الاستيطان الأوربي بالجزائر يرتكب جرائم الاستيلاء على أراضي الجزائريين في القرن التاسع عشر
بقلم
الأستاذ عمار بوحوش([1])
في بداية هذه الدراسة التي تم إعدادها للمدونة، يتعين علينا أن نشير إلى أن ديغول كان على صواب عندما صرح بعد عودته إلى الحكم في سنة 1958 أن الجزائريين الذين يعانون من الفقر والبؤس داخل وطنهم، قد اضطروا لمحاربة فرنسا بسبب المعاناة من حرمانهم من أراضيهم ونقص الوظائف والإهمال في التعليم. ولهذا، قرر ديغول في سنة 1958 أن يبدا بإنشاء مشروع قسنطينة (Le plan de Constantine) لإعادة جزء من حقوقهم وإعطائهم بعض فرص التوظيف وبناء مساكن لهم حتى يتم إرضاء نسبة كبيرة من الجزائريين وإبعادهم عن الثوار الجزائريين الذين عقدوا العزم على طرد المستوطنين من وطنهم.
ونستخلص من هذه الفكرة أن المستوطنين الأروبيين الذين توافدوا على الجزائر ليسوا كلهم من أصل فرنسي وإنما هم أجانب جاءوا من إسبانيا وإيطاليا ومالطا. وكانت الغاية من قدومهم إلى الجزائر هي الاستيلاء على أملاك أبناء الجزائر وأبناء الأتراك. ولهذا، فليس من الغريب أن توصف الجزائر العاصمة بأنها ” المكان الذي يضم جميع المنبوذين والمطرودين من مناطق الحضارة الأروبية “. وكما وصف أحد الفرنسيين هذه الوضعية بقوله ” فإن الجزائر أصبحت مثل فرنسا لكن بدون شرطة وبدون قانون “.
وفي الحقيقة أنه منذ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر قرر ” الجنرال كلوزيل ” دعم الأروبيين للاستيلاء على الأراضي الخصبة في أول الأمر، ثم الضغط على الحكومات الفرنسية لتمويل عمليات الاستثمار ومنح الأروبيين الجنسية الفرنسية لكي يتمتعوا بحقوق استغلال الأراضي والحصول على قروض سخية لتمويل عمليات استغلال الأراضي المصادرة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن مأساة الجزائريين وحرمانهم من الأرض ورزقهم، فإن المستوطنين قاموا بمحاولات ناجحة للسيطرة على الحكومات الفرنسية في باريس وذلك من خلال إقامة لوبي أوروبي في الجمعية الوطنية الفرنسية وفرض سياسة استيطانية من خلال الضغوط الممارسة على الحكومات الفرنسية في باريس. كما أن التجار الأروبيين شكلوا جمعية قوية في باريس، كان هدفها هو زراعة العنب والبحث عن الذهب في المناجم. وبفضل الضغوط الممارسة على الحكومات الفرنسية أصبحت مدينة من الجزائر. وبفضل تواطؤ الحكومات الفرنسية. تمكن المستوطنون الأروبيون من شراء أغلب أراضي متيجة في سنوات قليلة. وباختصار، فإن الأروبيين تمكنوا في وقت قصير من الحصول على ثروات طائلة، والبعض الآخر منهم نال مراتب عالية في الإدارة في حين أنهم لو بقوا في فرنسا لن يلتفت أي أحد إليهم. وكان تصرفهم عنصري: ” فالعربي ما هو إلا حيوان مخلوق وهو ممتلئ بالتعصب الإسلامي ولا يمكن وقفه عند حده إلا بالقوة “.
جرائم الماريشال ” بيجو ” في الجزائر
حطمت كيان المؤسسات الجزائرية
إن توطيد الاستعمار الأروبي في الجزائر يرجع إلى السياسات الفرنسية في عهد الماريشال “بيجو”. إن هذا الماريشال هو الذي كان يقود جيشا قوامه 000 100 جندي فرنسي، وهو الذي تمكن من التغلب على الأمير عبد القادر، وفرض شروطه عليه. وبكل موضوعية، نقول أن هذا الماريشال، المولود سنة 1784 والمتوفى بسبب الكوليرا في سنة 1849 م، هو الذي تولى سياسة القهر والعنف والإبادة والتدمير والتهجير والنفي في إطار الحرب الشاملة ضد الجزائريين.
إن هذا الماريشال الذي تمت ترقيته إلى هذه الرتبة سنة 1843 هو الذي تبنى شعار “الأراضي المحروقة ” La terre brulée حيث أمر جنوده بحرق المزارع وحرمان الجزائريين من حصد أراضيهم وشعيرهم حتى يموتوا جوعا.
إنه لمن الواضح، أن الجزائر في عهد الماريشال ” بيجو ” أصبحت في يد العسكريين الذين كانوا يعيشون بها، ويقومون بتهجير الجزائريين والإشراف على تنفيذ سياسة الماريشال ” بيجو ” الذي طلب من مساعديه عدم الدخول في مناوشات مع العرب، وإنما حرمان الجزائريين من وسائل العيش. وكما هو معروف، فإن الماريشال ” بيجو ” استعان بكبار الجنرالات الفرنسيين لتدمير الجزائر، أمثال الجنرال لامورسيير (La Maurciere) والجنرال كافينياك (Général Cavaignac) والجنرال شانقاريي بيدو (Général Changarie Bedeau). والأسوأ من كوارث مصادرة أراضي وأملاك الثوار، وجمع الناس في المحتشدات وتجريد القبائل من محاصيلها الزراعية، هو إنشاء المكاتب العربية التي هي تابعة للجيش ووظيفتها الأساسية هي التجسس وتطبيق التعليمات التي تأتي من القيادة العسكرية.
وفي خطاب للماريشال ” بيجو ” أمام البرلمان الفرنسي يوم 15 جانفي 1840 قال هذا الجنرال: ” إنني لم أجد أية وسيلة فعالة لإخضاع الجزائر أحسن من مصادرة الأراضي الزراعية “، وأكد أن السياسة العسكرية ستكون مركزة على إتاحة الفرضة للمعمرين الفرنسيين بالإقامة في كل مكان توجد فيه مياه وأراض خصبة، ولن تكون هناك مراعاة لمن هو المالك الشرعية لتلك الأراضي. وأضاف قائلا أن مهمة الجيش الفرنسي ليست الجري وراء العرب لأن ذلك لا يجدي نفعا وإنما منعهم من زرع وحصد أراضيهم.([2])
سياسة تهجير الجزائريين من وطنهم
وبطبيعة الحال، فإن سياسة الشدة التي سلكها الجيش الفرنسي قد أرغمت الجزائريين سواء على الاعتصام بالجبال والدفاع عن حقوقهم من هناك أو الانتقال إلى أماكن أخرى بحثا عن العيش. وهذه الخطة التي سار عليها الحكام الفرنسيون بدأ يجري تطبيقها بكل شدة منذ 15 أفريل 1845 يوم قسموا الجزائر إلى الأراضي الخاضعة للحكم المدني والأراضي التي تتبع الحكم المختلط والأراضي ” العربية ” التي تخضع للنظام العسكري. ففي النوع الأول من الأراضي أقاموا المجالس البلدية واختاروا النواب الذين يمثلون مصالح المجموعة الأوروبية. وفي ” الأراضي المختلطة “حيث كان من الصعب على الأوروبيين تسيير الأمور بأنفسهم نظرا لقلة عددهم، يعين الحاكم العسكري العام محافظ عسكري ويكلفه بتسيير الأمور في الناحية المعين عليها. والمعمرون الأوروبيون يستطيعون إنشاء المتاجر والحصول على الأراضي التي يحتاجون إليها بعد موافقة وزير الحربية في باريس([3]). والقسم الثالث أطلق عليه اسم ” الأراضي العربية ” وللقادة العسكريين فيه مطلق الحرية في تقلد زمام أمور العدالة والتعليم والتسيير الإداري. وانفردت هذه الأراضي بالحكم العسكري المباشر وذلك نظرا لأن القاطنين فيها جزائريين والسياسة المتبعة هناك هي حرمان أهل البلد من الحقوق التي منحها الدستور الفرنسي لكل إنسان يعيش تحت السلطة الفرنسية.
وفي الحقيقة فإن السياسة العسكرية التي اتبعها الضباط الفرنسيون في الجزائر هي التي أدت إلى هجرة الجزائريين ولن يدرك الإنسان أبعادها الكبرى إلا بتسليط الأضواء على النفوذ السياسي الذي كان يتمتع به الحاكم العسكري في الجزائر. فقد كان له الحرية التامة في قبول أو رفض جميع المقترحات المقدمة إليه من طرف الأوروبيين لإقامة المراكز التجارية في الأراضي العربية([4]). وسلطته الواسعة قد أدهشت حتى الفرنسيين أنفسهم. فعندما زار الجزائر الكاتب الفرنسي ” طوكفيل ” لاحظ أن المهمة الرئيسية للحاكم العسكري في الجزائر كانت تتمثل في فرض السيطرة على البلد، والإشراف على تسيير أمور السكان، والاهتمام بالأمور المتعلقة بالسلم والحرب والنفوذ الواسع لسد حاجيات الجيش وتوزيع السكان الأوروبيين والعرب في الأراضي المختلفة([5]). هذا ونشير إلى أنه بموجب المرسوم المؤرخ في 15/4/1845 قد أصبح الحاكم العسكري هو المكلف بتعيين كل مدير عام للشؤون المدنية ويعتبر كل واحد من هؤلاء المديرين المساعد الكبير للحاكم العسكري. كما أنه هو الذي يقترح عليه جميع القرارات التي تمس نواحي تعمير الأرض، والشؤون الفلاحية، والتجارة والأشغال العمومية.([6])
ونحن لا نريد أن ندخل في تفاصيل الموضوع المتعلق بنتائج الحكم العسكري ومن هو المستفيد من إقامته في الجزائر: هل هو المعمرون، أم الجيش أم أهل البلد الأصليين، ونكتفي بكلمة شاهد عيان الذي أعطانا وصفا كاملا عن ذلك. ففي شهر أكتوبر 1831 قام ” كوطفيل ” بزيارة للجزائر ولاحظ أن هناك أشياء غريبة ومدهشة. لقد أحس بأن قادة الجيش يكنون عداوة للمعمرين. والسبب في ذلك أن الضباط قد حقدوا على المعمرين الذين جمعوا الأموال الطائلة، ولذلك حاول العسكريون من جهتهم انتهاز كل فرصة ملائمة للتقليل من أرباح المعمرين أو العمل على إفلاسهم([7]). ولاحظ ” طوكفيل “. كذلك، أن المعمرين من جهتهم كانوا متضايقين وحاقدين على الحكام العسكريين الذين لم يعطوهم الحرية الكاملة للاستيلاء على أكثر مساحة ممكنة من الأراضي وإخضاع أهل البلد لحكمهم المباشر.
