التعريب في الوطن العربي:
الهيمنة الأجنبية والمصالح الطبقية وراء التعطيل
لقد كثر في هذه السنوات الحديث عن تعميم استخدام اللغة العربية في مؤسسات التعليم والإدارة العربية، والتخلص من التبعية للثقافات، واللغات الأجنبية التي أصبحت عبارة، عن أداة لإبقاء الهيمنة الأوروبية والأمريكية في الوطن العربي، فهناك من يقاوم استخدام اللغة العربي، في الوقت الراهن، بدعوى أن اللغة العربية. متخلفة عن العصر، موغلة غي القدم، لا تؤدي بصفة كاملة غير المضامين القديمة التي تجاوزها الزمن، فهي أعجز، من أن تعبر عن مستجدات الحضارة ومقتضيات التطور العصري الذي يعتمد بصفة أساسية على العلوم التقنية(1). وهناك أيضا من يناصب لغته الوطنية العداء على أساس أنه يخاف على المستوى العلمي الذي بلغه لأن تعريب التعليم واستعمال اللغة العربية، يسيء إلى مستوى بعض الأساتذة الجامعيين، ويبعدهم عن ثقافة الغرب العلمية، التي هي أساس مستواهم ومرجع أبحاثهم(2). كما يضاف إلى هذين الرأيين رأي ثالث يتشبث به أصحاب الاتجاه الغربي وخلاصته، أن اللغة عبارة عن “وسيلة للتبليغ” وبالتالي، يمكن المفاضلة بين اللغات العربية، واللغات الأجنبية، وإذا اقتضى الأمر، تجاهل الدور المتميز للغة الوطنية، واعتبارها أداة قابلة للاستبدال بلغة أنضج وأتم وأيسر وأقدر على المساهمة في تحقيق التطور المنشوذ(1).
وبالمقابل، هناك من لا يأبه لهذه الحجج الواهية ويرى أن تعميم استخدام اللغة العربية ماهو إلا وجه من وجوه التحرر الوطني، والتخلص من الرواسب الاستعمارية الباقية في عقليات بعض العناصر المشكوك في انتمائها الوطني. فاللغة الوطنية، في الواقع، تعتبر مطلبا شعبيا، وفي تحقيق هذا المطلب، تأكيد لجانب من السيادة الوطنية وتخلص من تبعية مفروضة، فما الذي يحول دون إنجاز هذا المطلب؟ بعدما أصبحت قوة القرار بيد السلطة الوطنية؟ ويؤكد أصحاب هذا الرأي الغيارى على عروبتهم وإسلامهم أن اللغة، أيا كانت، أهم وأخطر بكثير من أن تكون مجرد أصوات وأدوات للتفاهم أو تبليغ فكرة معينة، فهي على مستوى الماضي الذاكرة الجماعية للأمة المحافظة لخلاصة تجربتها في التاريخ، وحصيلة ما أسست لنفسها من أساليب النظر والفكر والتقويم والاكتشاف. وهي على مستوى الحاضر خير معبر عن الهوية القومية للأمة وما انتهت إليه من درجات النضج والنمو، وهي على مستوى المستقبل طريق وحيدة لكل نمو داخلي عضوي، يمكن أن يستفيد من التجارب الإنسانية كافة، دون أن يركن إلى التواكل والبحث عن الحلول الجاهزة أو الملفقة، أو ينجح إلى الإتباع فيقبل الاستلاب ويفقد القدرة على الإبداع، ويستقيل من كل مهمة في صناعة التاريخ والمساهمة في إثراء الثقافة الإنسانية(2).
وعلى هذا الأساس، فالهدف الأساسي، لتعميم استخدام اللغة العربية في الإدارات، ومؤسسات التعليم هو إعادة الاعتبار للغة الوطنية والاعتماد عليها، كأداة للتبليغ والتكوين، وخلق الوعي، وذلك لأنها جزء لا يتجزأ من الشخصية الوطنية. وإذا كانت اللغة العربية قد تم تعطيلها، خلال الفترة الاستعمارية وحظر استعمالها من طرف أعدائها بحيث لا تستطيع تلبية حاجات المجتمع العربي في المدرسة والجامعة والإدارة وبالتالي يتوقف التحدث بها ويصعب الإنتاج بها، فإنه لا مفر من إحلال اللغة العربية محل اللغات الأجنبية وإعطائها المكانة المرموقة في مجتمعها الأصيل، بحيث تكون لغة التعبير الرئيسة، وتصبح أداة للتعامل في مجالات التعليم والبحث والتجارة والمرافعات في المحاكم والمراسلات الإدارية.
