الدولة الوطنية في مواجهة العولمة والتغير
في العلاقات الدولية
مقدمة:
إنه لمن عجائب الصدف أن تتغير مفاهيم التحرير ومقاومة الاحتلال الأجنبي والتخلص من السيطرة الغربية التي كانت تعتبر قضايا مقدسة في دول العالم الثالث وذلك خلال القرن العشرين. أما في وقتنا الحالي فقد أصبحت هذه المفـاهيم الثورية منبـوذة والمقاومة تعتبر إرهاباً في نظر الغربيين والإسرائيليين. إن كل متمعن فيما يجري في الساحة الدولية يلاحظ أن محاولات الدول النامية لتنظيم لقاءات دولية لتعريف الإرهاب والتفريق بينه وبين المقاومة قد باءت بالفشل لأن الدول الكبرى تعتبر من يدافع عن حقوقه إرهابياً إذا كان لا يقبل بمنطقها ويخرج عن طاعتها ولا يمتثل لأوامرها. هذا هو منطقها المبني على الحرب الاستباقية وكسر شوكة الخصوم قبل استفحال خطرهم وازدياد نفوذهم. إن هذه النظرية مستمدة من فلسفة الرومان الذين كانت عندهم استراتيجية تقوم على أساس تحطيم الخصم قبل استفحال خطره، ومن لا يتكلم لغتهم يسمونه”بربريا”!!.
ولعل الشي المثير في يومنا هذا، هو أن دول العالم الثالث تعتبر العولمة بمثابة شكل جديد للاستعمار، جاءت في ثوب جديد وتحمل في طياتها شعارات براقة ووعود لن تتحقق، مثلما كان الاستعمار القديم يتخفى تحت دعاوى العمل للارتقاء بالشعوب المتخلفة وإنقاذها من الهمجية والبربرية والارتفاع بها إلى مستوى الكرامة الإنسانية، لكنه تحول إلى استغلال للموارد البشرية والطبيعية والقضاء على الثقافة الوطنية. وهذا ما ستفعله العولمة بالضبط. وربما كان الاختلاف الوحيد بين الاستعمار القديم والاستعمار الجديد هو أن العالم غير الغربي كله سيتحول تحت العولمة إلى مستعمرة كبيرة تضخع لهيمنة مستعمر واحد كبير أو مستعمر رئيسي بمعاونة الدول التي تدور في فلكه(1).
النظام الدولي الجديد بعد حادثة 11 سبتمبر 2001
نستخلص من ما تقدم أن هناك شكل جديد للصراع الدائر بين الدول الغربية والدول النامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالدول الغربية تهتم بمصالحها الداخلية والتهديدات الخارجية في حين تسعى الدول المتواجدة بالشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط بتثبيت سلطاتها والتحكم في مجرى الأمور بمؤسساتها.
وبكلمة أخرى، إن الوضع تغير بعد حادثة 11 سبتمبر 2001. فالهجوم على المصالح الأمريكية في الداخل ، قد دفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى وضع استراتيجية جديدة تتمثل في تغيير الوضع القائم واستبداله بنظام دولي جديد. ويتمثل النظام الدولي الجديد أو الاستراتيجية المعدلة في تحقيق الأهداف التالية:
- تدفق النفط في شراريين الاقتصاد الغربي (العالمي) بدون ضغط أو مساومة من أي طرف.
- أن تنعم الدول الغربية بالأمن بحيث تبقى وتيرة النمو في الاقتصاد الغربي مرتفعة والوضائف مأمونة للعاملين في مختلف المؤسسات الإنتاجية والخدمية في الدول الغربية.
- فرض النظام الغربي المتجدر في النظم الغربية على بقية الأمم لأن فيه تحقيق السلام والأمن على الكرة الأرضية. وفي ذلك تمكين للغرب بقيادة الولايات المتحدة من بسط نفوذه على باقي شعوب العالم.
- التحول من الصراع الأديولوجي إلى أيديولوجية السوق (العولمة) وتقوية نفوذ الشركات المتعددة الجنسيات وتمكينها من السيطرة عن طريق سلطة المال والتكنولوجيا والمعلومات، وبذلك يضعف دور الدولة الوطنية وتصير تابعة للدول القوية، وهذا معناه فرض قيود على حرية الإدارة الوطنية في صناعة قراراتها السياسية بنوعيتها الداخلية والخارجية.
- القيام بحرب استباقية وتحطيم القادة أو الجماعات التي تحاول تهديد نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها في أي مكان( وهي الدول التي تطلق عليها اسم:محور الشر).
ولعل الشيء المثير في هذه الاستراتيجية الغربية التي خططت لها الولايات المتحدة الأمريكية وتقوم بتنفيذها الدول الغربية هو أن هناك قناعات لدى الدول الغربية بأن الأمن الغربي مهدد من طرف الدول المتواجدة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب تدفق الهجرة الكبيرة من هذه البلدان إلى دول الاتحاد الأوروبي. إن هذه الهجرة، في نظرهم، قد سهلت ومهدت للإرهاب سواء في داخل الدول أو خارجها، والسبب في انتشار ظاهرة الإرهاب هو فشل برامج التنمية والرعاية للشباب، وانتشار البطالة وانخفاض مستوى المعيشة، وهجرة الأدمغة، والأمية، واستبعاد المرأة من المشاركة في التنمية ، وفقدان الديموقراطية والحرمان من حرية التعبير. وبناء على هذا المنطق الغربي، فإنه كلما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط الكبير، ازداد التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. ومن هنا جاءت المقترحات والمحاولات الغربية الرامية لإصلاح الأوضاع في دول الشرق الأوسط الكبير عن طريق خلق مجتمع ديموقراطي في كل بلد نامي، وذلك بتأسيس مجتمع المعرفة ومجتمع الحرية ومجتمع مشاركة المرأة في التنمية(1).