ومن الأشياء التي أذهلت ” طوكفيل ” هي ” الوحشية السريعة ” التي تمت بها مصادرة الأراضي من طرف الحكام العسكري. فقد استغل هذا الأخير المرسوم الصادر في 17 أكتوبر 1833 الذي بمقتضاه خول للإدارة الفرنسية أن تستحوذ في خلال أربع وعشرين ساعة على أية قطعة من بدون تعويض، فالمحاكم كانت تشترط يوما واحدا فقط لتعيين خبير من طرف مالك الأرض وخبير من طرف الإدارة الفرنسية لتقييم الأرض المؤممة. وفي حالة عدم تعيين واحد من طرف المالك، تقوم المحكمة بتعيين خبير آخر عنه وتصدر حكمها بتحويل الملكية. وترتب عن هذا النظام ارتباك في الحياة الاجتماعية وتدهور في العلاقات التي تربط الجيش بالمدنيين. ومن جملة النصائح الهامة التي قدمها ” طوكفيل” للحاكم العسكري بالجزائر هي العدول عن أسلوب مصادرة الأراضي بهذه الطريقة الوحشية لأنها قد تعطى فكرة للمواطنين الجزائريين بأن فرنسا تحاول إزاحتهم وإحلال محلهم العنصر الأوروبي([8]).
وقد بلغ الحكم العسكري في الجزائر أوجه في عهد الجنرال ” بيجو ” الذي حاول أن يسخر الأروبيين المدنيين لتوطيد دعائم النظام العسكري. فقد اشترط على كل معمر أوروبي أن يؤدي خدمة عسكرية في الجيش لا تقل عن ثلاث سنوات قبل أن يسمح له بالحصول على الأرض مجانا. وهذا، بطبيعة الحال، أدى إلى توتر العلاقات بين الجيش والمعمرين الفرنسيين. ولكن الحدث الهام الذي أدى إلى زعزعة الحكم العسكري في الجزائر هي المجزرة الرهيبة التي ذهب ضحيتها في يوم واحد خمسمائة امرأة وطفل جزائري عندما لجأوا إلى كهف وقضت عليهم قوات الجنرالات ” بيليسييه ” و” كافينياك ” و” سانت أرنو “([9]). فقد وجهت انتقادات لاذعة إلى الجنرال ” بوجو ” من طرف نائب فرنسي، يطلق عليه اسم ” لامارتين ” حيث اتهمه بأن الأسلوب الذي اتبعه أخذ شكل ” الإبادة ويعتبر أسوأ من جرائم نيرون وتيبيريوس “([10]). بيد أن نائبا آخر، يدعى ” كورسيل” قد لفت نظر النواب الفرنسيين إلى خطر آخر يهدد مستقبل شمال إفريقيا، والذي كان يعنيه هذا النائب هم المعمرون المدنيون الذين بدأت صحافتهم في الجزائر العاصمة تنشر الحقائق مشوهة وتحث على محق الجزائريين الذين تعتبرهم من أحط الأجناس البشرية([11]).
وترتب عن هذه المناقشة إنشاء لجنة برلمانية متكونة من ثلاث نواب، وتكليفها بجمع الحقائق عن الأعمال التي يقوم بها الجيش الفرنسي في الجزائر. وبعد إقامة وجيزة بمدينة الجزائر العاصمة، عادت اللجنة الثلاثية بتقرير غامض. وخلاصته أن مصلحة فرنسا تقتضي إنشاء مجموعة فرنسية تسير حسب القوانين والعادات المستمدة من الحضارة الفرنسية. ثم أوصت اللجنة في قرارها بحسن معاملة أبناء البلد، كما تقتضي مصلحة الفرنسيين والمحافظة على شرف كلمتهم([12]). ولإزالة هذا الغموض وتقديم الاقتراحات الواضحة حول تحسين الحالة العسكرية بالجزائر، قام ” طوكفيل ” بتحديد الخطوات التي يجب اتخاذها للتغلب على الفوضى التي سادت الأراضي التي سيطر عليها الجيش الفرنسي بالجزائر. وهذه الاقتراحات يمكن تلخيصها فيما يلي:
- تخفيف حدة نفوذ باريس على الجزائر.
- إدخال برنامج اللامركزية بالجزائر بحيث أن الحاكم العام يتقاسم السلطة السياسية مع معاونيه.
- الاعتماد على أنظمة إدارية تكون غاية في البساطة والتنسيق المحكم في الميدان الإداري.
- تمنح للمسؤولين المحليين سلطات تنفيذية أوسع من التي أعطيت لهم.
- تعيين مدير للشؤون المدنية وفصل سلطته عن السلطة العسكرية التي هي في يد الحاكم العام([13]).
ثم إن ” طوكفيل ” قد كشف النقاب عن الطريقة الاستبدادية التي كان يستعملها الحاكم العام لتوطيد سلطته العسكرية بأي ثمن كان. فقد أبدى تذمره من سلطة الحاكم العام على القضاة وعزلهم إذا هو أراد ذلك. كما أنه استاء من المراسيم التي تسمح للحاكم العام بمعاقبة أي شخص يعتبره مهددا لأمن الجزائر. ونلاحظ أيضا أن ” طوكفيل ” قد تأثر كثيرا بالقوانين الصارمة التي تفرض على سكان المناطق المختلطة والتي كانت تتكون في معظمها من الجزائريين وعدد بسيط من الأوروبيين. كما اندهش من كون الحاكم العام يتمتع بجميع الصلاحيات التي تخول له مصادرة أراضي أي فرد ودفع تعويضات له في شكل سندات يقع تسديدها فيما بعد([14]).
وأدت الانتقادات البرلمانية واستنكار ” طوكفيل ” للأعمال العسكرية التعسفية إلى اضمحلال نفوذ الحاكم العام وسطوع نجم القادة المدنيين في الجزائر. وتصادف انتقال القوة السياسية من يد العسكريين إلى المدنيين في الجزائر الإطاحة بحكومة لويس فليب سنة 1848 وقيام حكومة ثورية في فرنسا. ويرى بعض العلماء أن نجاح ثورة 1848 يعتبر بمثابة انتصار 000 125 معمرا أوروبيا بالجزائر حيث أن المملكة هي التي كانت سبب مصائبهم. فقد تمادت في تجاهلها لمطالبهم ووضع حد لسلطة الجيش عليهم. ثم تركت قضية الأراضي المصادرة غير محددة. هذا بالإضافة إلى وقفتها موقف المتفرج إزاء سياسة الإدماج وتثبيط عزائم الذين أرادوا إقامة مستعمرات في البلاد([15]). وعلى العكس من ذلك، نجد أن النظام الجمهوري الجديد قد جاء بسياسة محددة وواضحة تجاه الجزائر. وخلاصتها أن الجمهوريين قد صمموا على اتباع سياسة ” الإدماج ” التي كانت مبنية على فكرة المساواة بين جميع الفرنسيين واعتبار جميع المقاطعات الفرنسية جزء لا يتجزأ من فرنسا([16]).
وفي شهر أوت 1848، وضعوا هذا المشروع حيز التنفيذ حيث اتخذت الخطوات اللازمة لنقل الأعمال الإدارية لكثير من المصالح الحكومية من الجزائر إلى باريس. وبمقتضى التعديلات الجديدة، انتقلت أمور العدالة في الجزائر إلى الوزارة المختصة بذلك في باريس، باستثناء الأمور التي تتعلق بالمسلمين الجزائريين فقد بقيت تابعة لوزارة الحربية. أما الحاكم العام فقد أصبحت سلطته محدودة، ولم يعد سوى منسق لشؤون فرنسا بالجزائر، إذ أنه وضع تحت التصرف المباشر لوزيري الحربية والعدلية في باريس وأصبحت مهمته هي التأكد من تطبيق وتنفيذ الأوامر القادمة من العاصمة الفرنسية.
