الجوانب القانونية لمشاكل التنمية في إفريقيا
من يتمعن في قضايا التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية في إفريقيا والعالم الثالث بصفة عامة يستطيع أن يخرج بفكرة رئيسية خلاصتها أن كل مشكلة اجتماعية ينبغي أن يصدر بشأنها قانونا لتخليص المواطنين من المعاناة التي يتعرضون لها. وهذا معناه أننا نلتجئ إلى القانون الوضعي الذي يجسم الموضوعية والمصلحة العامة لكي نتحكم في مجرى الأمور ونحدد كيفية العمل والوصول إلى الأهداف المطلوبة. وبهذا الأسلوب نكون قد قيدنا أنفسنا بالنصوص القانونية وأفسحنا المجال للإجراءات البيروقراطية التي تفرض أنماطا معينة من السلوك والتصرف في مجال العمل بحيث تنعدم المبادرة وتستفحل المشاكل نتيجة لحرص البيروقراطيين على الإجراءات القانونية بدلا من حرصهم على تحقيق نتائج أيجابية.
وفي اعتقادي أن مشاكل التنمية في كل المجالات تبدأ من هنا وتنتشر ف يكل القطاعات الإنتاجية والإدارية لكل دولة في العالم الثالث. فالبيروقراطيون يتذرعون بتطبيق القانون بأسلوبهم الخاص ويتسترون على ضعفهم وقلة كفاءتهم بالبنود القانونية التي لا تسمح لهم بالتصرف حسبما تقتضي ظروف العمل. وفي الحقيقة أن بروز مثل هذه الحالات من السلوك والتغيرات في القوانين المعمول بها يرجع في الأساس إلى التصورات الخاطئة لدور القانون في التنمية حيث أن معظم المسؤولين عن سن القوانين يهتمون بالدرجة الأولى بالأفكار النظرية التي تبدو جذابة ومنطقية لكنها غير مستمدة من واقع وظروف الدول النامية التي تختلف عن أوضاع وظروف الدول المتقدمة التي قام علماؤها ومشرعوها بصياغة النظريات والمبادئ القانونية المناسبة لبلدانهم وظروف العمل بها. وعليه، فإن الغلط الموجود في قوانيننا هو أن هذه القوانين المستوحاة من بيئات مختلفة عن بيئتنا تتحول إلى إجراءات تقيد العمل بدلا من تسهيله، وتقضي على روح المبادرة بدلا من تحفيز الأفراد على الإبداع وتحقيق نتائج عملية وملموسة.
وانطلاقا من هذه الحقائق يتعين عليها أن نغير أسلوب العمل بحيث ننطلق في التنظيم من واقعنا الاجتماعي لأن المبادئ القانونية المناسبة للتنمية ببلداننا هي التي تنبثق من البيئة المحلية. وبعبارة أخرى، فإن المشاكل الاجتماعية التي تحدث ببلداننا النامية هي المسببة للقانون، ولهذا فالعبرة التي يمكن استخلاصها من هذه الحقيقة هي أن عملية التغير الاجتماعي مرتبطة بتغير البنود القانونية التي ينبغي أن تتماشى وروح التغير التي تحدث في داخل المجتمع، أي أن القانون يتكيف مع الظروف الاجتماعية، وبالتالي يكون مواكبا للتطورات الطبيعية التي تحدث في المجتمع النامي.
ومن باب الإنصاف لقضايا القانون والتنمية في البلدان النامية يتعين علينا أن نشير هنا إلى أن القانون تتحكم فيه وتؤثر فيه الجماعات القوية المنظمة التي لها قوى اجتماعية في أرض الواقع. وجوهر المشكل في هذا الموضوع أن التأثيرات على القانون تخضع للضغوط السياسية والاعتبارات الإيديولوجية والميول الشخصية للعناصر القيادية. وبكلمة أخرى، فإن صانعي القرار يأخذون بعين الاعتبار، عند سن القوانين، الضغوط التي تفرضها عليهم الجماعات القوية والمؤثرة في مجرى الأمور، وهذا معناه أن الجماعات القوية في المجتمع والميول الشخصية لأعضاء القيادة السياسية عندها مفعول قوي في المجتمع يفوق مفعول القوانين التي تأخذ طابعا شكليا لكن لا قيمة لها في الميدان التطبيقي.
كما أن قوة ونفوذ القادة السياسيين الذين يحتكرون السلطة باسم حزب أو مجموعة قوية متحكمة في السلطة، تؤثر في القوانين وتطغى عليها إلى درجة أن الإداريين يعملون، بناء على الاتصالات والعلاقات التي تربطهم بالمسؤولين في نظام الحكم أكثر مما يعملون على تطبيق القوانين الرسمية التي تصبح حبرا على ورق. وهذا السلوك أو التصرف ناتج عن عدم وجود منافسة، ووسائل إعلام قادرة على كشف الحقيقة ومؤسسات تشريعية تمثل مختلف الشرائح الاجتماعية.