ثم إن هناك رأيا آخر في موضوع تعميم استخدام، اللغة العربية في مؤسسات التعليم والإدارة العربية، وهو أن التقدم والتحرر مرتبطان باستعمال اللغة الوطنية. فقد أدرك العديد من القيادات الوطنية أن الحديث عن التقدمية، بمعزل عن الجماهير العريضة، وخارج إطار لغتها القومية، وبالاعتماد على لغة أجنبية وثقافة أجنبية مهيمنة قد يعتبر وجها من وجوه التسلط النخبوي، وهذا الحديث يمكن أن يوصف بأنه أعجز من أن يتمكن من تعبئة الجماهير، والتأثير فيها وتجسيد مطامحها المشروعة في التحول والنمو(1). ويستخلص من هذا الاتجاه، أن الحكومات الوطنية قد فطنت أيضا إلى أن الجماعات والأفراد الذين ينادون بالتقدمية والعلمية والمحافظة على اللغات الحية على حساب اللغة الوطنية، “إنما هم في الواقع، يدافعون عن امتيازات نخبوية ثقافية أدركوها في ظروف معينة، ونشأت عنها بالضرورة امتيازات اجتماعية واقتصادية. فهم في الواقع يدافعون عن مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة التي حصلوا عليها بسبب إلمامهم بهذه اللغة الأجنبية والدور المهيمن الذي تلعبه. وهكذا ترتبط مصالحهم بمصالح الهيمنة اللغوية – الثقافية الأجنبية، ويستفيدون من مواقعهم التنفيذية في الإدارة وفي المؤسسات التربوية، ليجعلوا مقاييس العلم، والبحث والنجاعة في العمل الإداري والفني متماشية مع هذه الهيمنة ومستجيبة لتلك المصالح”(2).
وهناك رأي ثالث يعتقد أنصاره أن التعريب لا يمكن أن يتم بمعزل عن الاستعمال. فاللغة تحيا بالاستعمال ولا تحيا في بطون الكتب. كما أن الأمر، لا يحتاج إلى رياء أو نفاق، فالشيء المعروف عالميا أن الإنسان يستطيع أن يستوعب بلغته الأم أضعاف ما يستوعبه باللغة الأجنبية مهما كانت درجة إتقانه لهذه اللغة، وإذا تمكن الشباب العربي من إتقان لغته، واستعملها فإنه يستطيع أن يبدع ويشارك في إثراء الحضارة الإنسانية واللحاق بركبها المتقدم. وقد أصبح الآن واضحا للعيان، مدى الارتباط القوي بين الإبداع، وبين اللغة القومية، فهناك العديد من الدول، التي لم تكن لغتها لغة علم في الماضي، لكنها الآن صارت متقدمة ومتطورة لأنها بادرت باستعمال لغتها في التدريس والبحث العلمي، وتخلصت من اللغات الأجنبية الدخيلة، فهاهي يوغسلافيا وبلغاريا وتركيا واليابان وغيرها من الدول التي لم تكن للغاتها التجربة التاريخية التي مرت بها اللغة العربية ومع ذلك فإنها تدرس الطلب والهندسة والعلوم في جامعاتها بلغتها الوطنية. ولهذا، فإن التطور الاقتصادي والسياسي، الذي حققته أمتنا العربية في المشرق والمغرب، بعد الحرب العالمية الثانية، بات يحتم علينا الانتقال بقرار سياسي يجعل اللغة العربية لغة العلم والبحث العلمي في جميع المؤسسات التعليمية الجامعية منها، وغير الجامعية. وباختصار، فإن استعمال اللغات الأجنبية لا يقودنا إلى مرحلة الإبداع، ولا يساعد على خدمة مصالحنا وإنما يساعد الدول الأجنبية على بقائنا في حالة التبعية العلمية والفكرية. وفي جميع الحالات، فإن تقدمنا متوقف على مدى استعمال لغتنا في بنائنا الحضاري. والمشكل في الواقع يمكن تلخيصه في الآتي: أن قضية التعريب وتعميم استخدام اللغة العربي في التدريس والبحث العلمي، ليست قضية تتعلق باللغة من حيث كونها لغة ولكنها تتعلق بإرادة سياسية تقررها الأمة في أعلى مستوياتها(1).