وإذا كانت القرارات الهامة الصادرة في المرسوم المؤرخ في 12 أكتوبر 1848 قد اتخذتها باريس لإراحة المعمرين من التعسف العسكري فإن المستوطنين الأوروبيين بالجزائر قد شعروا بخيبة الأمل وهضم حقوقهم من طرف باريس. والسبب في استقبال قرارات باريس ببرود هو تحويل السلطة من الحاكم العام إلى وزير الحربية الفرنسي بدلا من وضعها في يد الأوروبيين المدنيين بالجزائر. ومما زاد في مخاوفهم إعطاء الصلاحيات لوزير الحربية بالإشراف على جميع الشؤون التابعة لوزارة الداخلية، والأشغال العامة والفلاحة والمالية. وبهذا بقى بمصيرهم في يد وزير الحربية ومن الصعب عليهم تدعيم نفوذهم في الجزائر. وقد احتفظ وزير الحربية بهذه المهمات إلى يوم 12 أوت 1881، يوم صدر قرار آخر بتجريده من هذه الصلاحيات([17]).
وبهذا الصدد نشير إلى أن القادة العسكريين في الجزائر ووزارة الحربية في باريس كانا قد دخلا في صراع حول السياسة التي ينبغي اتباعها في الجزائر منذ سنة 1840. فبينما كان الماريشال ” بيجو ” الذي كان الحاكم العام للجزائر من سنة 1840 إلى غاية 1847، يسعى إلى طلب المزيد من الجنود وتوزيع الأراضي المصادرة على الجنود الذين أدوا خدمتهم العسكرية، نجد الجنرال “لاموريسيير” يدافع عن نظرية أخرى قائمة على أساس استثمار الأراضي التي استولت عليها فرنسا وليس جلب المزيد من رجال الجيش الفرنسي. وعندما قبلت وزارة الحربية الاقتراح الأخير وأصدرت مرسوما يوم 4 ديسمبر 1846 لتبني هذه الفكرة، تقدم ” بيجو ” بطلب إلى المجلس الوطني الفرنسي وحثه فيه على تخصيص 3 ملايين فرنك لإنشاء المراكز الزراعية لأولئك الجنود الذين قاموا بأداء الخدمة العسكرية في الجزائر. ولما رفض المجلس هذا الطلب لتزويد الجنود بمساعدة مالية، قدم “بيجو” استقالته في شهر جوان سنة 1847([18]).
ولكن الحقيقة هي أن الحكم الجمهوري الذي جاء عقب ثورة 1848 قد عمل بكل جهد لترضية رغبات المعمرين بالجزائر. ففي 19 سبتمبر 1848 صدر مرسوم يقضي بتخصيص 50 مليون فرنك لمساعدة المهاجرين المدنيين إلى الجزائر: 5 ملايين تصرف سنة 1848 و10 ملايين تخصص لسنة 1849 و35 ملايين للسنوات التي تأتي عقب ذلك([19]).
وكانت تهدف سياسة الجمهوريين إلى توطيد دعائم الاستعمار المدني وذلك ببناء القرى الصغيرة للمهاجرين الأوروبيين وتشجيعهم على استثمار الأراضي الخصبة. كما أنهم كانوا يأملون أن يتخلصوا من المشاغبين في باريس لأن بقاءهم في العاصمة الفرنسية يشكل خطرا دائما على النظام الجمهوري. ولترغيب المهاجرين في الالتحاق بالجزائر أفواجا، نص المرسوم المذكور آنفا على تزويد كل عامل مهاجر بقطعة أرض تتراوح بين 2 و10 هكتارات، ومنزل، بالإضافة إلى بعض المساعدات المادية. وكان لهذه العروض المغرية أثر كبير على نفوس العمال الكادحين. فقد قبل الالتحاق بالجزائر حوالي 500 13 في سنة 1848. وأثناء توديع الفوج الأول من المهاجرين ألقى رئيس الحكومة خطابا قال فيه: إن المستقبل لكم، حيث ستجدون أمامكم مناخ صحي، وسهول شاسعة وأراضي خام وخصبة ملك لكم وليس لأحد آخر غيركم، والتي ستحرثونها وترتقون إلى حياة مزدهرة وشريفة([20]).
سياسة لويس نابليون تجاه الجزائر
هناك اختلاف بسيط بين سياسة الجمهوريين وسياسة نابليون الثالث. فبينما اختار قادة النظام الجمهوري هجرة المدنيين ومساعدتهم على الاستثمار في الأراضي الشاسعة، نجد أن لويس نابليون قد اختار ” هجرة رؤوس الأموال ” وخاصة فيما بين 1851 – 1858. وخلاصة فكرته أن الهجرة يجب أن تتم على أوسع نطاق ممكن وأن الشركات في إمكانها أن تحصل على امتيازات وأراضي خصبة مقابل بناء مساكن للمهاجرين الفرنسيين إلى الأراضي الجزائرية. ونتج عن هذه السياسة تغير ملحوظ في العدد وفي نوع المهاجرين الجدد. فمن سنة 1851 إلى سنة 1858 ارتفع عدد المهاجرين الأوروبيين من 000 131 إلى 000 181 نسمة. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن نصف المهاجرين إلى الجزائر ينتمون إلى فرنسا. أما النصف الآخر فيحملون جنسيات مختلفة. وكانت هذه فاتحة عهد جديد بالنسبة للمهاجرين الأجانب الذين بدأوا يدخلون إلى الجزائر أفواجا وكأنهم في تسابق مع الفرنسيين لتوطيد قدمهم في أرض الجزائر. ومما يلاحظ في هذا الشأن، أن عدد الاسبانيين والإيطاليين القادمين إلى الجزائر قد بلغ 735 155 نسبة سنة 1879 وعدد الفرنسيين الذي وصل إلى 727 155 يأتي في الدرجة الثانية([21]). وترتب عن هذا السباق إلى الهجرة بين الفرنسيين والأقليات الأجنبية الأخرى زيادة في الإقبال على أخذ الأرض ومزاحمة الجزائريين في ميدان الفلاحة الذي كان مصدر العيش بالنسبة لما لا يقل عن ثلاثة أرباع الشعب. ويذكر المؤرخ الفرنسي الشهير جوليان أن بعض العائلات الجزائرية التي تقطن بشرق الجزائر قد فقدت ما يتراوح بين 40 و85% من أراضيها([22]).
ثم إن لويس نابليون، الذي كان يحاول أن يظهر بمثابة الحاكم المنصف قد عكر صفو علاقته مع المعمرين الأوروبيين في الجزائر دون أن يتجرأ على تحديد العلاقات التي تربط بينهم وبين أهل البلد الأصليين. فابتداء من ديسمبر 1451، وهو تاريخ الانقلاب الذي قام به للاستيلاء على الحكم في فرنسا، ونابليون الثالث يسعى لإدخال تعديل على النظام الذي أقرته الحكومات الفرنسية السابقة بالجزائر.
وعيبه الكبير أنه أرجع السلطة إلى القيادة العسكرية بالجزائر وذلك بتعيين الجنرال راندون حاكما عاما، من سنة 1851-1858. وأكثر من هذا، أثار الامبراطور الفرنسي مخاوف الجالية الأوروبية بالجزائر عندما جردهم من حقهم في اختيار ممثلين ينوبون عنهم في مجلس النواب الفرنسي، كما فعل في دستوره الجديد الذي ظهر في جانفي 1852([23]).
ثم إنه حاول أن يعمل باتفاق مع الحاكم بالجزائر، على ترضية المهاجرين الأوروبيين وقدم إليهم مساعدات لم يلحموا بها من قبل. ففي مرسوم صدر لاحقا، بعث الحاكم العام بتعليمات للولاة في القطر الجزائري وطلب منهم أن تمنح فورا، لكل معمر أوروبي مساحة من الأراضي بشرط أن لا تزيد عن 50 هكتارا. وجاء في تعليماته للولاة أن الأراضي تعطى مجانا وبدون تأخر. ونظرا لإقبال الأوروبيين على أخذ نصيبهم، فإن الأراضي الموجودة في حوزة الدولة قد نفذت بسرعة، وآنذاك لجأ الجنرال ” راندون ” إلى اتباع سياسة جديدة تكفل له الحصول على المزيد من أراضي العشائر والشخصيات الجزائرية. وقد أطلق على خطته الجديدة سياسة ” الإقليم Cantonnement ” أو تجزئة الأراضي إلى قطع صغيرة بحيث لا يترك لأية قبيلة إلا الجزء الذي تحرثه للحصول على قوت أفرادها وما زاد عن ذلك تتخلى عنه لإيواء المهاجرين الأوروبيين([24]). وحسب تقدير الخبراء، فإن سياسة راندون التوسعية قد مهدت الطريق لاستيلاء الحكومة على ما لا يقل عن 000 500 1 هكتار([25]).
والسبب في اتباع سياسة الاستعمار الرأسمالي وإقامة مراكز الاستيطان للجالية الأوروبية يرجع بالدرجة الأولى إلى رغبة نابليون الثالث في ترضية جميع العناصر التي كان يخشى أن تشكل خطرا على سلطته. وأول فئة كان يسعى إلى تلبية مطالبها هي الجالية الأوروبية التي بقيت مرتبكة وغير قادرة على الاستثمار في الأراضي التي في حوزتها وذلك نظرا لخوفها من هجمات أصحاب الأرض الأصليين أو الوطنيين الذين يحبذون مواصلة المعركة حتى النهاية. وبما أنه من الصعب على حكومة لويس نابليون تزويد كل مستوطن أوروبي بقوات عسكرية تحميه وتتيح له فرصة زراعة الأرض، فقد استقر رايه على إقامة مراكز الاستيطان وتشجيع كل معمر على استغلال الأراضي الخصبة التي في حوزته. وهذا العمل يقود إلى نتيجة أخرى ألا وهي إيجاد العمل لأبناء البلد الأصليين وبذلك تستطيع السياسة النابوليونية تجنب ثورة الطبقة الكادحة التي تعبر الأرض مصدر الرزق، من جهة، ودفع الأوروبيين على العمل المنتج بدلا من الاعتماد على أموال الدولة الفرنسية لتغطية تكاليف إقامتهم. وأكثر من هذا، فإن توفر ايد عاملة تتقاضى أجور بسيطة يعتبر نعمة بالنسبة للاقتصاد الفرنسي. ولهذا فلا ينبغي أن يتوانى المعمرون الجدد في تسخير هذه الطاقة الإنسانية الهائلة لمصلحتهم ومصلحة فرنسا بالجزائر.