وإنصافاً للحقيقة ينبغي أن نشير هنا إلى أنه توجد استراتيجية فرنسية بديلة للاستراتيجية الأمريكية التي أعطت لنفسها الحق في العمل منفردة على الساحة الدولية وأظهرت إرادتها في التحلل من كل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. فالحكومة الفرنسية قد حاولت تقديم استراتيجية بديلة للنموذج الأمريكي بحيث يقوم النظام الدولي الجديد على أسس:
- الحوار.
- التعددية الثقافية والسياسية.
- احترام حقوق الإنسان.
- حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية ( بدلاً من التدخل العسكري المنفرد).
غير أن هذه الاستراتيجية البديلة التي تدعمها فرنسا وألمانيا وروسيا لم تغير عزيمة الوليات المتحدة على التمسك باستراتجيتها المتمثلة في محاربة الإرهاب، وتأمين الطاقة لنفسها ولأوروبا التي تعتبر في رأي الولايات المتحدة غير قادرة على حماية المخزون النفطي الموجود في الشرق الأوسط الكبير، والذي لو توقف ضخه، فإن عجلة الحضارة ستتوقف في الولايات المتحدة وأوربا واليابان. ومعنى هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت مدركة ومقتنعة بأن التحدي الكبير في عالم اليوم هو الإرهاب الذي يهدد مصالحها ويشكل خطراً على السلام العالمي، مع العلم أن هناك من يرى أن الإرهاب خطر عابر يمكن معالجته بوليسيا، دون إعلان الحرب الكبرى عليه.
من أين تنبع قوة الولايات المتحدة ( زعيمة العولمة )
إذا كانت الولايات المتحدة هي التي تقود ركب العولمة، فالسؤال المطروح هنا: من أين تنبع قوة الولايات المتحدة التي أصبحت تسيطر على العالم؟ والجواب على ذلك هو أن قوة الولايات المتحدة مستمدة من العناصر الثلاثة الآتية:
أولاً : القوة الاقتصادية ذات الأبعاد الدولية ، حيث يعتبر الدولار هو العملة العالمية،والمنتوجات الزراعية والنفطية والصناعية تثمن بهذه العملة. كما أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي لا تحتاج إلى تغطية إصدار عملتها بالعملات الأخرى أو الذهب. فهي تطبع الدولار والعالم يلهث وراءه لشرائه. وكما قال أحد الاقتصاديين ” فإن التجارة العالمية لعبة، حيث تنتج الولايات المتحدة الدولارات ، بينما بقية العالم ينتج أشياء يستطيع الدولار شراءها”(1).
ثانياً : قوة التكنولوجيا التي جعلت من الولايات المتحدة قاطرة التقدم والنمو في العالم. إن تفوقها في مجال المعلومات قد مكنها من الانفراد بمركز القوة والسيطرة على دول العالم بفضل التحكم في التكنولوجيا. كما أن التكنولوجيا ساعدت المؤسسات المالية والبنوك على التوسع في الأسواق العالمية وأصبحت تتلاعب برؤوس أموال متنقلة عابرة للحدود والدول ، تقدر بـ 1500مليار دولار، يتم تبادلاها يومياً في الأسواق ويذهب جانب كبير منها إلى المضاربة المصرفية والقروض القصيرة الأمد، وبالتالي ، تتعرض اقتصاديات الدول النامية إلى الإنهيار في أية لحظة مادامت هذه الرساميل المالية لا تخضع لأية رقابة من أية دولة(1).
وكما قال رئيس الحكومة الفرنسية السابق ” ليونيل جوسبان” فإن التحدي المطروح اليوم على المجتمعات هو جعل اقتصاد السوق في خدمة الإنسان وكبح ميله إلى الانفلات من الرقابة الجماعية(2).
ثالثاً : قوة العلم والمعرفة والأفكار الجديدية والاختراعات المختلفة التي تزخر بها المؤسسات العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية. إنها، بدون شك، تعتبر المركز العالمي لبروز الأفكار الخلاقة بسلبياتها وإيجابياتها. فهي مركز ظهور المختراعات الجديدة في جميع المجالات. إن من يتفحص سجلات حقوق الملكية الفكرية في القرن العشرين، سيلاحظ أن مصدر غالبية الأفكار الجديدة والاختراعات العلمية التي حصلت في العالم، هم علماء أمريكا.إن هذه الاختراعات والابتكارات أسهمت بشكل كبير في خلق القوة المالية والصناعية والعسكرية للولايات المتحدة. وبهذا التفوق العلمي جذبت إليها العقول والأفكار من كل مكان(3).
الصعوبات التي تواجه الدولة الوطنية في مساعيها
لتقوية الذات وحماية نفسها من خطر العولمة
إنه لمن الواضح أن العولمة الرأسمالية ليست عولمة العلم والتقدم التقني، بل هي نقيضة عولمة العلم . فالعولمة الرأسمالية لخدمة مصالح رؤوس الأموال وليس خدمة الإنسان. فمن غير المعقول أن تبقى الدول النامية مكتوفة الأيدي أمام هذا الخطر المستفحل للعولمة الذي يهدد كيانها حيث تشير بعض الإحصائيات إلى أن حجم الأعمال 2100 مليار دولار تعود عملياً إلى 100 شركة ، تفرض قانونها الاقتصادي على العالم. إن وجود هذه الثروة بين أيدي الشركات المتعددة الجنسيات لا يعني، بطبيعة الحال ثراء البشرية، وإنما يعني احتكار الثروة من طرف المئة شركة التي تهتم بتكديس الثروة وليس بخدمة الإنسان.
