الأستاذ الدكتور ناصر الدين سعيدوني كما عرفته
من لا يعرف الأستاذ الدكتور ناصر الدين سعيدوني لا يعرف تاريخ الإمبراطورية أو الخلافة العثمانية. لقد اشتهر الصديق الفاضل ناصر الدين بكتاباته الشيقة عن العثمانيين وعن دورهم في الجزائر سلبا وإيجابا. وفي البداية، تعرفت على دراسته وأبحاثه عندما كنت بصدد جمع المعلومات عن الجزائر في الفترة العثمانية بقصد الشروع في إعداد الفصول الأولى لكتابي عن “التاريخ السياسي للجزائر، من البداية ولغاية 1962 “ والذي نشرته دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة 1997. وقد شاءت الصدف أن يقوم بتقديم كتابي للقراء في طبعته الأولى سنة 1997، أي عندما كنا أستاذين في جامعة آل البيت، بالأردن.
لقاءات في اجتماعات المجلس الأعلى لجامعة الجزائر
معرفتي الحقيقية واختلاطي بالدكتور ناصر الدين سعيدوني كانت في اجتماعات المجلس الأعلى لجامعة الجزائر حيث كان يمثل معهد التاريخ وأنا أمثل معهد العلوم السياسية بجامعة الجزائر بصفتي رئيسا للمجلس العلمي للمعهد من 1986 إلى غاية 1992. وفي الحقيقة، أنني كنت ألاحظ في الاجتماعات أن الدكتور سعيدوني كان يتسم بالموضوعية والرزانة والسعي لإعلاء سمعة الجزائر. وبكل صراحة، فإن مواقفه كانت مماثلة لمواقفي، وكنا نساند بعضنا البعض ونتفق على الخطوات التي ينبغي القيام بها لتدعيم قضايا التعريب وتبادل الزيارات بين الأستاذة من جامعاتنا وجامعات المشرق العربي.
لقد لاحظت في اجتماعات المجلس الأعلى لجامعة الجزائر أن الدكتور سعيدوني يقوم باتصالات حثيثة بالأساتذة ويطلب منهم مقالات وأبحاث يمكن له نشرها بمجلة التاريخ التي كان هو رئيس تحريرها. واستجابة لرغبته في الحصول على دراسات في العلوم السياسية، قمت بإعداد دراسة عنوانها : ” خصائص الثورة الجزائرية مقارنة بالثورات الكبرى في القرن العشرين ” وهي منشورة بـ ” مجلة الدراسات التاريخية ” العدد رقم 8، 1993-1994، ص 105-115. كما طلب مني بعد عودتنا إلى جامعة الجزائر من جامعة آل البيت في الأردن سنة 1998، أن اكتب له دراسة أخرى لكي ينشرها بمجلة دراسات إنسانية. وبالفعل، سلمته بحثا بعنوان ” التطورات السياسية بالجزائر في عهد الرئيس أحمد بن بلة، 1962-1965″، والبحث منشور بالعدد الأول من مجلة “دراسات انسانية” سنة 2001، ص 149-177.
لقاءاتنا بجامعة آل البيت، الأردن (1996-1998)
أريد أن أؤكد هنا على حقيقة ذات أهمية كبيرة أن علاقتي بالأستاذ ناصر الدين سعيدوني تعمقت وازدادت ارتباطا غداة قيامنا بالتدريس في جامعة آل البيت بالأردن. ومنذ وصولي إلى جامعة آل البيت في جانفي 1996، تحاورت عدة مرات مع رئيس جامعة آل البيت الدكتور محمد عدنان البخيت، وكلمته عن الدكتور ناصر سعيدوني و عن إمكانية استقدامه إلى جامعة آل البيت، وشعرت أنه كان ينوي، أيضا، جلب الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله من الولايات المتحدة الأمريكية، وقلت له بصراحة أن الأولوية للدكتور سعيدوني لأنه يعيش في ظروف صعبة بالجزائر ويتعرض لاستهداف إرهابي بعد قبوله لإلقاء محاضرات في إحدى مؤسسات تابعة لرئاسة الجمهورية، وخاصة أن جيلالي اليابس قد ألقى محاضرة نقلتها التلفزة الوطنية وتعرض لعملية اغتيال. وبالفعل، فقد اخذ الدكتور محمد عدنان البخيت بملاحظاتي ووجه الدعوة إلى الدكتور ناصر الدين سعيدوني والتحق بجامعة آل البيت ابتداء من سبتمبر 1996، ثم التحق بنا الدكتور أبو القاسم سعد الله، وصرنا نحن الثلاثة الأساتذة المرموقين بجامعة آل البيت، وأكد هذه الحقيقة رئيس الجامعة الذي استقبل الرئيس ليامين زروال سنة 1997 وأكد له أن الجامعة تعتز بوجود 3 أساتذة جزائريين مرموقين بها.