ويلاحظ أن الجيش الفرنسي كان يسعى هو الآخر لإظهار عبقرية قادته، الذين ينظر إليهم الشعب الفرنسي نظرة ازدراء ويعتبرهم آلة مسخرة لخدمة أغراض الشخصيات السياسية. ولذا نجدهم هذه المرة قد عقدوا العزم على مساعدة المعمرين المدنيين وإسكات الذين يروجون دعايات مغرضة ضد سياسة الحكم العسكري في الجزائر. كما حاولوا التقرب والتفاهم مع الجزائريين وذلك حتى يتسنى لضباط الجيش الفرنسي أن يحصلوا على ثقة أهل البلد الأصليين ويقيموا بإفريقيا ” فرنسا الجديدة “.
ولكن مجهودات قادة الجيش الفرنسي لم تكلل بالنجاح حيث أن التعاون الذي حاولوا إقامته مع أبناء الجزائر كان صوريا فقط والغرض منه خلق جبهة موحدة ضد المعمرين الذين يتنافسون معهم على كرس القيادة في الجزائر. وانتهز لويس نابليون فرصة كشف الستار عن بعض الفضائح التي وقعت في صفوف بعض الجزائريين الموالين لفرنسا الذين كانوا ينتمون إلى شبكة التجسس لمصلحة الجيش الفرنسي أو ما نسميهم بـ” المكاتب العربية ” وأمر بتغيير نوع الحكم في الجزائر. ففي يوم 21 ابريل 1858، بدأ حلقة جديدة من سلسلة مغامراته بأوروبا وإفريقيا. لقد أقدم في ذلك اليوم على إخلاء كرسي الزعامة في الجزائر من الطرفين المتنازعين عليه، وأجلس عليه ابن عمه الأمير جيروم Prince Gerôme ثم أطلق عليه لقب ” وزير الجزائر والمستعمرات “. وتوج قراراته الصادرة يوم 21 أبريل 1858 بزيارة مجاملة إلى الجزائر حيث أراد أن يطلع بنفسه على سير الأمور هناك ويتعرف على أبناء رعيته من العرب. ثم عاد إلى باريس وهو مخلوب اللب بالشعب العربي وعاداته([26]). وقد لوحظ أنه تأثر كثيرا بالحالة البائسة التي كان فيها العرب بالجزائر وقال أنه من غير الإنصاف عدم ” حماية الجزائر من هجومات الأجانب “. وإنساق وراء عواطفه وشعوره بالعظمة وأعلن بكل جراءة أن الجزائر ليست مستعمرة ولكنها مملكة عربية. وبناء على ذلك، قال نابليون الثالث: ” إن أهل البلد الأصليين بالجزائر لهم حق التمتع برعايتي وإنني أعتبر نفسي امبراطور العرب، تماما كما أنني امبراطور الفرنسيين “. ثم أوضح بأن واجب الفرنسيين هو ” إقناع العرب بأنه الهدف من مجيئنا ليس هو تعريتهم وإنما تقديم مزايا التمدن والتقدم الإنساني إليهم “.
ولم يمض إلى وقت قصير على هذه التصريحات حتى بدأ الامبراطور يدرك عدم مقدرته على مجابهة الضغوط المتوالية عليه من طرف قادة الجيش والمعمرين بالجزائر بشأن التخلي عن إقامة مملكة عربية تكون ذيلا لامبراطوريته. وبالفعل، فقد عدل من مشروعه السابق وأصدر يوم 10 سبتمبر 1860 مرسوما يقضي بإعادة السلطة إلى يد الحاكم العام العسكري في الجزائر. وفي الحال، تم تعيين الماريشال بيليسي في هذا المنصب الجديد. وباستثناء أمور العدالة والتعليم العمومي والشؤون الدينية التي ألحقت بالوزارات المختلفة بباريس، فإن الحاكم العسكري أصبح هو المكلف بجميع الأمور العسكرية والمدنية في الجزائر. وبإيجاز، فقد صعد إلى كرسي القيادة وهو يتمتع بالصلاحيات الآتية التي وضعت مصير البلد في يده:
- أن يكون الحاكم الجديد، غير تابع لوزير العدلية كما كان الحال في السابق، وأن تتم المفاهمات والاتصالات بينه وبين وزير الحربية بطريقة مباشرة.
- أن يقوم القائد العسكري الجديد بتحضير وإعداد ميزانية الجزائر.
- أن يقرر نوعية جباية الضرائب التي تفرض على المنتجين والمتملكين.
- أن يتكفل بكل تسليف لأجل قصير أو قرض طويل المدى([27]).
وجاءت هذه القرارات بمثابة صدمة للمستوطنين الأوروبيين بالجزائر. فإعادة قائد عسكري إلى كرسي القيادة أقنعهم بعدم جدوى مساعيهم لإبعاد قادة الجيش من الجزائر واستيلائهم على زمام الأمور هناك. ولكن الشيء المحزن، بالنسبة للجالية الأوروبية بالجزائر، هو إمكانية تجديد التحالف بين الجيش والجزائريين ومضايقتهم. ومما زاد في مخاوفهم قرار الامبراطور الفرنسي المؤرخ في 22 أبريل 1863 الذي ينص على إعادة توزيع أراضي الأحواز إلى أصحابها الأصليين([28]). ويعتبر هذا المشروع الذي أطلق عليه نابليون الثالث اسم ” قرار مشيخي ” Senatus Consulte تراجعا في قراراته السابقة التي أعدها سنة 1858 وأصبح بمقتضاها من حق الدولة أن تستولي على أراضي الحبس والعشائر التي يتجاوز حجمها ما يحتاجه الأفراد المعنيون بتلك الأرض. ثم إن رغبة نابليون الثالث في السماح للجزائريين الاحتفاظ بالأراضي التي في حوزتهم قد جابهت المعمرين في الجزائر بالحقيقة المرة وهي أن الباب أصبح مغلوقا في وجه المهاجرين الذين قد لا يستطيعون، من الآن فصاعدا، انتزاع الأراضي الخصبة من أهل البلد([29]). ومما زاد الوضع تعقيدا، إصرار الامبراطور على رفض الدولة لتمويل مشاريع الاستثمار. وخاصة تلك التي تتعلق بتدعيم مصالح المعمرين التجارية والعمرانية، وحثه، للمهاجرين الأوروبيين بإيجاد رؤوس الأموال الخاصة لتدعيم أعمالهم([30]).
ومن كل هذا بدأ يتضح للجالية الأوروبية بالجزائر أن مقاومة الامبراطور أو الدخول في صراع معه ليس في مصلحتهم أبدا. ولهذا ركنوا إلى العمل بجهد وصمت وأخذوا يترقبون ذلك اليوم الذي تواتيهم فيه الظروف لتغيير مجرى الأحداث. ومما ضاعف في أملهم أن انتظارهم لن يطول، تدهور الوضع السياسي بأوروبا وتضايق الرأي العام الفرنسي من سياسة حكومة نابليون الثالث المتزمتة. هذا بالإضافة إلى أن فرنسا قد تمركزت بالجزائر وأن مهمة الجيش قد أوشكت على الانتهاء. وبالفعل فقد استقبلت الجالية الأوروبية ببرودة أعصاب القرار الذي اتخذه الامبراطور يوم 7 جويلية 1864 والقاضي بإلغاء منصب مدير الشؤون المدنية وتبعية الأعمال التي يقوم بها الولاة إلى الجنرالات العسكريين في كل ولاية([31]). ولم يثيروا أية ضجة، كعادتهم، حينما عمد الامبراطور الفرنسي إلى تشديد قبضة الجيش على المواطنين الجزائريين سنة 1867. ففي هذه الفترة وجد نابليون الثالث أنه من مصلحته التخلي عن فكرة حماية أبناء ” مملكته العربية ” في شمال إفريقيا ومناصرة الضباط العسكريين الذين أصبحوا أداة فعالة لتأديب المتمردين على سياسة الإمبراطورية. ومن جملة الخدمات التي قدمها لهم تزويد المكاتب العربية بالمزيد من النفوذ والسلطة وذلك حتى يتمكن الجيش من فرض سيطرته على أبناء البلد الأصليين والمعمرين المدنيين معا.