الضعف يكمن في الاقتداء بالغالب
في الحقيقة، أن ما قاله ابن خلدون في المقدمة منذ عدة قرون، هو الدافع الأساسي للمحاولات الرامية لإبقاء اللغة العربية بعيدة عن المراكز الرئيسية للحياة والنفوذ في الأقطار العربي، فقد قال بالحرف الواحد على ما اتذكر، جملته المشهورة: “المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيع ونحلته وسائر أحواله وعوائده”. وقد عشنا ورأينا بأعيننا عندما كنا نواصل دراستنا بالجامعات الأجنبية، أن كل أبناء الأمم، يتعلمون بلغة أبناء البلد، ويحرصون على الاستفادة من اللغة، ومن المادة العلمية التي يتخصصون بها. وليس هناك جدال في أن مستوى التعليم والبحث العلمي، في مؤسسات التعليم العالي بالدول الصناعية رفيع جدا، والأساتذة تتوافر فيهم الكفاءة والنجاعة في العمل. لكن الشيء المدهش حقا، هو أن نجد المتخرج الياباني والصيني واليوغسلافي والبرازيلي، يعودون إلى بلدهم لتوظيف المعلومات التي حصلوا عليها خلال دراستهم، في خدمة مجتمعهم، وتحقيق الأهداف التي رسمتها حكوماتهم الوطنية وذلك بلغتهم الوطنية، أما بعض العناصر العربية، التي تخرجت وعادت إلى وطنها فإنها لا تحاول أن تستعمل العلم الذي حصلت عليه وتحوله إلى ثروة وطنية تساهم في تقوية المحتوى، وإخضاعهم للأوضاع ومعطيات البيئة العربية، بل تسعى إلى إبقاء الجامعات ومعاهد التدريس ومؤسسات البحث العلمي تابعة للثقافة الأجنبية وبعيدة كل البعد عن المجتمع العربي، وبالتالي تصير هذه المؤسسات شبه عاجزة عن أداء وظائفها الرئيسية، لأنها لا تقوم بالدور المطلوب منها، وهو إثراء الثقافة القومية وتغذية المعرفة العلمية ورفع المستوى الاجتماعي في مختلفة الميادين.
ومع أن هناك عدة تعديلات وتأويلات لهذه الظاهرة الغريبة في مجتمعاتنا العربية، إلا انني أجد نفسي متفقا في الرأي مع أحد الزملاء التونسيين الذي قال بأن “المستعمل للغة الأجنبية كوسيلة وحيدة لتفتحه لا يعرف من اختصاصه أو من الثقافة الإنسانية إلا ما تسمح له بمعرفته هذه اللغة”(1). وانطلاقا من هذه الحقيقة نستطيع أن نستخلص بأن استعمال اللغة الأجنبية يفرض مضمونا معينا من التفكير والسلوك مستمدين ومرتبطين بالتطورات التي تحدث في مجتمعات ما وراء البحار، أكثر مما تعبر عن واقع المجتمع العربي. ثم إن معرفة اللغات الأجنبية أصبحت تستعمل كغطاء للمحافظة على المستوى العلمي، وبالتالي تساعد في الحصول على المناصب العليا، وبذلك ارتبطت المصالحة العضوية باللغات الأجنبية إلى درجة أن زوال اللغة الأجنبية أصبح يعني زوال المنصب والنفوذ. وإذا تعثرت المحاولات الرامية لتعميم استخدام اللغة العربية في أي بلد عربي فإن السبب في ذلك ينحصر في العناصر المتمسكة “بهيمنة اللغة الأجنبية والذين يستعملون نفوذهم في المواقع الإدارية والقيادات الجامعية للتشكيك في تجربة التعريب ومناهضتها والحفاظ على المنزلة الخاصة للغة الأجنبية المهيمنة”(2).