وفي حفلة استقبال للجالية الجزائرية من طرف رئيس الجمهورية، التقينا عمار تو، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وأبدى إعجابه بنا وبالتنظيم الرائع لجامعة آل البيت، ووجه إلي دعوة لزيارته في الجزائر لكي يستفيد من هذه التجربة. لكن عندما عدت إلى الجزائر وطلبت مقابلته أجابني عن طريق رئيس التشريفات بأنه مشغول !!
المهم، أن الأساتذة الجزائريين الثلاثة، تم تعيينهم كأعضاء في مجلة ” منارة ” التي تصدرها الجامعة، وشاركنا بفعالية في إصلاح برامج التعليم العالي بجامعة آل البيت وأظهرنا لإخواننا الأساتذة في المشرق العربي كفاءة وجدية الأستاذ الجزائري.
وبصفتي رئيسا لقسم العلوم الإدارية بجامعة آل البيت ورئيسا للجنة العلمية بكلية الاقتصاد و العلوم الإدارية، كان يتردد على مكتبي باستمرار الدكتور ناصر الدين سعيدوني، ونذهب كل جمعة إلى الصلاة معا في مسجد قرب مسكننا بمدينة المفرق.
اللقاءات الأسبوعية في منازلنا
كل ليلة من ليالي الأربعاء، كنا نجتمع نحن الثلاثة : سعيدوني، بوحوش، سعد الله، في بيت أحدنا، نستمتع بالأكل الجزائري وبالحديث الشيق عن ما يجري في بلدنا وفي الجامعة وفي الدول العربية. إن هذا لم يحدث عندما كنا في الجزائر لكنه حدث عندما تواجدنا بالخارج. وأعترف أن هذه السهرات كانت من أحسن اللقاءات التي استمتعت بها في حياتي، لأننا تعرفنا على تجارب بعضنا البعض في التدريس والأيام الصعبة التي مررنا بها، والأيام السعيدة التي تمتعنا بها أثناء تدريسنا بجامعة الجزائر. ومن خلال هذه المحادثات والمناقشات اكتشفنا الجوانب الخفية في حياة بعضنا البعض.
رحلتنا إلى سوريا سنة 1998
في عطلة الربيع من سنة 1998 قمنا برحلة سياحية إلى سوريا وزرنا دمشق واللاذقية وحماة. وأعتقد أن هذه الزيارة قد مكنتنا، مع عائلاتنا، من التعرف على مخلفات العثمانيين في سوريا وخاصة في قلعة صلاح الدين باللاذقية وكسب وحماة. وبطبيعة الحال، فإن الأستاذ ناصر الدين سعيدوني هو الذي كان يشرح لنا ماذا حصل في سوريا أثناء الحكم العثماني. ومن يريد أن يعرف الصراع بين القوميين العرب والعثمانيين، عليه أن يراجع الأستاذ ناصر الدين سعيدوني في هذا الموضوع لأنه، في الحقيقة، عبارة عن انسكلوبيديا متحركة. وأثناء توقفنا في دمشق زرنا مسجد الأمويين وقبر صلاح الدين الأيوبي ومسجد السيدة زينب. وعندما انتهينا من زيارة مسجد الأمويين تعرفنا على المكان الذي يوجد فيه قبر يحي عليه السلام و قبر صلاح الدين الأيوبي الذي يوجد خارج المسجد.