إلا أن سياسة تجنب الدخول في صراع مع نابليون الثالث لا تعني تخلي الجالية الأوروبية عن فكرتها الأساسية وهي إبعاد القادة العسكريين من الحكم واستلام زمام القيادة بالجزائر. فنظرا لشعورهم بالضعف وعدم قدرتهم على مواجهة الجيش بالجزائر، قرر الأروبيون نقل المعركة إلى باريس حيث ضموا أصواتهم إلى خصوم الامبراطور وحاولوا تلويث سمعة حكومته واتهامه بالدكتاتورية. وتركزت حملتهم بصفة خاصة على مستقبل الفرنسيين المغترين وكيفية تذليل العقبات التي تعترض سبيل إقامتهم بالجزائر. ووجدت هذه الفكرة تجاوبا من طرف بعض القادة الباريسيين الذين تطوعوا للدفاع عن قضايا الجالية الأوروبية بالجزائر. وكانت الشخصية الفرنسية البارزة التي تزعمت حركة الدفاع عن مصالح الجالية الأوروبية في مجلس النواب الفرنسي هي سيادة جول سيمون Jules Simon الذي هو أحد قادة حزب الجمهورية([32]). وفجأة بدأ الرأي العام الفرنسي يظهر عداوته للحكم العسكري بالجزائر، خاصة وأن شخصية فرنسية مرموقة، مثل Prévost Paredol قد أظهرت حماسا لقضية الجالية الفرنسية بالجزائر وشنت حملة واسعة النطاق في la France Nouvelle التي شرح فيها أنواع القساوة التي يتعرض لها هؤلاء الفرنسيين الغرباء. وفي رأي قائد هذه الحركة أن الجزائر يجب أن لا تكون ” معسكر لتمرينات جيشنا … لكن أرض مسكونة ومملوكة ومحروثة من طرف الفرنسيين “([33]).
ثم انضم إلى صف المهاجرين الفرنسيين رجال الكنيسة الذين شعروا أن سبب فشلهم في تحويل الجزائريين إلى مسيحيين يعود إلى عدم تعاون القادة العسكريين معهم خاصة وأن أسقف الجزائر العاصمة لافيجري الذي تزعم حركة الدعوة المسيحية قد أصبح شبه مقتنع بأن الجيش هو الذي حال دون قيام دولة مسيحية بالجزائر([34]). والإضافة إلى هذه التجمعات المناهضة لنفوذ الجيش بالجزائر، فقد حدثت مجاعة مخيفة سنة 1867 وذهب ضحيتها نصف مليون جزائري([35]). وأدت هذه الكارثة إلى إعطاء فكرة سيئة للرأي العام الفرنسي عن الوضعية بالجزائر وإجراء تحقيق حول الموضوع.
واستجابة للضغط المتزايد عليه، أمر نابليون الثالث في أبريل 1868 بتكوين لجنة برلمانية وكلفها بمهمة استطلاعية في الجزائر. وأثناء إقامة اللجنة بالجزائر، استطاع السيد Le Comte Le Horn الصديق الروحي للإمبراطور، أن يتفهم نفسية الجالية الأوروبية ويقدم تقريرا مفصلا عن مطالبهم إلى مجلس النواب الفرنسي. ويبدو أنه كان مقتنعا مقدما بأن الحل الوحيد لإسكات المعمرين والتغلب على معارضتهم هو الاستجابة لرغباتهم. ومما جاء الوثيقة التي قدمها على مجلس النواب الفرنسي الاقتراحات التالية:
- توسيع رقعة الأراضي التي تخضع للنظام المدني.
- إلغاء ” المكاتب العربية ” التابعة للجيش.
- تقسيم أراضي الأعراش أو الأراضي التي تخضع للملكية الجماعية ولا تباع إلا باتفاق جميع الأفراد الذين يهمهم الأمر.
- السماح بتكوين الملكية الفردية.
- التخلص من قادة العرب الارستقراطيين.
- عدم استعمال الشريعة الإسلامية التي يتبعها القضاة وتطبيق قوانين العدالة الفرنسية على جميع القاطنين بالجزائر.
- تكوين هيئة محلفين من الفرنسيين للنظر في الأعمال الجنائية([36]).
وبالإضافة إلى هذه الاقتراحات المقدمة من طرف اللجنة البرلمانية تقدم المعمرون من جهتهم ببعض الاستثناءات التي يعفون بمقتضاها من القوانين الفرنسية:
- لا ضرائب على الأرض والممتلكات الأخرى.
- الإعفاء من الخدمة العسكرية.
- فرض ضرائب على أهل البلد الأصليين.
- خضوع المسلمين الجزائريين للقوانين الفرنسية وتطبيقها عليهم في جميع الحالات([37]).
وقد وصف أحد المعمرين: وأسسه De Montebello مقترحات اللجنة البرلمانية بأنه تهدف إلى تحقيق ” الإدماج الذي هو لصالح الفرنسيين فقط. فالمسلمون لا يرغبون في أي شيء ولديهم كل ما يحتاجون. إن الفرنسيين ليست لديهم نية لتقاسم امتيازاتهم أو سلطتهم مع أجناس يرغبون في أن ينزلوا بنا إلى درجة سفلى “([38]).
وعندما تطورت الوضعية لصالح المعمرين وأصبح النائب لو هون Le Hon المتكلم باسمهم في مجلس النواب الفرنسي، بادر وزير الحربية بكتابة رسالة إلى الامبراطور يوم 24 أفريل 1869 وأنذره فيها بتكهرب الجو وإمكانية حدوث اضطرابات خطيرة ما لم يسارع بتحويل قضية الجزائر من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ. ثم نصحه أن يوجه تعليمات لأعضاء المجلس الأخير بإعداد “دستور خاص” للجزائر على أن يتضمن الاعتراف بحقوق الجالية الفرنسية وصيانة مصالح أبناء البلد الأصليين. وفي الحين أمر الامبراطور الفرنسي بتعيين لجنة متكونة من تسعة أعضاء (3 عسكريين و6 مدنيين) وعلى رأسها الماريشال ” راندون “. وفي شهر مارس 1870، تقدمت اللجنة بمشروعها إلى نابليون الثالث الذي قبله في الحال وأحاله على مجلس الدولة للتأكد من سلامة محتويات الدستور الجديد الخاص بالجزائر. إلا أن مجلس النواب رفض المشروع بدعوى أنه لا ينص على ” الاندماج التام ” وأنه قد تم منح سلطات واسعة للوزير المقيم بالجزائر. ثم إنه يهدف إلى تجميد الوضع الراهن فيما يتعلق بأمور العدالة ولا يتماشى ورغبة الجالية الأوروبية في إيجاد نظام للمحلفين الذين ينظرون في جميع القضايا الجنائية. وأكثر من هذا، أصر النائب ” لو هون ” Le Hon وزميله Jules Favre على إدانة ” الدستور الخاص ” بالجزائر وذلك في جلسة مجلس النواب التي عقدت يوم 28 ماي 1870. وأخيرا، تعثر هذا المشروع وقضي عليه نهائيا في استفتاء 1870 الذي امتنع فيه عن التصويت 35% من المعمرين وقالوا لنابليون الثالث بأنهم ” يتجاهلون حتى وجود الإمبراطورية “([39]).
وهكذا تمكن المهاجرون الفرنسيون والأجانب من كسب المعركة وعرقلة مشاريع الامبراطور الفرنسي لترجيح كفة الجيش وإخضاع أبناء الجزائر لسيطرته. ففي المرسوم الصادر يوم 31 ماي 1870 أدخل تعديل على نظام ولايات الجزائر حيث أصبح كل والي تابع للحاكم العام وليس إلى جنرالات كل عمالة، كما كان في السابق([40]). ثم جاءت نكسة سدان ووقوع نابليون الثالث أسيرا في يد جيوش بيسمارك فأتيحت الفرصة لقادة النظام الجمهوري الجديد وزعماء الجالية الأوروبية بالجزائر لوضع برنامج مفصل يكفل لهم السيطرة على شمال افريقيا وفرنسة الجزائر بصفة خاصة. ومما يلاحظ في هذا الصدد أن المعمرين بالجزائر قد حملوا الامبراطور وجيشه مسؤولية الهزيمة واتهموا قادة الجيش الفرنسي بأنهم ” جبناء وخونة “.
التحالف الوطيد بين الجمهوريين والمعمرين
وبمجرد استيلاء الجمهوريين على الحكم، عقب الهزيمة الشنعاء أمام الجيش الألماني، بادر القادة الجدد بإصدار مرسوم في يوم 24 أكتوبر 1870 يقضي بتعيين حاكم عام مدني للمقاطعات الثلاثة بالجزائر. وحسب النظام الجديد، فإن حاكم الجزائر أصبح يتمتع بحق تنسيق الأمور العامة بينه وبين كل وزير في باريس وذلك في حدود اختصاص ونوعية المسائل المناطة إلى كل مصلحة حكومية.
وفي يوم 24 ديسمبر 1870 صدر مرسوم آخر في باريس ينص على تجريد المناطق الساحلية بالجزائر من النفوذ العسكري وجعل التل الجزائري خاضعا للحكم المدني. وجاء في نفس المرسوم أن الجيش ليس من حقه المحافظة على ” المكاتب العربية ” التي تقوم عادة بالجوسسة لحساب القيادة العسكرية بالجزائر وذلك في المناطق التابعة للنظام المدني. أما في مناطق الصحراء، حيث احتفظ الجيش بسلطته إلى أيام الثورة الأخيرة في فرنسا، فإن المكاتب العربية استمرت في عملياتها الاستخبارية.