أما النقطة الثانية، التي تلفت الانتباه فهي معنى التعريب، فهناك من يتصور أن التعريب، يعني ترجمة الكلمات المستعملة يوميا والمصطلحات الأجنبية إلى اللغة العربية، وهذا يعني بطبيعة الحال عجز اللغة العربية عن مسايرة روح العصر، وضرورة الاستعانة باللغة الأجنبية لأداء المعنى المقصود. وهناك من يرى أن التعريب، يعني استعمال اللغة الدارجة أو العامية، أي اللغة التي يستعملها الشعب، وهي قد تكون مخالفة للغة الفصحى التي يتعين علينا استعمالها كلغة للتدريس والأبحاث وإثراء تراثنا العلمي. ثم إن هناك الرأي الشائع جدا، وهو أن التعريب يعني الاستغناء عن تعليم اللغات الأجنبية وعدم الاستفادة منها، وهذا معناه، بكل وضوح، الانغلاق على أنفسنا وعدم التفتح على التكنولوجيا الغربية. كل هذه الانطباعات الخاطئة عن التعريب، قد شوهت معناه وأعطت الفرصة لكل فئة اجتماعية أن تستغل هذا الارتباط في تحديد الهدف، وتعلن عن معارضتها للتعريب الذي لم يتم وفق وجهة نظرها الانفصالية ومصالحها الضيقة التي لا تتماشى وروح التعريب. والحقيقة هي أن التعريب بريء من هذه التأويلات المغرضة، فهو يعني باختصار إعادة الاعتبار للغة العربية في البلدان العربية، والاعتماد على هذه اللغة في القيام بالأبحاث والتأليف، واستعمالها في الإدارة بحيث تكون، باختصار، هي لغة العلم في المدرسة والجامعة، ولغة المؤسسات الحكومية التابعة للدولة(1). والظاهر أن هذه الحملة تهدف إلى إخفاء نقطة الضعف الرئيسية عند عشاق اللغات الأجنبية وهي السماح لهم بالبقاء في مناصبهم الحساسة واستعمال الترجمة واللهجات المحلية واستعمال الاصطلاحات الأجنبية في التدريس والمراسلات بالعربية الركيكة حتى يميعوا الوضع ويغطوا عيبهم الأساسي وهو عدم إجادتهم للغتهم الوطنية.
وزيادة على التناقضات المشار إليها آنفا، هناك مشكل يبرز باستمرار عند الحديث عهن التعريب وتعليم اللغات الأجنبية، ويتمثل هذا المشكل في ضرورة المحافظة على المستوى العلمي الراقي الذي ورثناه عن المستعمر، وذلك ما يقتضيه التقدم والتقدمية. وفي تصوري أن المستويات العلمية والانفتاح على الثقافات الأجنبية وانتهاج سياسة تقدمية وتحررية، لا تتطلب إلغاء الدور الطبيعي والأساسي للغة الوطنية. فاللغة مرنة وقادرة على الاستيعاب والتكيف، ومواكبة سائر التحولات التي يعيشها أي مجتمع، من سلبيات وأيجابيات. فأوضاع المجتمع هي التي تؤثر في مجرى الامور وليس اللغة هي التي تحدد مدى تقدمه أو تأخره.
ولهذا فإن استعمال اللغة الوطنية واستخدامها للتعبير عن مصالح المجتمع العربي هو الذي يساعد على تعبئة الجماهير وتجنيدها للعمل والمساهمة في تحقيق أماني الجماهير العربية. وباختصار، فلابد من أن تكون اللغة العربية عاملا من عوامل النجاح الإجتماعي، وذلك باستعمالها في القطاعات الحيوية في البلاد، مثل الوظيف العمومي، والإدارة والاقتصاد والتجارة والتعليم. وقد أحسن التعبير عن هذه الظاهرة، أحد الزملاء العرب، الذي أكد بأن التبعية اللغوية في المجتمع العربي، تزداد على مر الأيام والسنين لأن البيروقراطية العربية “تتمسك باللغة الأجنبية كوسيلة دفاع عن مكانة تمتاز اجتماعيا ونفسيا بالهيمنة والنفوذ اللذين أسندتهما إليها البنية الاستعمارية القديمة، لذلك يشعر الفرد في ممارسته اليومية بحاجته إلى استعمال اللغة الأجنبية حتى ولو كان من المدافعين عن استعمال اللغة القومية”(1). أما بالنسبة للانفتاح، فهو دائما انفتاح على الثقافة الغربية المهيمنة والتي تقوم على الطبقية، وتحكم النخبة الارستقراطية في الجماهير الشعبية. وفيما يخص المحافظة على المستوى، فلا يمكن أن يطرح هذا الموضوع بالنسبة للأساتذة والموظفين الوطنيين الذين لديهم إرادة خالصة لتعلم لغتهم الوطنية وتوظيفها لخدمة العلم والمجتمع. فالعجز ليس في اللغة العربية وإنما في الأفراد الذين “يشككون في اعتبار اللغة العربية لغة قومية للبلاد العربية أصلا”(2).
أسباب ضعف العرب تكمن في لغتهم
إن ضعف اللغة العربية مستمد في الأصل من الضعف التكنولوجي بصفة عامة. فالمعرفة الفنية متوافرة بكثرة في الدول النامية المصنعة التي تعتمد عليها في تذليل الصعاب، وتوفير أحسن الخدمات الاقتصادية والصحية والعلمية لمواطنيها بطرق دقيقة وفعالة تثير التقدير والإعجاب. وطبعا، فإن هذا العصر هو عصر التكنولوجيا، فمن أجاد الإلمام بفنياتها استطاع أن يتقدم، ومن تباطأ في اقتنائها كان مصيره التخلف والتبعية للدول العظمى. ولهذا فإن تعلق أي مفكر عربي بالدول المصنعة إنما هو تعلق منفعي وتقني في آن واحد.
