حين ترفض فرنسا فسح المجال لتدريس اللغة العربية في مدارسها؟
إن الإجابة على هذين السؤالين يتطلب منا أن نلفت انتباه قادة المغرب العربي إلى أن مستقبل التعاون الفرنسي – المغاربي يتوقف على إقناع قادة فرنسا بأن عناية دول المغرب الغربي باللغة الفرنسية وتدريسها في مدارسهم يتطلب عناية مماثلة من طرف فرنسا باللغة العربية التي هي اللغة الوطنية لهذه الدول. كما أن الموقع الجغرافي يفرض على العرب وفرنسا أن يكون هناك تعاون حقيقي يخدم المصالح الاقتصادية والثقافية للطرفين. إن إقامة هذا الجسر للتعاون بين دول المغرب العربي وفرنسا يساعد ويدعم إقامة جسر آخر للتعاون بين أوروبا والقارة الإفريقية، إنه من مصلحة الفرنسيين أن يدرسوا اللغة العربية في مدارسهم حتى يتخرج من تلك المدارس المتخصصون في الشؤون العربية الذين يعملون على دعم التقارب العربي الفرنسي في كل المجالات.
وليس هناك جدال بأن بين الوجود العربي يتعزز باستمرار في فرنسا ولابد من دعمه عن طريق إنشاء مدارس عربية هناك سواء بدعم من فرنسا أو من المهاجرين المقيمين في فرنسا والذين عندهم رغبة قوية لتعليم أطفالهم لغة الآباء والأجداد، أو بدعم من دول المغرب العربي التي لم تتوفق حتى الآن في القيام بعمل مشترك يخفف عنها الأعباء المالية ويمكنها من المحافظة على الهوية العربية لرعاياها في المهجر. إن دول المغرب العربي، تستطيع أن هي أرادت أن تتعاون فيما بينها وتزود المدارس التي تدرس باللغة العربية بتقديم الدعم في الأساتذة والبرامج وتقضي على البطالة الموجودة أو العدد الفائض من الأساتذة في هذه الدول. كما أن الجاليات العربية في أوروبا تستطيع أن تساهم في إنشاء مدارس عربية مادامت القوانين تسمح بذلك ولا يوجد إشكال من الناحية القانونية.
ومادامت الجاليات العربية متواجدة بكثرة في باريس، فمن الأفضل لو تكفلت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ببناء مدارس عربية تساهم فيها جميع الدول العربية والجاليات العربية بالمهجر، بالإضافة إلى مساهمة مالية من هذه المنظمة. وإذا كان المسلمون يتعاونون ويتبرعون لبناء المساجد في روما ولندن وباريس، فلماذا لا تتعاون الدول العربية فيما بينها لبناء مدارس لحماية أبناء المهاجرين من الذوبان في قيم حضارة المجتمعات الغربية؟ وإذا كان اليهود يتعاونون فيما بينهم ويقيمون المدارس في كل بلد لحماية لغتهم وتراثهم، فلماذا نعجز نحن العرب عن حماية أبنائنا في المجتمعات الغربية وصيانة تراثنا وحضارتنا. إن المحافظة على ولاء الجيل الصاعد لأمتنا العربية وانتمائه إلى الأمة العربية يتوقف على اهتمامنا به وغرس القيم العربية الإسلامية في ذهنه.
إن تعليم اللغة العربية لأبناء المهاجرين يعتبر استثمارا مثمرا بالنسبة للمستقبل. فإذا كانت فرنسا تقوم اليوم بتثقيف شبابنا وتساعد على تعلم اللغة الفرنسية فلأن ذلك يعود عليها بالفائدة حيث يقبل الشبان الذين يجيدون اللغة الفرنسية على شراء جرائدها وكتبها والتأثر بتوجهاتها وقضاء عطلهم بها. وليست أدري لماذا لا تقوم الدول العربية بعمل مشابه لعمل فرنسا ويتفاوضوا معها، وعليها أن تختار بين مواصلة تدريس لغتها بمدارسنا على أن تقوم هي من جهتها بتدريس لغتنا في مدارسها أو يتم إلغاء الفرنسية من برامجنا إذا هي رفضت مطلبنا، أي المعاملة بالمثل سواء في مجال فرض التأشيرات أو تعليم اللغات أو تسهيل المبادلات التجارية. هل حان الوقت، حقيقة، لكي نقول لفرنسا: لقد تحملنا تكاليف تدريس اللغة الفرنسية حتى الآن وحافظنا على هذه الثقافة وهذه اللغة في بلادنا، فهل في إمكان فرنسا الآن أن تتكفل ماليا وماديا بتعليم العربية لأبناء مهاجرينا؟ إذا كانت السياسة تقوم على أساس خدمة المصالح المشتركة لكل طرف، ينبغي على فرنسا أن تخدم الطرف العربي مثلما يخدم مصالحها منذ زمن طويل.
* بحث مقدم لمؤتمر انعقد بتونس تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (من 12-14 ديسمبر 1996).
(1) عمار بوحوش، العمال الجزائريون في فرنسا، الجزائر، الشركة والوطنية للنشر والتوزيع (الطبعة الثانية) 1979، ص 147.
(2) كانت تشرف ودادية الجزائريين بأوروبا على إصدار مجلة نسف شهرية تحت عنوان “الجزائري في أوروبا” من> 1964 ومجلة أخرى بالعربية تحمل اسم “آفاق عربية” والآن تصدر فقد مجلة “الاخبار” باللغة الفرنسية، أي سنة 1990.
(3) Amical des Algérien en Europe, Guide de l’Emigré, Paris : Amicale des Alégriens en Europe, 1986, pp. 16-17.
(4) عمار بوحوش، مرجع سابقت، ص 194.
(5) مصدر هذه المعلومات إدارة العلاقات الخارجية بوزارة التربية الوطنية الجزائر، ولا يفوتني أن أشكر المسؤولين في هذه الإدارة على تفضلهم بتزويدي بهذه الحقائق خلال اجتماعي بهم بتاريخ 28/10/1990.