وبعد تحقيق هذه الانتصارات السياسية، حول قادة الجالية الأوروبية أنظارهم إلى مسألة تعمير الجزائر بعناصر أوروبية قادرة على استغلال الأراضي والاستفادة من الطاقة البشرية المتوفرة بأرخص الأثمان. وحسب بعض الإحصائيات الواردة في المصادر الفرنسية فإن المعمرين الفرنسيين والأجانب كانوا يطمحون إلى جلب حوالي 2 إلى 6 أو 7 ملايين في الفترة الممتدة من 1857 إلى 1875. إلا أن الرقم الحقيقي الذي كانوا يعملون على تحقيقه هو 1.600.000 مهاجر جديد([41]). وسعيا وراء تحقيق هذا الهدف، رسموا خطة محكمة تتلخص فيما يلي: ” أخذ نصف أراضي العرب سواء بإبعادهم عزلهم أو مصادرتها ” ثم ” الاعتماد على الدولة لتمويل مشاريع الإسكان والإقامة “([42]). ومما جعل المعمرين مقتنعين بنجاح خطة مشاركة الدولة في مساعدتهم للتغلب على الصعاب التي تعترض سبيلهم هو تفاقم عدد اللاجئين الفرنسيين القادمين من مقاطعة ” ألزاس لورين ” التي أصبحت تابعة لألمانيا بعد هزيمة فرنسا. فالحكومة مجبورة على إيجاد العمل لأولئك الفرنسيين الفارين من المنطقة المحتلة وتجنب الحكومة الفرنسية قضية مزاحمة سكان فرنسا من طرف اللاجئين الجدد.
والحقيقة أن المعمرين بالجزائر قد حاولوا إظهار عضلاتهم أمام أهل البلد الأصليين والقادة الفرنسيين الجدد بباريس وذلك بتزعم ثورة سنة 1870. فمن جملة الأشياء التي قاموا بها في الجزائر العاصمة تنظيم حركة ثورية على الحكومة اليسارية المتطرفة التي استولت على باريس لمدة أسابيع عديدة، وطردوا الممثلين الرسميين للإمبراطورية الفرنسية([43]). ودفعت حماقة المعمرين إلى تنظيم ثورة شعبية جزائرية وذلك لوضع حد لسياسة اغتصاب الأراضي ومحاولة القضاء على مبادئ التشريع الإسلامي في البلد. ولعل الحوار التالي الذي دار بين أحد الجزائريين ومعمر أوروبي حول مفهوم إقامة حكومة مدنية في القطر الجزائري سيعطينا فكرة صادقة عن ماذا لحق بالجزائريين من بؤس وشقاء غداة استيلاء المعمرين على السلطة بالجزائر: ” ماذا تفهم من إقامة نظام مدني في الجزائر؟” تساءل أحد المعمرين أمام مواطن جزائري. وبكل بساطة أجابه ذلك الفلاح الجزائري: ” لقد كنت أملك عشرة محاريث، فأخذوا ثمانية منهم، وكان لدي الفين من الضأن فلم أعد أملك إلا عشرة فقط”([44]).
وهكذا انتقى النظام المدني الأسلوب الذي مكنه من فرض إرادته على الملاك الجزائريين وتحويلهم إلى مجرد عاملين بالأجرة أو مهاجرين إلى نواحي أخرى للبحث عن مكان آخر للارتزاق. ويبدو واضحا، من خلال الحقائق التاريخية المتوفرة لدينا، إن النظام العسكري في الجزائر من يوم الاحتلال إلى تاريخ قيام الجمهورية الثالثة يعتبر أهون من الحكم المدني في العصر الجمهوري. فعلى الرغم من تعنت القادة العسكريين واستيلائهم على الأراضي الخصبة لكي يصبحوا هم أسياد البلاد في القطر الجزائري ويقيموا المخططات الواسعة التي مكنت الدخلاء على البلاد من توطيد قدمهم وقهر أبناء شمال افريقيا بصفة عامة. فالقادة الجمهوريون هم الذين جاءوا بالبرامج المسطرة لتوسيع نطاق ” التعمير الرسمي ” وتقديم المساعدات الحكومية الضخمة لإنشاء المشاريع التجارية والعمرانية الخاصة بتسهيل إقامة الجالية الأجنبية بالجزائر. وأكثر من هذا، عمد قادة الجمهورية الثالثة إلى اتباع سياسة إخضاع تونس والمغرب وجلبهما تحت الحماية الفرنسية. وفي مسروم “كريميو” Cremieux الصادر بتاريخ 24 أكتوبر 1870 منحت الجالية اليهودية بالجزائر حق الحصول على الجنسية الفرنسية والتمتع بجميع الامتيازات التي يخولها القانون للرعايا الفرنسيين دون أن يتخلى هؤلاء اليهود عن عقيدتهم أو حقوقهم المدنية. وبهذه القرارات استطاع المهاجرون الفرنسيون والأجانب أن يستولوا على مساحات كبيرة من أراضي الجزائر ويضمنون لأنفسهم مستقبلا في شمال افريقيا. وهذا الحماس والتفاني في خدمة المهاجرين الفرنسيين والأجانب بشمال افريقيا يدفعنا لأن نتساءل إذا كان الغرض من تكوين الحكومة الوطنية للدفاع، التي جاءت عقب انهزام فرنسا في معركة ” سدان “، هو إعادة تنظيم فرنسا ومحو شيمة العار التي لحقت بها أم التطوع لمناصرة الغزاة الأوروبيين بالجزائر. ففي مدة لا تتجاوز خمسة أشهر، أصدرت الحكومة الجديدة 58 مرسوما تقضي بتدعيم مكانة المعمرين في هذا البلد وتحقيق سياسة ” الإدماج ” بالجزائر([45]).
لماذا تحمس القادة الجمهوريون لقضية شمال افريقيا وأعطوا عناية كبرى لسياسة فرنسا الجديدة؟ الجواب على هذا، حسب ما ذهب إليه بعض الخبراء في المستعمرات الفرنسية، هو تقهقر فرنسا في القارة الأوروبية ومحاولتها العثور على مكان آخر يتيح لها فرصة استعادة مكانتها المرموقة في العالم. وهذا المكان الذي تجد فيه فرنسا حرية العمل وبعث مجدها من جديد دون إثارة غضب الدول الأوروبية صاحبة النفوذ الكبير هي المستعمرات الافريقية التي لن تقوى على مجابهتها([46]). والعامل الثاني الذي دفع الجمهوريين إلى اختيار سياسة غزو المستعمرات وبسط نفوذ فرنسا هناك هو تناطح الأحزاب الفرنسية على السلطة وصعوبة الاتفاق على اتباع سياسة موحدة مقبولة لدى جميع الأطراف المعنية إلا في ميدان التوسع الخارجي وخاصة في شمال افريقيا التي كانت محط أنظار التوسعيين والعسكريين والتجار الفرنسيين. وهذا الاتجاه السياسي واضح لدى الأحزاب الفرنسية التي تبحث دائما عن مصلحتها الخاصة حيث أن الجزائريين كانوا محرومين من حق الاقتراع في الانتخابات العامة وليس بإمكانهم ترجيح كفة أي حزب أو تغيير مجرى الأمور في فرنسا. وما يهم الأحزاب ويؤثر في مستقبلهم إنما أولئك المعمرون الذين كانت تساندهم الصحافة ورجال الأعمال وقادة الجمهورية الثالثة الذين أبدوا تفهما كبيرا لرغبة المستوطنين الفرنسيين في إقامة نظام مدني يستمد قوته ونفوذه من الجالية الفرنسية التي عقدت العزم على فرنسة الجزائر وإقصاء الضباط الفرنسيين عن كرسي الحكم.
وابتدأت سياسة الجمهوريين تتخذ شكلا جديدا في الجزائر حيث استقر الراي على رفع معنويات المستوطنين الفرنسيين بتقديم معونات مالية وعقارية إليهم حتى يتمكنوا من توطيد أقدامهم بالقطر الجزائري. وتحقيقا لهذا الهدف تعهدت الدولة الفرنسية بتخصيص إعانة مالية لبناء المدن والمدارس في الأماكن التي يقطنها المستوطنون الفرنسيون وتوفير القروض لرجال الأعمال الذين يرغبون في القيام بمشاريع تجارية. كما قدمت الحكومة تسهيلات بشأن الهجرة إلى الجزائر ووضعت تحت تصرف المهاجرين الجدد الأراضي الشاسعة لاستغلالها دون مقابل. وتجسمت هذه السياسة في القانون الصادر يوم 21 جوان 1871 والذي وافق فيه مجلس النواب الفرنسي على منح 000 100 هكتار للاجئين الفرنسيين من ألزاس – لورين. كما اقترحت لجنة برلمانية مصادرة 000 340 هكتارا من أراضي الجزائريين وذلك لتسكين الوافدين الجدد على الجزائر. ولم يكتف البرلمان بهذا، بل استغل ثورة الجزائريين على فرنسا سنة 1871، وأعطى موافقته على فرض ” ضريبة الحرب الإجبارية ” كعقاب على حمل الأسلحة ضد فرنسا. ومع أن مجلس النواب الفرنسي حدد قيمة الأموال التي يدفعها الجزائريون بــ 25 مليون فرنك إلا أن هذا المبلغ قد ارتفع إلى 298 582 36 فرنك في جوان 1872([47]). غير أن مجلس النواب الفرنسي سرعان ما شعر بالعبء المالي الثقيل على كاهل الشعب الفرنسي، فأصدر قانونا في 15 سبتمبر 1871 يقضي بأن يكون في حوزة كل مهاجر فرنسي إلى الجزائر ما يعادل 5000 فرنك فرنسي على أن تتكفل الدولة الفرنسية بنقلهم على حسابها الخاص وتشييد القرى والمدارس والبلديات في الأماكن التي يستقرون بها([48]).