أما العنصر الثاني لضعف العربية، فهو مرتبط بالعنصر الأول، ونقصد بذلك اللغات الأجنبية، التي تستعمل كوسيلة للحصول على المعرفة الفنية والاستفادة من التكنولوجيا الغربية والسوفياتية بصفة عامة. واللغات الأجنبية التي هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية قد أصبحت تلعب الدور الأساسي في نقل المعلومات وكيفية استعمال الآلات وأساليب تنظيم المؤسسات وطرق تسييرها.
العنصر الثالث، يتمثل في إبعاد اللغة العربية عن مواقعها الطبيعية كلغة قومية، وذلك خلال فترات الاحتلال التركي والفرنسي والإنجليزي. فقد حاول الغزاة الأجانب، أن يعزلوها ويبعدوها عن المراكز الرئيسية للحياة في المجتمع العربي، وذلك لأنها تعتبر جزءا من الشخصية الوطنية، ونتج عن هذا التعطيل والتجميد للغة العربية، عدم استعمالها، كأداة للتعبير والنجاح في العمل سواء في مجالات الأبحاث والتعليم أو المعاملات اليومية.
العنصر الرابع، يكمن في عجز مؤسسات الأبحاث العلمية بالأقطار العربية في إنتاج المؤلفات والدراسات باللغة العربية التي تسد الفراغ، في ميدان المعرفة الفنية، وإثراء المكتبة العربية بحيث يمكن للمتعلم العربي أن يكون ملما بآخر التطورات في الميدان العلمي، وهو الذي جعل اللغة العربية شبه ضعيفة وغير قادرة على تلبية طموحات الشباب المتعطش للمعرفة وبخاصة تلك التي تتوافر فيها النوعية والجدية في معالجة المواضيع الشائكة.
العنصر الخامس، يتلخص في استنزاف العقول العربية ونهبها مثلما تنهب بعض الثروات الطبيعية، والمواد الخام العربية. فإحصائيات اليونسكو تشير إلى أن 63 بالمائة من العلماء والمفكرين المصريين، يهجرون إلى الولايات المتحدة، ثم أن العقول العربية تصدر إلى العالم المصنع بسعر بخس، وفي الوقت نفسه تستورد عقولا أوروبية وأمريكية أو يابانية مثلها، وأحيانا أقل منها بسعر مضاعف، وكيف لا يندفع العلماء والباحثون العرب خارج وطنهم العربي الكبير، وهم يرون أن بعض أقطار هذا الوطن – إن لم تكن كلها – تميز بين العالم العربي والعالم الأجنبي (المستورد) ماديا ومعنويا رغم أنهما أحيانا متخرجان من الجامعة نفسها، ويحملان نفس الدرجة العلمية. فالمشكلة إذا هي غياب مؤسسات الأبحاث والجامعات العربية التي تستطيع استيعاب الكفاءات العربية الجيدة وتوظيف طاقاتهم وجني ثمارهم بالشروط العلمية والاجتماعية والنفسية التي يوفرها بذكاء “البديل الأمريكي”(1).
اللغة هي إحدى المقومات الأساسية للشخصية الوطنية
إن الإنسان الذي يجيد الحديث بلغته، ولا يستعملها، يعتبر في الحقيقة إنسانا معزولا عن شعبه، لأن اللغة العربية هي لغة الجماهير الشعبية، ومن لا يتكلم لغة شعبه فهو مفصول عنه. فاللغة كما قال د. غلاب “لا يقتصر دورها على تبليغ أفكار معينة فقط، بل إنها تحمل في طياتها الفكر نفسه لأنها تستمد وجودها ودلالتها من أعماق الإنسان، فكره وآلامه، وتحرك الحياة، وتشحن هذا الوجود وهذه الدلالات من مسارات الفكر التاريخية والحاضرة”(2). ثم يؤكد د. غلاب بأن اللغة تجسم الشخصية الوطنية للأمة التي تتكلمها وتعطيها صفتها الحضارية. وباختصار “فاللغة تمثل السيادة الوطنية والقومية. فلغتنا القومية هي جزء من سيادتنا، ولا يمكن التنازل عنها إلا إذا كنا على استعداد للتنازل عن سيادتنا”(3). وقد أكد هذه الحقيقة نفسها ساطع الحصري عندما أشار، إلى أن اللغة هي العنصر الأساسي في التكوين القومي للشعوب، والاستعمار الفرنسي قد حاول فرض لغته على الجزائر منذ البداية لأنه كان يدرك أن اللغة العربية هي التي كانت تشكل أقوى الروابط التي تربط السكان بعضهم ببعض ومقوم أساسي في وحدتهم، ولهذا نجد أن أول التعليمات التي صدرت في بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر تقول بأن “ايالة الجزائر لن تصبح حقيقة، أي ممتلكة فرنسية، إلا عندما تصبح لغتنا هناك قومية، والعمل الجبار الذي يترتب علينا انجازه هو السعي وراء نشر اللغة الفرنسية بين الأهالي، بالتدرج إلى أن تقوم مقام اللغة العربية”(1).