والسؤال المطروح هنا : كيف نحمي أنفسنا من خطر العولمة الذي يداهمنا ويهدد مستقبلنا؟ ولكي نصمد أمام هذا التيار الجارف، هل نعمل بواقعية وفاعلية لتغيير أوضاعنا بأنفسنا أم ننتظر التغيير الذي يأتينا من الخارج؟ هل نهرب إلى الأمام ونبقى متفرجين ومنبهرين بما يحدث في العالم من تكتلات اقتصادية وسياسية واجتماعية، ونفسح المجال بذلك لخصومنا لكي يحققوا المزيد من التقدم والتفوق علينا، أم ينبغي علينا أن نتحرك بسرعة ونقوم بوضع استراتيجيات واقعية تخدم مصالحنا وتقينا من أشرار غيرنا ؟
إن هذه الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح قد أصبحت في دولنا النامية عبارة عن أسئلة بديهية وترفيهية، لأن العلماء والمفكرين والخبراء لم يجدوا من يصغي إليهم بانتباه ويجسد أفكارهم في أرض الواقع. وعليه ، فالمشكل في دولنا النامية يكمن في الذهنيات التي ترفض الغير. فمن بيده القرار يعتبر نفسه هو الخبير الماهر، وهو يتعلم باستمرار في منصبه الذي يحتله ولا فائدة تجدي من الحوار معه لأن ذهنه متشبع ولايستوعب المزيد من النصائح والاقتراحات. ثم إنه لاتوجد سلطة عليا تحاسبه على ما يعمل في حالة ما إذا التزم بتطبيق القرارات الواردة إليه من أعلى، حرفياً ولم يخرج عن نصها.
وبإيجاز، فإن ما يهمنا الآن هو إبداء الرأي العلمي في القضايا التي تهمنا وإعطاء تصور واضح لكيفية تعاملنا الإيجابي مع العولمة وتحولاتها المتلاحقة بحيث يكون لنا موقع متقدم في هذا المشهد الدولي الملئ بالتحديات والمجابهات في عالم ليس فيه مكان للضعيف المنغلق على نفسه.
وإذا نحن دخلنا في جوهر الموضوع مباشرة وبدون مقدمات فإنه يمكننا أن نقول أن المشكل الرئيسي الذي نواجهه والذي ينبغي إعطاءه أهمية كبرى هو الخلل الموجود في السياسات العامة والغموض الذي يسود استراتجيات التنمية في الدولة الوطنية.
ولكي تتضح في أذهاننا الصورة عن السياسات العامة(Public Policies) ، ينبغي أن نوضح بأن السياسات العامة تعني ما تريد الحكومة أن تفعله وما لاتريد أن تفعله. فالحكومة هي التي تضبط وتنظم الصراعات داخل المجتمع، وهي التي تتحمل مسؤولية تقديم الخدمات المادية وتحصل على الضرائب. وعليه ، فالسياسات العامة تمتد من بيع الطوابع إلى صناعة الدبابات والصواريخ. ومعنى هذا أن السياسات العامة تتجسد في صنع القرارات الاستراتيجية الخاصة بالدفاع الوطني، الشؤون الخارجية، التعليم، الاقتصاد، الصحة والأمن.
وبطبيعة الحال، إن رسم السياسات العامة عملية معقدة لأن اتخاذ القرارات حول سياسة معينة في أي مجال، يقود إلى قيام الجماعات الضاغطة التي تتضارب مصالحها بضغوط منقطعة النظير عن صانعي القرار لكي يبطلوا مفعول القرارات التي تخدم مصالحهم. ومن هنا تبدأ عملية مقاومة التغيير أو الإصلاحات، وخلق العراقيل في وجه المشاريع التي تقرها الحكومة. وفي نهاية الأمر ، يتحول الصراع بين الحكومة والجماعات الضاغطة إلى خلل يترتب عنه غياب الرؤيا ، لأن كل طرف يعاند الآخر ويرفض التخلي عن موقفه تحت أي ضغط من أية جهة كانت.
إن الرؤيا المنقوضة للإصلاح وتسطير السياسات العامة بطريقة غامضة، تقودنا إلى الحديث عن خلل آخر يتمثل في إصرار السلطة على انفرادها بتحديد السياسات والدعوة إلى إتباع سياسات عامة تخدم مصالحها، كما تراها هي من زاويتها الخاصة بها، في حين أنه كان من المفروض أن تكون رغبة الإصلاح والبت في السياسات العامة نابعة من المجتمع نفسه، أي يكون للمجتمع دور مشاركة في صناعة طبيعة التغيير المطلوب وليس بقاء المجتمع مجرد مشاهد لما يحدث في ساحة العمل.