إعداد خطة العودة إلى الجزائر
في أفريل من عام 1998 قررنا العودة إلى جامعة الجزائر ولكل واحد منا أسباب تدعوه إلى العودة، والخطة تم إعدادها في مكتبي. فبالنسبة إلي، قررت العودة بسبب انتهاء فترة الاستيداع التي حصلت عليها زوجتي من وزارة المالية، بالإضافة إلى الطلبة الذين أشرف عليهم في جامعة الجزائر وكانوا يعانون من صعوبة إتمام أطروحاتهم. كما أنني كنت قلقا على منزلي وخوفي من سرقته. أما الدكتور سعيدوني فكان يرغب في العودة بقصد التدريس ومواصلة الإشراف على طلبته، لكنه، بصفة خاصة، كان يرغب في الإعداد لتزويج ابنته الدكتورة وفاء والتفرغ لكتابة أبحاثه في الجزائر لأن الكتابة في المشرق العربي صعبة بسبب كثرة أعباء التدريس ووجود الأرشيف الخاص بالوثائق في الجزائر.
وفي إحدى الأيام اجتمع المجلس الأعلى للجامعة برئاسة الدكتور محمد عدنان البخيت للنظر في قضايا التوظيف وتجديد عقود الأساتذة المتواجدين بالجامعة. وبمجرد اطلاعه على رغبتي ورغبة الدكتور سعيدوني في عدم التجديد وإنهاء العقد مع الجامعة، أصيب بصدمة وقرر إنهاء الاجتماع إلى يوم آخر. واتصل بنا بعض الأساتذة الذين حضروا الاجتماع وأخبرونا أن رئيس الجامعة أصيب بخيبة أمل كبيرة عندما قرأ أو تعرف على استقالتنا من جامعة آل البيت وأنه سيتصل بنا بسرعة لإقناعنا بالعدول عن الاستقالة.
وبالفعل فقد اتصلت بنا سكرتيرة رئيس الجامعة “أيمان” وطلبت منا الحضور لمقابلة رئيس الجامعة. وفي طريقنا إلى مكتب رئيس الجامعة تشاورنا في الأعذار المختلفة التي يمكن أن نقنع بها رئيس الجامعة لإنهاء تعاقدنا وعودتنا إلى بلدنا. وبعد التسليم عليه، وجدناه مستاء من قرارنا بمغادرة الجامعة، وطلب منا أن نتراجع عن قرارنا وأن نواصل المسيرة مع جامعة آل البيت لأن مغادرة أساتذة كبار يعني بالنسبة لرئيس الجامعة تراجع مستوى التعليم وتدهور سمعتها. لكن الخطة المحكمة والتبريرات القوية وتصميمنا على العودة إلى الجزائر أقنعت الدكتور البخيت بأنه لا فائدة تجدي من وراء سعيه لإقناعنا بالتراجع عن قرارات إنهاء عقودنا.
لقاءاتنا من جديد بكلية العلوم الإنسانية بجامعة الجزائر
للأسف الشديد فإن عودتنا إلى جامعة الجزائر لم تكن مثمرة وفرص الزيارات العائلية نقصت، والاتصالات في كلية العلوم الإنسانية لم تكن وثيقة وخاصة أن الأستاذ سعيدوني تحصل على دعم من عميد الكلية الأستاذ بشير شنيتي والأستاذ الطاهر حجار رئيس الجامعة، وتم تعيينه رئيسا للمجلس العلمي للكلية ومكلف بالإشراف على مجلة جديدة للعلوم الإنسانية. المهم أن الأستاذ سعيدوني حاول أن يكون معتدلا، ويرضي جميع الزملاء الذين كانت لهم توجهات متباينة، وفي النهاية كان يخرج بنتائج مقبولة للجميع.
وقد لاحظت أثناء مناقشات لأطروحات الدكتورة، أن الدكتور سعيدوني كان يعمل المستحيل لمساعدة الطلبة على التخرج والحصول على شهادتهم العلمية. لقد كان يتعاطف مع الطلبة بقصد تسهيل عملية تخرجهم، وكذلك كانت له شعبية كبيرة في أوساط الطلبة. لقد ناقشنا مرة أطروحة طالب ليبي في التاريخ وكانت أطروحته متكونة من ثلاثة أجزاء وهي محشوة بالمعلومات لكنها غير مرتبة ترتيبا علميا، وكنت أتوقع أن اللجنة ستطلب إعادة كتابتها وتقديمها في شكل جيد، لكن المشرف دافع عن الطالب واللجنة اقتنعت بتبريرات المشرف وتحصل الطالب على شهادة الدكتورة.