وبعد عامين من تدفق المهاجرين الفرنسيين والأجانب على الجزائر اتجهت نية قادة الجمهورية إلى توسيع رقعة المعمرين على حساب ملاك الأراضي الجماعية حيث تقرر أن لا يسمح لأهل البلد الأصليين بأي شبر من الأراضي يفوق ما يستطيعون خدمته من أراضيهم. كما ينص قانون 26 جويلية 1873 الذي أقره مجلس النواب الفرنسي على اعتبار كل الأملاك العقارية خاضعة للقانون الفرنسي. وهذا يعني أن أراضي الورثة ينبغي أن تقسم وإنه لم يعد من حق المسلمين المحافظة على الأملاك الجماعية التي هي عادة مرعية في الشريعة الإسلامية. وزيادة على ذلك فإنه نتج عن هذا القانون نوع من المضاربة والتسابق إلى التخلص من الأراضي الشيء الذي أدى إلى قيام نزاعات وحزازات محلية بين المواطنين الجزائريين. ثم إن الفرنسيين أنفسهم استغلوا هذه النقطة بالذات وحرضوا الملاك الصغار والورثة على المطالبة بحقوقهم ومساعدتهم للتغلب على خصومهم في حالة ما إذا آل الأمر على المحاكم لتبت في الأمر. ومما لا جدال فيه هو أن عددا لا يستهان به من سكان البلد الأصليين قد خسروا أراضيهم في النهاية وذلك نظرا لقلة إلمامهم بالإجراءات القانونية الدقيقة التي ينبغي اتباعها لإثبات حقوق الملكية وربح المعركة ضد المهاجرين الأجانب([49]).
التمهيد لسياسة الإدماج
تعتبر سنة 1876 بمثابة تحول خطير في حياة الجيش الفرنسي. لقد جاء مرسوم 30 جوان 1876 لينهي حكم الجيش وسيطرته على المنطقة الساحلية من الجزائر وإلحاق هذه الناحية بالوزارات المختلفة في باريس. وكان الهدف من هذا التغيير حسب ما بدأ في أول الأمر هو إدماج الجزائر في فرنسا وجعلها مقاطعة فرنسية تتمتع بحكم مدني مثلما هو الحال في فرنسا. وفي الحقيقة فإن الدافع الحقيقي لهذا التحول السياسي هو إتاحة الفرصة للجالية الأوروبية بالجزائر لتفرض وجودها على الحاكم العام بالجزائر العاصمة وتوجه أمور البلاد من الخلف دون ظهورها على مسرح الأحداث. كما أن الجالية الأجنبية بالجزائر كانت تسعى بكل قوة وجهد لوضع حد لنفوذ البيروقراطية الباريسية في الجزائر خاصة وأنها كانت تتحكم في مصير الشعب الفرنسي وذلك نظرا لضعف الحكومات وعدم استقرار الوضع السياسي بالبلاد. والشيء الملاحظ هو أنه بمقتضى هذا المرسوم وجهت التعليمات إلى الوزراء لكي يحولوا جميع المراسيم والقرارات التي تتعلق بالجزائر والتي هي من اختصاصات وزاراتهم إلى الحكام العام بالجزائر لكي تطبق وتدخل حيز التنفيذ. وتوثقت العلاقات بين الحاكم العام المدني بالجزائر والوزراء الفرنسيون على درجة أن أصبح الأول يقترح على الوزراء السياسة التي ينبغي اتباعها في الجزائر وإمضاء القوانين والمراسيم الرئاسية التي ليست لها صلاحية دون موافقة الحاكم العام([50]).
وما يثير الاندهاش والاستغراب هنا هو أن الزيادة في الصلاحيات السياسية للحاكم العام لم تكن مصحوبة بمراسيم تحدد فيها مسؤوليته أو الجهات التي تحاسبه على أعماله بالجزائر. فالوزراء منحوه ثقتهم وخولوا له تمثيل وزاراتهم بالجزائر وهو غير مسؤول أمامهم. ومعنى هذا أنهم يتحملون مسؤولية جميع أعماله بالجزائر بغض النظر عن نوعية هذه الأعمال. ثم إن الجزائر أصبحت ملحقة بفرنسا من الناحية الإدارية في حين لم يكن ممثلون لها بالبرلمان الفرنسي وليس هناك أي إنسان يستطيع التحدث عن مشاكلها وتمثيل سكانها !
ولم يمض على قيام الحكم المدني بشمال القطر الجزائري إلا سنتان وبضعة أشهر حتى توطدت أقدام الجالية الأوروبية بالبلاد وأصبح في إمكانها التصرف بكل حرية وغطرسة في شؤون الجزائر. ففي عام 1878 تمت عملية مصادرة أملاك الأفراد الذين اعتبروا متمردين عن السلطة الفرنسية التي قررت الاستفادة منها([51]). ثم جاء مرسوم 30 سبتمبر 1878 الذي نص على تسكين المهاجرين الفرنسيين المقيمين في ” القرى الرسمية ” التي بنتها الحكومة الفرنسية خصيصا لهم دون مقابل على شرط أن يمكثوا بها ثلاث سنوات وأن يحسنوها على أن يبلغ إنتاج الهكتار الواحد في السنة 100 فرنك قديم. وبهذه الطريقة، استطاعت الحكومة أن تفتح مجالات أعمال جديدة بالنسبة للطبقة المهاجرة من فرنسا التي كانت تنتج الخمور في منطقة ” وادي الرون ” والتي تعرض منتوجها إلى كساد كبير لا مثيل له في تاريخ فرنسا. ونتيجة لسياسة تشجيع الهجرة وتقديم المساعدة للجالية الأوروبية ارتفع عدد الأجانب الذين كانوا مقيمين بالجزائر إلى 965 198 مهاجر في سنة 1878. ونظرا لخبرة هؤلاء المهاجرين في العناية بالكروم وتحسين أنواع الخمور فقد حدثت زيادة كبيرة في الإنتاج سنة 1880 الشيء الذي نتج عنه التخلي عن العناية بالخمور من طرف الملاك والانتقال إلى المدن وذلك نظرا لصعوبة الارتزاق من الخمور التي سيطر عليها كبار الملاك والشركات العملاقة التي لا يقوى على منافستها الأفراد العاديون([52]).
وبصفة عامة فإن العقد الأول من حياة الجمهورية الثالثة 1871-1881 قد تميز بهجرة الأوروبيين إلى الجزائر على نطاق واسح بحيث أن نسبة الزيادة في الهجرة بلغت 50%. وبالرغم من تدفق الأجانب على القطر الجزائري بكمية ضخمة فإن ذلك لم يكن مرضيا لحكومة السيد “والديك روسو ” الذي أتى بخطة ” الخمسين مليون فرنك ” لشراء الأراضي اللازمة لتوطين 15.000 اسرة جديدة([53]). كما أن هذه الحقبة من تاريخ العلاقات الفرنسية الجزائرية قد سادها انتقال السلطة والنفوذ من يد الجيش إلى يد الطبقة المدنية التي كانت تسير تحت قيادة الحاكم العام بالجزائر. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو المرسوم الصادر في 21 أوت 1871 الذي بمقتضاه أصبحت القوانين الصادرة عن البرلمان الفرنسي تنطبق على فرنسا والجزائر في آن واحد. كما خول للحاكم العام باتخاذ جميع القرارات التي تهم الجزائر بعد استشارة الوزراء الذين يعنيهم الأمر في العاصمة الفرنسية. وبموجب نفس المرسوم صدرت الأوامر إلى الولاة وقداة الفرق في الجيش الفرنسي بضرورة الاتصال بالوزارات المختلفة في باريس من خلال مكتب الحاكم العام واطلاعه على جميع التطورات بالقطر الجزائري. وفي نفس الوقت أعدت ميزانية خاصة بالقطر الجزائري وألحقت بميزانية الدولة([54]). ومن كل هذا يتضح لنا أن الحاكم العام اصبح هو المخطط الكبير لسياسة إدماج الجزائر في فرنسا ما دام هو المكلف باطلاع الوزراء على ما ينبغي عمله بالجزائر والمنسق الحقيقي بين مصالح الجالية الأوروبية بالجزائر والحكومة الفرنسية المصممة على إشباع حاجيات المستوطنين الأوروبيين.
وفي مطلع 1880 استيقظت فرنسا إلى حقيقة مرة وهي أن الجالية الأجنبية المهاجرة إلى القطر الجزائري أصبحت تشكل خطرا على مصالح ومستقبل فرنسا بشمال افريقيا. فالإحصائيات تشير إلى أن المهاجرين الأجانب والفرنسيين على الجزائر كلفوا الشعب الفرنسي الذي دفع من دمه ولحمه جميع نفقات توطينهم والتي لا تقل عن 55.000.000 فرنك قديم سنويا، أي ما يقارب 4 مليارات ونصف مليون من الفرنكات في الفترة الممتدة من 1830 إلى 1900([55]). كما أن جميع الوثائق تؤكد أن المهاجرين الأجانب إلى الجزائر يفوق عددهم المهاجرين الفرنسيين في كل إحصائية بعد 1832. وقد دفع هذا بفرنسا إلى اتباع سياسة جديدة تهدف إلى تشجيع الفرنسيين على الهجرة على الجزائر وفرض قوانين الولاء والطاعة لفرنسا على جميع الأجانب الذين يرغبون في الإقامة بالقطر الجزائري. وتحقيقا لهذه الفكرة، جاء مرسوم 26 جوان 1889 الذي فرضت بمقتضاه الجنسية الفرنسية على كل صبي ولد بالجزائر بغض النظر عن أصله ونسبه باستثناء الشبان الذين يختارون جنسيات أخرى عند بلوغهم سن الثامنة عشر. وكان أمل فرنسا من هذا القانون هو تكوين جيل من أبناء الأجانب والفرنسيين الذي يكون نواة للمستوطنين الفرنسين بالجزائر مثلما حصل في أمريكا حيث انصهرت جميع الفئات المهاجرة في بوتقة واحدة وكونت لنفسها وطنا في العالم الجديد. كما أن فرنسا كانت تطمح إلى تثقيف الجيل الأوروبي الجديد المتأقلم بشمال افريقيا ومساعدته على توطيد قدمه في هذه المنطقة خاصة وأنه سيكون مرتبطا عاطفيا بالناحية الحضارية لفرنسا وتوجيهاتها الثقافية([56]). ولا يفوتنا أن نشير هنا على أن القانون الصادر في 24 أكتوبر 1870 كان قد منح الجالية اليهودية حق الحصول على الجنسية الفرنسية ثم جاء في أعقابه قانون 26 جوان 1889 الذي سمح لجميع الأجانب المطالبة بالجنسية الفرنسية. ولم يستثن من هذين القانونين إلا أبناء البلد الأصليين الذين لا حق لهم في بلادهم سوى الخضوع للوافدين الأجانب إلى وطنهم.