وبإيجاز، فإن العائق الكبير للتنمية في عهد الاستقلال والحرية هو غياب إطار تنظيمي لإقحام هيئات المجتمع المدني في الحوار وإبداء الرأي في مشاريع التنمية قبل اتخاذ القرارات النهائية من طرف القيادة العليا. والمشكل هنا أن هيئات المجتمع المدني لايمكنها أن تقوم بدورها المناط بها إلا إذا حصلت على الدعم المالي من الدولة، وهذا الدعم المالي لن يأتي إلا إذا شعرت السلطة الحاكمة أن هيئات المجتمع المدني تروج لما تراه السلطة ملائماً ومقبولاً أو يخدم منهجيتها في العمل. ولهذا، فإن تغييب دور الجمعيات والأحزاب والمنظمات وطمسه قد نتج عنه الحد من نشاطات مختلف الفئات الاجتماعية والإنكماش على نفسها وخاصة عندما تشعر أنها ستتعرض للمساءلة القانونية إذا كانت القوانين تحد من قيامها بمادرات وتمنعها من التعامل مع جهات أجنبية أو التعاون مع منظمات غير حكومية.
وفي هذا السياق، نلاحظ أن الولايات المتحدة تطالب الآن من دول الشرق الأوسط الكبير القيام بإصلاحات اقتصادية وسياسية، لأن مشاكل الإرهاب والتطرف في دول هذه المنطقة(من وجهة نظر الولايات المتحدة الأمريكية) نابعة من فشل سياسات التنمية في عهد الحكومات الوطنية. إنها تدعي( أي الولايات المتحدة الأمريكية) أن أبناء المجتمعات النامية يعيشون في حالة بؤس على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالتالي ، فحيث يعشعش التخلف ينمو التطرف، وحيث ينمو التطرف يتفجر الإرهاب(1).
وفي قناعة القيادة الأمريكية أنه ينبغي تغيير المنطقة بفعل عملية إصلاحية شاملة تطول مختلف دول الشرق الأوسط الكبير من المغرب غرباً إلى باكستان شرقاً، وهي عملية تأخذ في الاعتبار الواقع المزري لدول المنطقة: البطالة، مستوى المعيشة المنخفض، هجرة الأدمغة، الأمية، استبعاد المرأة من المشاركة في التنمية، فقدان الديموقراطية والحاجة إلى الحرية. وكلما تزايد عدد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، ازداد التطرف والإرهاب والجريمة الدولية غير الشرعية(1). وطبعاً ، فالإصلاح الذي تطالب به الولايات المتحدة الأمريكية هو ليس إصلاح بقصد تقوية دول المنطقة، وإنما بقصد خدمة مصالحها والمحافظة على نفوذها في المنطقة(2).
وبناء على ما تقدم، نستطيع أن نقول بأن قيادات الثورة وتحرير الوطن من الاحتلال العسكري الأجنبي قد نجحت في طرد المحتل وحررت الناس من العبودية والاستغلال:
- لأن الناس شعروا بالظلم وتصدوا له جميعاً.
- لأن هناك موافقة جماعية( Consensus) على خطط العمل الثوري.
- لأن الحرمان كان عام(أما في عهد الاستقلال فهناك فئات تعيش في بحبوحة وأخرى تعيش في بؤس وفقر).
- لأن المناضلين كانوا موحدين في تنظيم واحد وهدفهم واحد وهو خدمة الوطن(الآن جاء عصر التعددية الحزبية الشكلية والتحالفات التي أملتها حسابات ضيقة ومصالح محدودة، وهي أقرب إلى صيغة الولاء مقابل خدمات).
- لأن فترة التحرير تميزت بالثنائية القطبية(ونحن الآن في عصر القطب الواحد).
وما نريد أن نقوله ونركز عليه هنا هو أن في عهد الاستقلال قد اختلفت الأوضاع وتغيرت ، وأصبحت متطلبات البناء والتشييد تختلف عن متطلبات التحرير المتمثلة في حب النضال ووجود الإرادة الصادقة لتحرير الوطن. إن المتطلبات الجديدة تتطلب معرفة ما ينبغي عمله بدقة وتوظيف المعرفة لخدمة المواطنين والمواطنات الذين يتطلعون إلى غذ أفضل.
توظيف المعرفة هو المشكل
إن ممارسات الحكم تعتبر أصعب عملية معقدة وذلك بسبب تشابك المصالح وتهافت الجماعات على النفوذ والثروة والجاه. فإذا كان قادة العولمة يصرفون وقتهم وطاقاتهم في توظيف المعرفة والإنتاج، فإن نسبة كبيرة من طاقات القيادة في الدولة الوطنية تصرف في محاولات التوفيق بين الجماعات المتنازعة على المناصب وتوزيع الغنائم على من يظهر الولاء والمحبة لهم. وعليه، فالمشكل الجوهري يكمن في حدة الصراعات وينتج عن ذلك إضعاف موقف القيادة التي لا ترضي كل الأطراف، وهذا يؤدي في واقع الأمر إلى شبه جمود يعيق التحرك الحاسم في أي من الاتجاهات، وبالتالي، يصعب اتخاذ قرارات جذرية وخدمة الصالح العام. كما أن القيادة تعاني في معظم الأحيان من التعدد والتضارب المستمر بين الأولويات وخاصة إذا كانت المطالب كثيرة والإمكانيات محدودة.
وفي البداية دعني أشير إلى بعض السياسات العامة التي كان في الإمكان توظيف المعرفة العلمية لحلها منذ زمان، ولكنها لازالت تراوح مكانها بسبب عدم وجود رؤيا واضحة وإرادة سياسية قوية لإيجاد حلول ملائمة لها.