وفي فرصة أخرى ناقشنا معا أطروحة الطالب على تابليت عن الأسرى الأجانب في الجزائر خلال التواجد العثماني وعملية مقايضتهم بأموال للخزينة الجزائرية، وكانت المناقشة حامية الوطيس، وتمكن المشرف الأستاذ سعيدوني بإقناع أعضاء اللجنة بالتصويت لصالح حصول الطالب على الدكتورة. لكن الحق يقال أن أطروحة تابليت كانت جيدة والمعلومات الموجودة بها غير متوفرة لأعضاء لجنة المناقشة.
افترقنا من جديد
في عام 2002 افترقنا من جديد حيث انتقل الدكتور سعيدوني إلى جامعة الكويت وانتقلت أنا إلى جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بالرياض، وبذلك بدأت الاتصالات تتضاءل بيننا ولم يعد في وسعنا تبادل الآراء والمعلومات عن أي موضوع. غير أن الدعوى التي وجهها لنا السيد محمد الشريف عباس وزير المجاهدين للمشاركة في ملتقى دولي بالجزائر حول الثورة الجزائرية، جمعتنا من جديد في 2004 على ما أظن، وقدم الأستاذ سعيدوني محاضرة وجاء على حسابه الخاص من الكويت وأنا الآخر جئت من الرياض على حسابي الخاص، وبخل علينا إبراهيم عباس المسؤول عن الملتقى وعن التراث في وزارة المجاهدين بالإقامة في الأوراسي مثل بقية ضيوف الملتقى، و لم يتم تعويضنا عن تذكرة السفر، ومنذ ذلك اليوم لم نحضر أي مؤتمر تعقده وزارة المجاهدين.
عائلة سعيدوني هي السبب الحقيقي لنجاحاته
بكل موضوعية، إن نجاحات الأستاذ سعيدوني في كتاباته وأبحاثه وفي تربية أبنائه وفي الوصول إلى مكانة رفيعة في البحث العلمي، ترجع إلى تفرغه للبحث العلمي وعدم الانشغال بشيء آخر، لأن الزوجة الفاضلة كانت تعفيه وتخفف من انشغالاته الأخرى، ولذلك استطاع الأستاذ سعيدوني أن يركز على بحوثه وأن يتفرغ لها وينجح فيها. إن الله أنعم عليه بزوجة متعلمة أعطاها الله القدرة على إنجاب و تربية 5 دكاترة (3 في الطب وواحد في الهندسة المعمارية وآخر في المعلوماتية). ولعل المشكل الوحيد الذي نغص حياة الأستاذ سعيدوني وأزعجه إلى حد كبير هو بناء المسكن وبيع سيارته لاستكماله !!.
وباختصار شديد، إن الأستاذ ناصر الدين سعيدوني الذي تقاعد منذ سنوات يحظى بالاحترام والتقدير في الأوساط العلمية العربية والدولية. وبالرغم من نجاحه في تأليف العديد من الكتب والارتقاء بسمعة الجامعة الجزائرية في الداخل والخارج، فإن جامعته، للأسف، غير مبالية وغير معترفة بالخدمات الجليلة التي قدمها للجزائر ولا زالت إلى الآن لم تقم بمكافأته على أعماله الراقية و تطلق اسمه على إحدى المدرجات بالجامعة، تخليدا لمساهماته العلمية في ترقيتها. كما أنها لم تقم بتنظيم مسابقة علمية تحمل اسمه في مجال التاريخ الجزائري.
إن الشخص الوحيد الذي أنصفه هو الدكتور جمال يحياوي مدير مركز البحوث في الحركة الوطنية الذي تفضل مشكورا بإعادة طباعة كتبه وتوزيعها في الجزائر. كما أنه ينبغي التنويه بمجهودات الأستاذ ودان بوغفالة وزملاءه في مركز البحوث الاجتماعية بجامعة معسكر الذين اعترفوا بالجميل وقاموا بجمع المقالات عن الأستاذ ناصر الدين سعيدوني وذلك تقديرا للمعرفة وعرفانا بالمجهودات العلمية للأستاذ الجزائري الذي أفنى عمره في البحث والتدريس والتنقل بين مراكز البحث العلمي في فرنسا وفي المشرق العربي وفي اسطنبول لكي يترك لنا هذا الكم الهائل من الوثائق والمعلومات عن جزائرنا وخاصة عن الفترة العثمانية.