وانطلاقا من هذه الحقيقة نستطيع أن نتفهم جيدا القرار الثوري الذي اتخذته الحكومة الجزائرية يوم 14/09/1980 والقاضي بتعريب السنة الأولى بالجامعات الجزائرية ومراكز التكوين الإداري والمدرسة الوطنية للإدارة، فالجزائريون الذين استعادوا حريتهم السياسية بالتضحية والجهاد في عام 1962، وأمموا الشركات الأجنبية في شباط/فبراير 1971، لابد من أن يتخذوا قرارا ثالثا، على مستوى اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني في 30/11/1980، ينص على أن “التربية تقع في صميم الثورة الثقافية التي تبنى الإنسان الاشتراكي الجديد، وتدفع القريحة الوطنية للابتكار والإبداع، وتقضي على مظاهر التخلف والانحراف والانحلال بجميع مظاهره، وإنها الطريق الوحيد لرفع القدرة الوطنية في الميادين العلمية والتكنولوجية، والحد من التبعية الأجنبية، وحماية الاستقلال الوطني، وإعطاء محتواه الثوري الحقيقي، وعلى أن اللغة الوطنية اختيار لا رجعة فيه، وأن المجال الوحيد للحوار هو كيفية دمجها في حركة التنمية الشاملة، والتطور الذي تشهده الجزائر، وجعلها أداة للثقافة والعلوم والتقنيات العصرية، وعلى ان تعزيز اللغة الوطنية وتعميمها يتكاملان، مع تشجيع اكتساب اللغات الأجنبية، والاتصال المستمر مع مصادر العلوم والتقنيات الأكثر تقدما والمساهمة بطريقتنا الخاصة في الإبداع العالمي”(2).
ولهذا فلابد من الاعتماد على العلماء والخبراء العرب الذين يتفهمون حاجات الإنسان العربي أحسن من غيرهم وفي إمكانهم معالجة المشاكل الاجتماعية وتصحيح مسارات الواقع العربي. وما أقصده هنا هو أن دور العلماء العرب لتحقيق الخلق والإبداع ومسايرة التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهده العالم في هذا القرن، قد أصبح ثانويا وهامشيا وذلك إذا قارناه بدور البيروقراطيين الذين يوجهون الأمور حسب أهوائهم، وهذا التثبيط للعزائم ومحاولة تدارك التخلف العربي عن طريق الاستعانة بالخبراء الأجانب هو الذي تسبب في إخفاق العلماء العرب في إثراء لغتهم العربية والمساهمة في تقوية الدعائم الأساسية للنهضة العربية الشاملة. وهكذا استطاعت القوى الأجنبية أن تفتت اللغة العربية وأن تضعف الوحدة الفكرية بين أبناء الأمة الواحدة، وبالتالي القضاء على دور اللغة كعنصر ألأساسي في التكوين القومي للشعوب(1).
ونستخلص من كل ما تقدم أن التقدم العلمي أو التقدم اللغوي في الوطن العربي يتوقف على إبداع المفكر العربي ومقدرته على معالجة المشاكل الاجتماعية التي يواجهها المواطن العربي بحيث يكون المفكر، سندا لشعبه ومساهما في تقديم الخدمات العلمية والمفيدة. لكن المشكل الأساسي، هو أن هذا الاتجاه الذي يدعم إرادة الإنسان العربي ما زال غير مؤكد في عالمنا العربي، لأن المبادرات في هذا الميدان، آتية من البيروقراطيين والسياسيين قبل أن تأتي من المفكرين الذين كان من المفروض أن يحددوا أهداف مجتمعنا العربي ويضعوا الخطط الكفيلة بإخراجه من عصر التخلف إلى عصر التقدم بأساليب علمية ومنطقية.