وقد كانت النتيجة الحتمية لسياسة التحكم والتوجيه من أعلى، وعدم وجود محاسبة على الأعمال غير القانونية وانعدام المتابعة، هي انغلاق قنوات الاتصال وصعوبة إجراء الحوار واستفحال المشاكل بحيث أفرزت هذه المعضلات وضعا جديدا يصعب الدفاع عليه. وهذا ما دفع بالمواطنين إلى المطالبة بالحقوق والحماية القانونية، وحرية التعبير والحوار ومشاركة المواطنين في صناعة القرارات المدعومة من طرق القاعدة. وعندما لا يتوفر الإطار القانوني لحماية حقوق العمال ومنحهم الأجور المناسبة للمجهودات التي يبدلونها، يلتجئ هؤلاء إلى الإضرابات والمظاهرات والضغط على السلطة لإعادة النظر في النصوص القانونية وإدخال التعديلات اللازمة على إجراءات العمل البالية. وهكذا احتدم، الصراع بين العمال والمسيرين إلى درجة أن الإنتاج انخفض وواجه الناس صعوبات في التزويد بالمواد الأساسية بانتظام وبسعر معقول أو في متناول غالبية المواطنين.
وبطبيعة الحال، فإن انخفاض الإنتاج واختفاء بعض السلع من السوق وبروز المضاربة هي عناصر أو عوامل لا يمكن التحكم فيها بقوانين طبيعية أو وضعية لأن الإخلال بقانون العرض والطلب يؤدي إلى إبطال سريان القوانين العادية والتقاليد والعرف المعمول بها في الظروف العادية. وهكذا تتفاقم حدة الصراع بين المستفيدين من تدهور الأوضاع وبين المواطنين المتضررين الذين يأملون أن تحميهم الدولة بقوانينها وتعاقب الطفيليين والانتفاعيين باتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة ضدهم.
والخلاصة التي يمكن أن يستخلصها أي كاتب من هذه الأزمة المستفحلة في مجال القانون والتنمية الوطنية هي أن العبرة ليست في وجود نصوص قانونية على الورق ولكن في التعامل مع الواقع وما يجري في الميدان. إن العمل بالقوانين التي تفقد قيمتها بمرور الزمن وخاصة في هذا الوقت الذي انتشرت فيه مسألة اختفاء البضائع وتفوق قانون الطلب على قانون العرض، قد انعكس سلبيا على حياة المواطنين. وما ينبغي أن تقوم به السلطات المسؤولة في الوقت الحاضر لحماية المواطنين من البطالة وتوفير المواد الغذائية الضرورية لهم هو القيام بدراسات علمية وإنشاء أو خلق الظروف القانونية الملائمة لتنمية الموارد المحلية وتسهيل عمليات استثمار الأموال الوطنية في ميادين التنمية الاقتصادية. إن القوانين التي تشجع المبادرات المحلية واستغلال الثروات الوطنية وخلق تعاون بناء مع الخارج هي وحدها الكفيلة بإخراج بلداننا من التخلف والبطالة وفقدان المواد الخام أو المصنعة من الأسواق. فالترتيبات القانونية والإجراءات الإدارية هي التي تخلق الظروف الملائمة للاستثمارات الوطنية والأجنبية والتعاون بينهما. إننا نعيش في وقت بدأت تكثر فيه التنظيمات الإقليمية وتزول الحواجز الجمركية وتتنقل رؤوس الأموال والتكنولوجيا بدون قيود وذلك بحثا عن أرباح كبيرة وضرائب قليلة، وهذا يتطلب منا أن نعكف منذ الآن على إعداد القوانين الجبائية والاستثمارية التي تمكننا من تنويع منتوجاتنا واستغلال ثرواتنا واقتناء التكنولوجيا الحديثة التي تساعدنا على تحسين المردود وتوفير الاحتياجات الضرورية لأبناء شعوبنا. إن القوانين الحديثة قد تطورت الآن وأصبحت تأخذ بعين الاعتبار الوضع الجديد السائد في العالم والمتمثل في الاعتماد على التعاون المتبادل وتبادل المصالح والتعاون المشترك الذي فرضته التطورات الهائلة في ميدان التكنولوجيا. إن التركيز في التعامل بين الدول لا يقوم على أساس المفاهيم الضعيفة للسيادة الوطنية والقوانين المحلية والحماية الجمركية لأن الدول قد أدركت الآن أن أسواق دول العالم مفتوحة في وجه جميع المواطنين للاتصال بالخارج وبأسواق المال والهجرة للعمل وشراء الأسهم والحصول على فوائد، وهذا معناه تلاشي فكرة القومية وضرورة التفتح على أسواق عالمية تؤثر فيها الشركات العملاقة في ميادين الأقمار الصناعية والكومبيوتر والاتصالات السريعة. إن هذه التغيرات السريعة التي تحدث في العالم تدفعنا اليوم إلى مراجعة قوانيننا نستطيع مسايرة ركب التقدم والحضارة ولا نعطي الفرصة لغيرنا ليتهمنا بأن قوانيننا جامدة ولا تساير روح العصر، ولذلك لم نتمكن من الحصول على المال والتكنولوجيا وتعذر علينا تنمية مواردنا وتدفق القروض والتكنولوجيا الحديثة على بلداننا النامية.
* بحث غير منشور مقدم للجمعية الدولية للقانون في إفريقيا، الذي انعقد بجامعة عنابة، سنة 1984.