- مسألة تنويع الصادرات والمداخيل المالية فهذه القضية قد كانت مسجلة في أجندة كل حكومة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا. إلا أن هذه المعضلة مازالت موجودة حتى الآن ومداخيل الدولة المالية مازالت تأتي من النفط ومشتقاته بنسبة 95%. هل عجز العلم عن إيجاد حل لهذه المعضلة؟
- وجود خلل في القوانين المتراكمة والتي لا تتغير إلا بشق الإنفس، وإذا تغيرت يكون قد فات أوانها ولم تعد ملائمة للمستجدات والتغيرات التي تتوالى بسرعة مذهلة. وكل واحد يعرف ، بدون شك، أنه منذ عشر سنوات وقوانين الوظيف العمومي والإعلام والأسرة تنتقل باستمرار وبانتظام بين البرلمان ومقر الحكومة لينام في درج أمين، ولم يفصل فيها حتى الآن. والشيئ الأكيد أن المعرفة موجودة لحل الإشكالات الموجودة بهذه القوانين لكل المقاومون لتغييرها يبدوا أنهم أقوياء وصامدون في وجهها. وبعبارة أخرى، فنحن لازلنا نعيش تحت سلطة القوانين التي صدرت منذ وقت قديم لحماية المكاسب الاشتراكية والثورة الزراعية والعلاج المجاني. إنها باقية بصرف النظر عن تغيرات الظروف وتغير العصور.
- هجرة الأدمعة إلى الخارج. تعتبر من أخطر القضايا التي تواجه البلاد، ولايوجد أي بريق أمل لوقف هذا الاستنزاف. يبدو أن الدولة الوطنية لاترى مانعاً من تصدير المعرفة لمن يريد أن يوظفها ويعتمد عليها لحل مشاكله. وأكثر من ذلك، هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح هنا: لماذا تصرف الحكومة الوطنية أموال طائلة على التعليم إذا كان غيرنا هو الذي يستفيد من علم وكفاءة ومهارة شبابنا؟ كيف يمكن توطين العلم والمعرفة إذا كانت الإرادة غائبة أو الدولة الوطنية غير قادرة على الاحتفاظ بالعلماء والباحثين والمفكرين الذ ين يمكن الاعتماد عليهم لبناء مستقبل البلد؟ إن نقطة الضعف في وضعنا الحالي أننا نتصور أن سادة العولمة سيسمحون لنا بأن نقتسم معهم المعلومات والمعارف. إلا أن الحقيقة المرة أنهم لا يسمحون أن نحصل إلا على ما يرغبون، لأنهم يحتكرون أسلوب التفكير سلفاً. ثم إن قيمة المعرفة ليست في حد ذاتها وإنما في أسلوب استخدامها من طرف علماء كل بلد وتوظيفها لما فيه فائدة المجتمع.
- غياب التنسيق بين برامج التعليم العالي واحتياجات المؤسسات الخدمية والإنتاجية لقد كان من المفروض أن تهدف برامج التعليم العالي إلى تلبية احتياجات القطاع العام والقطاع الخاص بحيث توفر الجامعات الإطارات الكفأة والمتخصصة في مختلف المجالات العلمية إلى كل مؤسسات الدولة وتفسح لهم المجالات لتقديم الخدمات إلى المواطنين في كل تخصص علمي. غير أنه يلاحظ هنا أن الجامعات تقوم بتكديس الإطارات بدون معرفة الاحتياجات الحقيقية والتخصصات الدقيقة. وعندما يتوجه المتخرجون إلى سوق العمل لايجدون من هو في حاجة إلى تخصصهم، وتحصيلهم العلمي لافائدة تجدي منه. وبعبارة أخرى، إن الجامعات أصبحت تقوم بدور محو الأمية لاغير.
- غموض في السياسات الخاصة بتأهيل الشباب للمهن إنه لمن الواضح أن أهم موضوع يشغل بال المسؤولين في كل دولة هو توفير الوظائف للشباب وإقحامهم في عمليات التنمية وتوفير الدخل المالي لكل شاب لمواجهة مشاكل الحياة اليومية. إلا أنه يلاحظ هنا أن الطاقات مبعثرة ومدارس أو مراكز التكوين المهني تقوم بمجهودات لتكوين وتدريب الشباب الذين لم يتوفقوا في اجتياز امتحان الباكالوريا. لكن هذا التكوين لايجدي نفعاً في أغلب الأحيان لسبب رئيسي وهو أن التكوين والتدريب تم بقصد التكوين لاغير، وأن الشباب لايعثر على الوظيفة التي يحلم بها. والمفروض في مثل هذه الحالة ، أن تقوم الدولة أو الجهات المسؤولة عن التكوين والتأهيل بتحديد احتياجات الإدارات والشركات وتتعرف على احتياجاتهم، ثم تقوم بتدريب وتأهيل الشباب للوظائف المطلوبة.وفي هذه الحالة لا يبقى الشباب مرمياً في الشارع بعد تخرجه وإنما يلتحق مباشرة بالجهة التي أعلنت عن احتياجها إليه.