وقد أتينا على ذكر ما حصل في الجزائر لنؤكد حقيقة أساسية وهي أنه مثلما ناضلنا ضد الأجانب وتخلصنا منهم سياسيا، لابد من أن نواصل المعركة اليوم لكي نتخلص من التبعية اللغوية للأجانب، حتى نصبح أسياد أنفسنا. والمشكل في اعتقادي، يكمن في مدى توافر إرادة عربية، وعزيمة قوية، لتذليل الصعاب البسيطة التي تعترض عمليات تقوية أنفسنا في لغتنا وإجادة الحديث والكتابة بها والتعرف من خلالها على ماهو موجود عندنا.
ومن أجل النهوض بلغتنا وتعميمها لابد من القيام بالخطوات التالية:
1) ينبغي تحديد الهدف وتوضيح المقصود بالتعريب، فالمعنى الدقيق للتعريب هو استعمال اللغة الوطنية واعطاؤها منزلتها الطبيعية كلغة مشتركة بين أفراد الشعب، بحيث تكون لغة العمل في الإدارة في التعليم وفي الاعلام وفي جميع مؤسسات الدولة. وباختصار، فإن استعمال اللغة العربية في سائر مجالات التطور والحياة، لا يعني الإستغناء عن اللغات الأجنبية، بل هذه الأخيرة سوف تبقى مكملة للغة الوطنية في العديد من المجالات العلمية.
2) تعريب المصطلحات العلمية والتكنولوجية وسد الفراغ الموجود في كل القطاعات الحيوية التي تستعمل فيها المصطلحات الأجنبية بكثرة، وللأسف الشديد فإنه لا توجد خلايا تنظيمية مدعمة بكل مؤسسة تتولى عمليات تعريب المصطلحات ثم إصدار قوانين تطبيقية لتلك الكلمات، وبذلك تذهب جميع الجهود سدى وتبقى الكلمات الأجنبية هي المستعملة باستمرار.
3) تعريب التعليم وتعويد التلاميذ على التفكير والكتابة بلغتهم الفصيحة، وهذا يتطلب، بطبيعة الحال، تأليف الكتب العربية الضرورية للاستعاضة بها عن الكتب الأجنبية الثرية بالمعلومات وتمكين الطلبة من الاستفادة والحصول على معلومات غزيرة في ميدان اختصاصهم.
4) توظيف اللغة لتحقيق أهداف المجتمع وتسهيل عمليات التفاهم والمراسلات ومواكبة روح العصر، فالشيء المهم هو، أن تتحقق الفعالية وأداء الوظائف المطلوبة بدقة ونجاعة وليس استعمال اللغة بطريقة فوضوية بحيث تظهر اللغة عاجزة عن تحقيق الأهداف المنشودة، وبالتالي يتعين الاستعانة والاستنجاد بالغات الأجنبية لتحقيق الغايات المقصودة,
5) إحداث مجلس وطني للتعريب مهمته الأساسية هي وضع المخطط الأساسي للتعريب والسهر على مراقبة انجازه عن طريق الخلايا أو الأقسام التي يمكن إنشاؤها على مستوى كل وزارة أو مؤسسة وطنية كبرى.
6) إنشاء مراكز جامعية للأبحاث والتأليف في المواضيع التي يكون فيها نقص في المراجع العلمية والأبحاث الميدانية. وأرى أنه من الواجب أن أشير هنا إلى أن التأليف والإبداع من طرف المفكرين العرب يعتبران من أهم العوامل الرئيسية لنجاح التعريب في الوطن العربي، لأن قيام العلماء العرب بالابتكار سوف يقضي على الانطباع العربي السائد في المجتمعات النامية بأن علماء الدول المصنعة فقط هم الذين يخترعون ويبتكرون، أما الدور العلماء في دول العالم الثالث فهو ترجمة ما يقرؤونه في تلك الكتب القيمة المنشودة بالدول المصنعة.
7) إصدار قوانين بعدم كتابة التقارير والرسائل باللغات الأجنبية وإلزام كل مسؤول أن يكتب بلغته الوطنية، وبهذه الطريقة يمكن إقناع كل مسؤول بضرورة تحسين لغته الوطنية واستعمالها للمحافظة على منصبه وهيبته. فإذا تعلم بلغة أجنبية وأصبح يجيدها ويفضل الكتابة بها، فبإمكانه أن يجتهد ويتعلم جيدا لغته الوطنية، أيضا.