وقد أبدت فرنسا رغبة كبيرة في توطيد قدمها بالجزائر والتوسع إلى تونس في مطلع 1880 بصفة خاصة لأن هذه الفترة تميزت بالتنافس الشديد بين الدول الأوروبية العملاقة على توسيع رقعة نفوذها في افريقيا وإيجاد أسواق جديدة لبضائعها. وتمشيا مع سياسة فرنسة الجزائر اتخذت السلطات الفرنسية القرارات التاريخية الصادرة في 6 أفريل و26 نوفمبر 1882 وما تلاهما من مراسيم حكومية تنص على إعطاء الحكم الذاتي للجالية الأوروبية بالجزائر والتصرف بحرية في مصير الجزائر. وبمقتضى الامتيازات الجديدة للمعمرين الفرنسيين والأجانب بالجزائر أصبح من حقهم:
(1) مضاعفة عدد من يمثلهم بالجمعية الوطنية الفرنسية بحيث ارتفع عدد النواب الذين يمثلون الجزائر من 3 إلى 6.
(2) توسيع منطقة النفوذ الخاضعة للسيطرة المدنية وذلك بجعل المساحة التابعة للبلديات 000 980 كيلو متر مربع في عام 1886 في حين أن الرقعة الخاضعة للحكم المدني لم تكن تتجاوز 650 48 كيلو متر مربع سنة 1878.
(3) إنشاء بلديات جديدة للتنظيم والإشراف على الأراضي التي أصبحت تابعة للحكم المدني وهذا واضح من الزيادة الهائلة في عدد البلديات التي منحت حق السلطة الكاملة بحيث أن عددها قد ارتفع من 198 في عام 1882 إلى 248 بلدية في سنة 1890.
(4) الاستفادة من القانون الفرنسي الصادر عام 1884 والذي قرر بمقتضاه انتخاب رؤساء وأعضاء المجالس البلدية بدلا من تعيينهم من طرف الحكام الجهويين. وبهذا جرد الحاكم العام بالجزائر من البطاقة الرابحة التي كانت تخول له حق انتقاء العناصر التي تتعاون معه ومضايقة الأفراد الذين ينتقدون سياسته في الجزائر.
الخلاصة
إننا نرى أن أكبر جريمة ارتكبتها الدولة الفرنسية في الجزائر، سواء من طرف حكومات فرنسا المتعاقبة أو من طرف المستوطنين الأروبيين في الجزائر أو من طرف الجيوش الفرنسية من جوية وبرية وبحرية، هي تدمير الأراضي الجزائرية وحرمان سكانها من كسب عيشهم في بلدهم، بحيث يتم إخضاعهم بالعنف وبالقوة وبالنفي إلى غويانا وكاليدونيا الجديدة، وبالاضطهاد وإجبارهم على مغادرة أراضيهم سواء بتهجيرهم إلى فرنسا، أو قتلهم إذا قاوموا قوات الاحتلال الفرنسي في الجزائر.
صحيح أن هناك جرائم قانونية وسياسة واعتداءات عسكرية يصعب وصفها، ولكن حرمان الجزائريين من استغلال أراضيهم وكسب عيشهم في بلدهم، هي الجريمة التي ينبغي التركيز عليها في هذه المدونة. ليكن في علم المؤرخين والمفكرين أن قوات فرنسا بالجزائر هي عبارة استيطان أوروبي، كان هدفه احتلال الجزائر والبقاء فيها إلى الأبد، وإقامة دولة أوروبية في الجزائر إذا اقتضى الأمر. وخلافا للدول التي احتلتها فرنسا مثل تونس والمغرب وسوريا ولبنان والتي تم وضعها تحت الحماية الفرنسية، فإن الجزائر تعرضت للمسخ والقضاء على اللغة العربية وحرمان أهلها من حقوق الملكية وحرية التعبير والعيش في ظل العبودية والاستغلال الأبدي. ولهذا حاول الكاتب في هذه المدونة أن يكشف جرائم غلاة الاستعمار في الجزائر الذين انتصر عليهم الشعب الجزائري في عام 1962 واستعاد حرية وسيادته وبتروله وأراضيه الخصبة.
([1]) رئيس المجلس العلمي لرابطة الفكر والثقافة بالجزائر.
([2]) J.L. (De) LANESSAN : L’expression Coloniale de la France. Paris : Anicenne librairie Gerner Baillière et Cie, 1886, P. 84.
([3]) LANESSAN, Op. Cit. p. 84.
([5]) Alexis de TOCQUEVILLE, Œuvres, Papiers et Correspondance de Tocqueville. Paris : Editions Gallimard, 1962, p. 338.
([6]) LANESSAN, Op. Cit. p. 82.
([7]) TOCQUEVILLE, Op. Cit. p. 264.
([9]) Malvin RICHTER « Tocqueville on Algeria ». The Review of Politics. Vol. 25, Number 3, (July, 1963), p. 389.
([15]) Charles – André Julien, Histoire de l’Algérie Contemporaine : La Conquête et les débuts de la Colonisation : 1827-1871, paris : Presse Universitaires de France, 1964, pp. 342-343.
([16]) Gordow WRIGHT, France in modern Times: 1760 to the present Time. Chicago: Rand Mc Nally C°, 1960, p. 256.
([17]) Julien, Op. Cit. p. 350.
([18]) frederic MAURO, L’Expansion Européenne : 1600-1870. Paris : Presses Universitaires de France, 1964, p. 248.
([19]) Quoted in Maurice MOISSONIER, « Origines et débuts de la conquête de l’Algérie », Cahiers internationaux, vol. 12, N° 113, 1960, p. 75.
([20]) Julien, Op. Cit. p. 354.
([21]) Un Algérien, « La Question Algérienne » Revue Politique et Parlementaire, Volume 29, (Juillet, Août, Septembre) 1901, p. 90.
([22]) JULIEN, Histoire de l’Algérie Contemporaine, Op. Cit. p. 405.
([23]) Henri BLET, Histoire de la Colonisation Françoise : 1789-1870, Paris : B. Arthaud, 1946, p. 185.
([24]) Stephen H. ROBERTS, History of the French Colonial Policy 1870-1925 (two volumes), London: P.S. King, 1929, p. 197.
([25]) Robert ARON, Les origines de la guerre d’Algérie, Paris : Fayard, 1962, p. 42.
([26]) Wright, Op. Cit. p. 258.
([27]) Lanessan, Op. Cit. pp. 90-91.
([28]) Vincent Confer, French and Algeria : The problem of civil political reform, 1870-1920. Syracuse, N.Y. Syracuse University Press, 1960, p. 5.
([29]) Roberts, Op. Cit, p. 199.
([30]) Edward Behr, The Algerian problem, New York : W.W. Norton and Company Inc. 1962, p. 34.
([32]) Quoted in Confer, Op. Cit., p.5 from August Brunet, Jules Simon & le problème de la constitution coloniale. Paris : Charles Lavaxuelle, 1945.
([33]) Blet, Op. Cit., p. 191.
([34]) Ibid, p. 19 : for a good study of this question, see : Marcel Emerit, « Le problème de la conversion des Musulmans d’Algérie sous le Second Empire : le conflit entre Mc Mahon et Lavigerie », Revue historique (Javier-Mars) 1960, pp. 63-84.
([35]) Charles Henri Favord, la Révolution Algérienne : Plon, 1959, p. 15.
([36]) Charles Robert Ageron, Les Algériens musulmans et la France : 1871-1919. Paris : Presses Universitaires de France, 1968, p. 44.
([39]) Ibid, p. 44, and Julien, Op. Cit., pp. 442-446.
([40]) Lanessan, Op. Cit., p. 92.
([41]) Ageron, Op. Cit. p. 53.
([43]) Nevill Barbour (Editor), A Survey of North Africa (The Maghreb), London : Oxford University Press, 1962, p. 221.
([44]) Ageron, Op. Cit., p. 9.
([46]) Brunschwig, Op. Cit., p. 177.
([47]) Ageron, Op. Cit., pp. 26-27.
([48]) Lanessan, Op. Cit., p. 42.
([49]) Roberts, Op. Cit., p. 200, and Lanessan, Op. Cit., pp. 45-47.
([50]) Lanessan, Op. Cit., p. 200.
([51]) Roberts, Op. Cit., p. 200.
([52]) Mathews, Op. Cit., p. 16.
([53]) Roberts, Op. Cit., p. 60.
([54]) Lanessan, Op. Cit., pp. 96-97.
([55]) Henri Pensa, « Revue des questions coloniales », Revue Politique et Parlementaire, Volume 27 (Janvier-Février-Mars) 1901, p. 397.
([56]) Thomas W. Balch, « The French colonization in North Africa », The American Political Science Review, Vol. 3, Number 4, (November), 1904, pp. 543-544.