- الدولة هي المصدر الوحيد للتمويل! هذه هفوة موجودة في سياسات الحكومة الوطنية ولم تتغير. لقد كان من المفروض أن لا تورط الحكومة نفسها في بناء مئات الآف المساكن المكلفة وتدعم الشركات المفلسة؛ بل تنتهج سياسة إنشاء شركات مساهمة لتفسح المجال لذوي الدخل المتوسط الغير قادرين على إنشاء شركات بمفردهم، ولكنهم يملكون ثروة متواضعة فائقة عن حاجاتهم ويمكن استثمارها في شركة مساهمة. وبهذه الطريقة تشجع الدولة أصحاب المدخرات الفردية على الاستثمار في مشاريع منتجة، والابتعاد عن صرف أموالهم في شراء المواد الاستهلاكية التي تستنزف الثروة والمدخرات في أشياء لاتعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني. وإذا كانت الدولة الوطنية لاتوظف المعرفة لتنويع الاستثمار وإشراك المواطنين في مشاريع التنمية، فإن العولمة تسعى جاهدة لتقليص دور الدولة في عمليات الإنفاق العام، وخاصة الإنفاق الاجتماعي، وهذا سيؤدي إلى الحد من فاعلية وظائف الدولة في المجال الاجتماعي(1).
مرتكزات العولمة وتحدياتها
في الحقيقة تعتبر العولمة بمثابة النظام الليبرالي الجديد الذي يستخدم المنظمات الدولية كآليات لتمديد وفرض التوسع الرأسمالي، وهي تسعى لتحطيم كل الكيانات والهياكل الجماعية التي يمكن أن تشكل عوائق أمام فتح الأسواق للشركات المتعددة الجنسيات.
وفي واقع الأمر، أن النظام الدولي الجديد يرتكز على ثلاثة ركائز جوهرية تتمثل في الآتي:
- إنه يقوم على منظومة مالية دولية، تتمثل في قيام سوق واحد لرأس المال، مجسد في أرض الواقع في البورصات والبنوك وشركات الاستثمار.
- إنه يقوم على منظومة الإعلام والاتصال، وهذه المنظومة تلعب دوراً حيوياً في تزويدنا بالمعلومات عبر الأقمار الصناعية والتي بفضلها نطلع على ما نرغب الاطلاع عليه ولا ما نرغب رؤيته أو قراءته.
- إنه يقوم على منظومة المعلومات، التي تتجسد بشكل واضح في شبكة المعلومات (الإنترنت)، والتي من خلالها يتراسل الأفراد ويحصلون على المعلومات التي هم في حاجة إليها(1).
ومعنى هذا أن الدولة الأولى في العالم التي تقود العولمة قد أصبحت هي المحرك الأول للاقتصاد العالمي، والتكنولوجيا والمعلومات، بسبب قدرتها الفائقة في الاستثمار في المعرفة. إنها مختبر كبير للأبحاث. فهي لا تنظر إلى التكلفة والثمن الباهظ للدراسات العلمية ولكنها مصممة على تكليف العلماء بالبحث في النظريات الجديدة، أي تلك التي لاتعطي نتيجة سريعة بل تلك التي يعتمد عليها في المستقبل. لقد بينت دراسة حديثة أنه من بين 1200 اختصاصي في العلوم الأكثر شهرة في العالم، هناك أكثر من 700 يعملون في الولايات المتحدة وهم ينتمون إلى أكثر المؤسسات شهرة، سواء حكومية أو خاصة. وأظهرت الإحصائيات الحديثة أن أكثر من مليون متخرج من الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة من هنود وصينيين ، وكوريين، وكنديين، وفرنسيين ، وألمان، ظلوا يعملون في الولايات المتحدة في مجالات تخصصهم خلال التسعينات من القرن العشرين.
نفهم من هذا أن فلسفة قادة النظام الدولي الجديد(العولمة) تقوم على أساس جلب العلماء وتكثيف وسائل العمل وتطويرها للاستفادة من ذلك في المستقبل. وفي البيت الأبيض يوجد بصفة دائمة فريق عمل ضخم أوكلت إليه مهمة رسم الاستراتيجية الأساسية للإدارة وتنسيقها وذلك بقصد المحافظة على التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة والعمل على توسيعه. ويقوم هذا المكتب بصفة خاصة بوضع السياسات العلمية والتكنولوجية للدولة برسم الأولويات بالتسلسل: الدفاع، الصحة، القضاء، الطاقة، وأمن قطاع المعلومات، ثم تقوم وكالات حكومية بمتابعة هذه الاستراتيجية وتطبيقها.
وما أردت أن أبينه من سرد هذه الحقائق أن العبرة في الدول المتقدمة من التعلم والتخصص لاتكمن فقط في نشر المعرفة وإتقان فن الخطابة وإنما تكمن في الاستخدام الأمثل لمختلف العلوم وتجسيد الأفكار الجديدة في أرض الواقع، بينما نحن نتباهى بالجامعات وتلقين الطلبة المعرفة في السبورة وكفى! ما فائدة أن تعرف ولاتطبق؟ هذه حالة الدولة الوطنية التي لا تبالي بفقدان الأدمغة العلمية . فلا إغراءات ولا إمكانات ولا تشجيع، ولا سبيل ، حتى من بعيد ، للمقارنة مع أي دولة أوروبية، ما دام غير ممكن أن نقارن أنفسنا بالولايات المتحدة الأمريكية(1).
وللعلم ، فإن العالم والباحث الذي يشرف على المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة الأمريكية هو الأستاذ الدكتور إلياس زرهوني الذي تخرج من كلية الطب في جامعة الجزائر سنة 1975 والتحق بجامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة سنة 1978. وفي عام 1996 تم اختياره لكي يكون رئيساً لقسم راديولوجي (Radiolgy). ثم أصبح عضو في الأكاديمية الوطنية للعلوم سنة 2002 ، مع العلم أنه عمل مستشاراً للبيت الأبيض (Consultant) سنة 1985، أي في عهد الرئيس السابق ريغان. وفي شهر مايو من عام 2002 قام الرئيس جورج بوش( الإبن) بتعيينه مدير عام لمعاهد الصحة في الولايات المتحدة . ويتبع لهذا المعهد ما يزيد عن 27 معهد آخر أو مركز ، يشتغل بهم 17.000 عالم وباحث، وللمعهد ميزانية تزيد عن 28 مليار دولار أمريكي بالنسبة لسنة 2004. وبالنسبة للباحثين المتعاقدين مع معهد الصحة العامة، فإن عددهم يبلغ 212.000 باحث يتواجدون في 3000جامعة أمريكية مرموقة(2).