8) فتح المجال أمام الإطارات الوطنية التي تقوم بالتدريس أو إجراء أبحاثها باللغة الوطنية بحيث تتحمل مسؤولية نقل التكنولوجيا إلى أذهان الشباب العربي وتمكينه من التعرف على الواقع الاجتماعي المعاش ومواكبة التقدم العلمي الذي حصل في الدول الصناعية، وبهذه الطريقة تستطيع الأقطار العربية أن تحذو حذو اليابان، ذلك البلد العظيم الذي وضع تحت تصرف علمائه جميع الإمكانيات المتوفرة لانتقاء ما يفيد المجتمع الياباني من الدول المتقدمة على شرط أن تحتفظ اليابان بشخصيتها وسيادتها، وأن لا تكون تابعة لأي قوة أجنبية.
9) إعطاء الاعتبار للإطار العربي الكفء الذي يعمل بداخل وطنه، فلست ادري لماذا يتم تفضيل الغريب على إبن البلد، مع أن الإطار الوطني يتمتع بميزات لا مثيل لها على الإطارات المستوردة، فهو يتميز عنهم بالاستمرارية في العمل، والحصول على مرتبه بالعملة المحلية، ويقبل أن يكلف بأي عمل تحيله إليه حكومته حتى ولو كان خلال العطل الرسمية ومع كل ذلك، فجزاؤه هو الحصول على نصف مرتب الإطار الغريب فقط، وتسليط قيود بيروقراطية عليه، تدفعه لأن يجهد عقله في البحث عن طريق التغلب عليها، بدلا من إجهاد نفسه في خدمة القضايا الموكلة له.
10) ضرورة صدور قرار سياسي يقضي بجعل اللغة العربية، هي لغة الوحدة الوطنية ولغة البناء الحضاري، ولغة التحرر والبناء الذاتي في الوطن العربي. فمثلها تخلصنا من الهيمنة السياسية الأجنبية لابد من أن نتنقل بقرارات سياسية، إلى جعل اللغة العربية سيدة في بلاد العرب وإعطاء فرصة لهذه اللغة الوطنية حتى تقوم بدورها الطبيعي.
* بحث مقدم للملتقى الدولي الثاني حول بيداوغوجية تعريب الأساتذة الجامعيين بجامعة قسنطينة 10-12 أفريل 1984، منشور بالبديل في شهر جانفي 1991.
(1) عبد العزيز العاشوري، “اللغة العربية والهوية الثقافية وتجارب التعريب”، المستقبل العربي، السنة 5، العدد 27 (أيار/ مايو 1981)، ص15.
(2) محمد الطاهر التاب، في “الصباح (تونس) 3/2/1981.
(1) هشام بوقمرة، اللغة العربية أمام تحديات المستقبل، الحياة الثقافية، العدد 1 (حزيرات / يونيو 1975).
(2) العاشوري، “اللغة العربية والهوية الثقافية وتجارب التعريب”، ص 7-11.
(1) المصدر نفسه، ص 18.
(2) المصدر نفسه، ص 22-30.
(1) عبد الكريم خليفة (رئيس مجمع اللغة العربية الأردني) في الرأي (عمان) 18/04/1981.
(1) الطاهر لبيب، “العجز عن التعريب في مجتمع تابع”، المستقبل العربي، السنة 4، العدد 29 (تموز / يوليو 1981).
(2) العاشوري، “اللغة العربية والهوية الثقافية وتجارب العريب” ص 22.
(1) إبراهيم السامرائي، “التعريب والعربية في الجزائر بين واقع قديم ورؤية مستقبلية”، المستقبل العربي، السنة 3، العدد 23 (كانون الثاني/ يناير 1981) ص 108.
(1) لبيب، “العجز عن التعريب في مجتمع تابع”، دراسة منشورة في جريدة الشعب بتاريخ 6 يوليو 1981.
(2) العاشوري، “اللغة العربية الهوية الثقافية وتجارب التعريب”، ص 9.
(1) أمير أسكندر، “العودة إلى الإنسان” (الوطن العربي) العدد 7 (تموز / يوليو 1981) ص 58-59.
(2) علي محمد عودة، “الثقافة والوحدة العربية”، (الثقافة العربية)، العدد 7 (تموز/ يوليو 1981) ص 19.
(3) عبد الكريم غلاب، “الفكر العربي بين الاستلاب وتأكيد الذات” (طرابلس، ليبيا، الدار العربية للكتاب، 1977) ص 45.
(1) الصدر نفسه، ص 185.
(2) ساطع الحصري، “أبحاث مختارة في القومية العربية” (القاهرة، دار المعارف 1964) ص 40-43.
(1) جبهة التحرير الوطني الجزائري، اللجنة المركزية مقررات اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني 26-20/12/1979، الدورة الثانية (الجزائر، جبهة التحرير الوطني الجزائري، قسم النشر والتوثيق 1980) ص 52-53.