مستقبل الدولة الوطنية والعمل الدولي
الشيء الأكيد هو الدولة الوطنية في يومنا هذا يصعب عليها أن تلعب دوراً قوياً في الداخل والخارج بمعزل عن الدول الكبرى لأنها لا تملك الإمكانيات المالية والبشرية والتقنية التي تساعدها على تحقيق طموحاتها. وعليه ، فإن مصلحتها تقتضي أن تدرج قوتها المحدودة في سياق القوى الكبرى، حتى تضمن استمرارها . وبهذا تتحول الدولة الصغيرة إلى جزء من سياق دولي يسير باتجاه مصالح واستراتيجيات ليست بالضرورة منسجمة مع مصالح واستراتيجيات هذه الدولة(3).
إن مسألة إعادة تنظيم القوى الداخلية في الدولة الوطنية أصبحت قضية تفرض نفسها. فالأحزاب الوطنية العتيدة والجمعيات الإصلاحية والمنظمات السرية والعلنية التي أسسها المثقفون والمناضلون القدامى في أيام الكفاح والنضال قد أدت رسالتها وحققت أهدافها المتجسدة في استرجاع الاستقلال. لقد أثبتت السنين الماضية أن الأحزاب التي مارست الحكم واحتكرت السلطة لمدة طويلة لم تستفد من ذلك لتطوير نفسها وتعزيز التفاف الجماهير والنخب حولها.إن احتكارها للحكم بكل الوسائل أنهى اعتمادها على ذاتها وعمق الاحادية والسلطوية داخلها بحيث أصبحت جزءاً من أدوات الدولة وهياكلها ومراكز القوى التي عشعشت بين ثناياها، بعد ماكانت هذه الأحزاب وهذه المنظمات والجمعيات قائدة لحركة التحرر الوطني، وبانية للدولة الوطنية.إن الأحزاب التقليدية قد تجازها الزمن حيث أنها فقدت القدرة على المبادرة ويربكها الرأي المخالف(1).
ففي الماضي كانت الأيدولوجيا عاملاً قوياً لتقريب وجهات النظر والاتفاق على رؤية متجانسة وإرادة قوية لتحليل الأوضاع وتفسير المشكلات والتوصل إلى وضع استراتيجية موحدة(Consensus). أما اليوم فإن الأوضاع تغيرت وأصبحنا نعيش في عصر التكنولوجيا المستندة إلى المعلومات والاتصالات، وهي بدون شك، ستكون فاتحة عصر جديد لايوجد له مثيل. ومن لا يسير في تيار هذه الثورة سيجد نفسه خارج قوانين اللعبة ومن الصعب عليه الوصول إلى شاطئ الأمان.
هناك شبه إجماع في عالمنا اليوم أن العولمة ليست أيديولوجية أو نظاماً. إنها قوى وشبكات تعتبر الكرة الأرضية كلها مجال عملها، وهدفها هو خلق اندماج اقتصادي وسياسي عالمي، وإقامة إمبراطورية واحدة، روما جديدة تقود ” الحروب العادلة” التي تفرضها المصالح لا الحق.
إن عولمة الاقتصاد هي الظاهرة الخطيرة التي ستكون لها انعكاسات سلبية على حياة الناس في يومنا هذا. ففي المجال الاقتصادي تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من إنشاء مجموعة من الهيئات الدولية، تحولت إلى أدرع للسياسة الأمريكية وراحت تفرض من خلالها على بقية العالم المعايير الاقتصادية التي يجب اتباعها وصولاً إلى تعميم النموذج الرأسمالي(1).
وبكل وضوح ، إن الولايات المتحدة تسعى لإعادة تشكيل العالم بما يتواءم وطبيعة مصالحها وهي ترى نفسها قوية ولا تحتاج أن تختبئ وراء الأمم المتحدة، لأنها تشعر أنها قادرة على تحجيمها أو تجويعها بحبس التمويل عنها. وباختصار ، إنها تريد العودة إلى عالم يحكمه منطق القوة العسكرية المباشرة الذي استخدمته الإمبراطورية الاستعمارية السابقة(2).
وبالنسبة للمحلل السياسي ، فإن العولمة تطرح جملة من التحديات والمخاوف، ومواجهتها أو التصدي لها لايمكن أن تتم إلا ببناء قوة ذاتية وإصلاح الأوضاع. والمطلوب في هذه المرحلة ليس اتخاذ موقف من العولمة وإنما بناء رؤية أو استراتيجية مدروسة، تؤهل الدولة الوطنية للتحكم في مصيرها.
كما أن الأزمات الداخلية والخارجية في الدولة الصغيرة تتطلب القيام بإصلاحات جذرية . غير أن هذه الخطوة تتعرض لمقاومة شرسة من الذين ألفوا حياة التشبث بما هو موجود ، مادام يخدمهم.
هناك حقيقة لايمكن نكرانها وهي أن الإصلاحات أمر صعب لأنها تعني في الواقع اتخاذ تدابير تحرم بعض النخب الحاكمة من سلطاتها، لتوزيعها على نطاق واسع. وهي تعني أيضاً توسيع القاعدة الاجتماعية لصنع القرارات وفرض حكم القانون والتصدي للفساد وبخاصة الفساد المالي(3).
حقيقة أن العولمة أصبحت أمراً واقعاً لا مفر منه، ولها إيجابيات وسلبيات. ومن إيجابياتها الدعوة إلى تقوية الروابط بين الدول واتساع نطاق الاستثمار وتزايد الثراء. كما أنها هيأت المناخ لنشر الديموقراطية والتعددية الحزبية واحترام حقوق الإنسان. أما سلبياتها فتتمثل في تقليص مهام الدولة الوطنية وتحجيم دورها في تقديم الخدمات بأسعار معتدلة، والقضاء على الذاكرة الوطنية، الشيء الذي سينتج عنه شل الدولة الوطنية. كما أن العولمة، في رأي خصومها، تمهد الطريق لفرض الوصاية الأجنبية على الدول الضعيفة. كما تعتبر العولمة أداة ضغط على الدولة الوطنية وتحرمها من إمكانية الرقابة على رؤوس الأموال. وفي هذه الحالة يطرح التساؤل الآتي:ماذا بقي من الدولة والسيادة ؟
ونستخلص من كل ما تقدم ، أن تقدم الدولة الوطنية في عصر العولمة والتحديات الداخلية والخارجية يتوقف على التوجه نحو الإصلاحات الجذرية وبلورة أساليب جديدة في التنظيم والتخطيط الاستراتيجي، أي وضع تصور واضح لما ينبغي عمله في المستقبل. وتتمثل هذه الاستراتيجية فيما يلي:
- تدريب وتأهيل اليد العاملة من الشباب لما يمثله من قنبلة موقوته ومهارات ضائعة غير مستغلة في بناء القدرة العلمية والتقنية لأن التقنية الحديثة لايمكن الاستفادة منها بدون التأهيل العلمي الجيد. كما أن بناء القدرات على البحث والتطوير في العلوم والتكنولوجيا يعتبر إحدى المتطلبات الرئيسية من أجل التعامل مع التحدي العالمي الذي يفرضه التحول نحو المجتمعات القائمة على المعرفة.
- بناء ثقة متبادلة بين القطاع الخاص والدولة وتقاسم المسؤولية في بناء الدولة الوطنية.
- تشجيع وتأهيل المؤسسات الثقافية والبحث عن آليات وسبل جديدة لتجديد المؤسسات لكي تلعب دوراً في رعاية الشباب، ومكافأة المثقفين والباحثين الذين يعملون في مجال الترجمة والإبداع، أي تحرير الجمعيات العلمية من قيود الوزارات أو الوصايات.
- إعادة الاعتبار وتثمين أبحاث العلماء والمفكرين والاستفادة من مهاراتهم وخبراتهم، والابتعاد عن فكرة الاعتماد على “المثقفين الطيبين” الذين تحولوا بسهولة إلى موظفين حكوميين يروجون لوجهة نظر السلطة.
- إن الظروف تفرض على قادة الدولة الوطنية أن يتيحوا الفرص للقيادات المبدعة لكي تثبت في أرض الواقع كفاءاتها وطروحاتها، لأنها تعيش في حيرة من أمرها. فإن هي سعت لأن تدير ماهو سائد دون تغييره ، فهي ستدير الأزمة ولن تقدم شيئاً ملموسا وستعيد انتاج السائد الذي يعتبر بائداً. وإن هي سعت للتغيير تتعرض للتأنيب والعقاب من الذين تسلقوا الهرم الوظيفي لسنوات طويلة واستقروا إلى الأبد هناك.
- إن ما يتمناه الفرد أن تحدو حدو الدول المتقدمة التي تهتم بالدرجة الأولى بوضع استراتيجيات محددة لخدمة مصالحها، وأن لا تبقى الدولة الوطنية تهتم فقط بتثبيت سلطانها والمحافظة على الوضع القائم.
* دراسة منشورة في أعمال الملتقى الدولي عبر إشكالية التحرر والتحديات الدولية الراهنة، الجزائر: فبراير 2005، ص 39-63.
(1) أحمد أبو زيد ، الحياة ، 14/10/2002.
(1) نبيل خليفة ، الوسط ، العدد 44 ،( 31 مايو 2004) ص 11.
(1) الحياة ، 12 فبراير 2003.
(1) السيد ولد أباه ، اتجاهات العولمة ، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،2001 ص29.
(2) Iiberation , 19 Novembre , 1999.
(3) الحياة ، 12 إبريل 2003.
(1) نبيل خليفة ، مرجع سابق.
(1) نفس المرجع الآنف الذكر.
(2) محمد بن سعد التميمي، العولمة وقضية الهوية الثقافية. د.ت.
(1) محمد محفوظ، العولمة وتحولات العالم. بيروت: المركز الثقافي العربي،2003 ص14.
(1) نفس المرجع الآنف الذكر.
(1) جورج أصطفان، الوسط، 24 مايو 2004.
(2) http://www.nih.Gov. (December2004).
(3) محمد محفوظ، مرجع سابق.
(1) صلاح الدين الجورسي، الحياة، 23/10/2003.
(1) مروان قبلان، الحياة ، 28/02/2003.
(2) نفس المرجع الآنف الذكر.
(3) باتريك سيل ، الحياة ، 7 مايو 2004.