الشراكة بين مؤسسات القطاع العام ومؤسسات القطاع الخاص في التنمية الوطنية بين التنافس والتكامل
في القرن الواحد والعشرين أصبح التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص عملية ضرورية لتحسين مستوى أداء الموارد البشرية وإنقاذ الاقتصاد الوطني في كل دولة من انهيار المؤسسات المالية وفقدان السيطرة العالمية، وقد ظهر هذا بوضوح في الدول الرأسمالية الغربية التي بادرت إلى شراء أسهم القطاع الخاص وذلك بقصد المحافظة على مناصب العمل وعدم إحالة العمال على البطالة. إن تدخل الدولة في شؤون القطاع الخاص وتوظيف أموال الخزينة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول الإتحاد الأوروبي لإنقاذ المؤسسات المالية وشركات إنتاج السيارات من الإفلاس، يدل على حتمية وجود تعاون وثيق بين القطاع العام والقطاع الخاص، وأنهما يكملان بعضهما البعض.
إن هذه المقدمة للموضوع تدفعنا إلى التساؤل عن جدوى الاعتماد في النظام الليبرالي على قوانين العرض والطلب التي تتحكم في الأسواق، لأن جشع وسوء تصرف رجال الأعمال قد يلحق ضررا كبيرا بالاقتصاد الوطني والاقتصاد الدولي. إن سعي المنظمة الدولية للتجارة لفسح المجال أمام الشركات المتعددة الجنسية لكي تفرض نظام السوق والمنافسة، قد ينتج عنه تحطيم المؤسسات الوطنية في أي بلد لأن فسح المجال أمام الرأسمال الأجنبي الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق ربح سريع، سيقود في النهاية إلى نهب ثروات الدول النامية وتصديرها إلى الخارج ولهذا، فإن القطاع العام هو الذي يتعين عليه أن يدعم الإنتاج الوطني ويحميه من المنافسة الغير المتكافئة.
دعنا نكونوا واقعيين ونعترف بأنه بالرغم من الانتقادات العشوائية التي توجه إلى القطاع العام وتباطئه في الاستجابة لاحتياجات المواطنين فإنه يبقى الركيزة الأساسية التي تشد بنيان الدولة لماذا؟ لأنه هو الذي يلعب أدواراً حيوية تتمثل في:
- إعادة توزيع الثروة وضمان عدالة التوزيع وتخفيف الأعباء على الفئات الأقل دخلا.
- يوظف المداخيل المالية من النفط والضرائب ويعيد استخدامها في التوظيف وإعادة الاستثمار بقصد نشر الرفاهية وتعميم الوفرة الاقتصادية.
- يحرص على توفير فرص عمل للمتخرجين وحشد الطاقات الاقتصادية وفق خطة مركزية لتقديم خدمات للمواطنين.
تحديات تواجه القطاع العام
الملاحظة الأولى التي ينبغي أن نبديها حول القطاع العام أنه لا يملك توجها واضحا لما ينبغي أن يقوم به في عصر المنافسة والعولمة والشفافية. فالمسؤولون في القطاع العام عندهم غموض في الأهداف وعدم وضوح الرؤيا وذلك نظرا لصعوبة التوفيق بين أهداف الكفاءة الاقتصادية والفعالية في العمل، وأهداف تحقيق العدالة الاجتماعية وتقديم الخدمات للمواطنين بأسعار زهيدة. فإذا كان قادة القطاع الخاص يملكون استراتيجيات واضحة تتمثل في تحقيق الربح، والمحافظة على الزبائن عن طريق التنافس وتقديم منتوج جيد يدفع كل زبون ثمنه، فإن القطاع العام الذي تضخمت هياكله وازدادت تكاليف تسييره، يعاني من ضعف إدائه وتدهور أوضاع المؤسسات العامة، وهذا ما جعل زبائنه يشتكون إلى القيادات العليا ويتهمونه بالتقصير في أداء واجباته والتباطؤ في الاستجابة لحاجات المواطنين المتزايدة وذلك بالرغم من الامتيازات والصلاحيات التي تقدم إليه من طرف الدولة التي تغدق عليه الموارد المالية المطلوبة بكل سهولة لتغطية أية تكلفة، ومنحه التسهيلات الضرورية في عمليات الاستيراد والإعفاء من الرسومات على الاستيراد.
وبكل بساطة، فإن كثرة المستفيدين من الخدمات الحكومية واختلاف مصالحهم وتزايد اعدادهم، هي التي ساهمت في صعوبة تحديد الأهداف وضعف الإدارة في القطاع الحكومي. كما أن العمل في إطار القوانين الجاري العمل بها والالتزام ببنودها حرفيا، قد دفع بالإداريين إلى العمل بحذر وذلك بقصد تجنب التصادم مع المواطنين والتعرض للمساءلة.
إن ظهور هذه الاختلالات في سير العمل بالمؤسسات الحكومية، سواء كانت إنتاجية أو خدمية، قد حفز المسؤولين في المؤسسات الحكومية لتغيير أسلوب العمل، والدعوة إلى التصحيح الهيكلي والتحول إلى اقتصاد السوق والسعي لتحسين مستوى الأداء في المؤسسات الحكومية.
وانطلاقا من هذه الحقيقة أو هذا التوجه، بدأت مؤسسات القطاع العام في الجزائر وفي دول عديدة في بداية التسعينات من القرن العشرين، تراجع سياسات الإدارات التقليدية، وتحث القادة الإداريين على الابتعاد عن الأساليب التقليدية في العمل المتمثلة في العمل الفردي البيروقراطي والالتزام حرفيا بتطبيق القوانين والسعي لاسترضاء الرؤساء في العمل بأية صفة حتى لا يغضبون على معاونيهم. فالتوجه الجديد لإدارة القطاع العام يقوم على أساس العمل بأسلوب إدارة الجودة الشاملة الذي يكون الحرص فيه على الأداء الجيد في المؤسسة، سواء كانت في القطاع العام أو القطاع الخاص، والتخلص من كل مؤسسة يكون مردودها ضعيفا أو غير قادرة على مسايرة الأقسام الأخرى التي ترتقي بالخدمات العمومية إلى المستوى المطلوب. إن الإستراتيجية الجديدة للعمل تقوم على أساس دعوة القائد الإداري إلى غرس وتحفيز وزرع الثقة في العاملين، والاعتماد على المعلومات الصحيحة، وعلى منهج العمل الجماعي والنظرة إلى الأمور بنظرة مستقبلية بعيدة المدى(1).
ويستفاد من الدراسات الحديثة في الإدارة العامة أن الاستراتيجيات الجديدة في مجال تقديم الخدمات للمواطنين تقوم على أساس إعادة النظر في دور الدولة في المجتمع وتحديد الأهداف من جديد وإقامة علاقات جديدة تختلف عن الأساليب التقليدية المألوفة. وعليه، فإن الاستراتيجيات الجديدة للخدمة العامة تقوم على الأسس التالية:
- الإنتاجية: أي كيف تتمكن الحكومات من إنتاج خدمات أكثر بأموال من الضرائب أقل؟ ومعنى هذا أن المواطنين يقبلون بتقليص الخدمات مقابل تخفيض الضرائب التي تثـقل كاهلهم، سواء كانوا فقراء أو أغنياء.
- الاعتماد على شركاء غير حكوميين لتقديم الخدمات: وهذا التوجه يهدف إلى تغيير سلوك المديرين، واستبدال نظام الأوامر والتحكم البيروقراطي بنظام التحفيز في العمل والتركيز على جودة الخدمة. ولهذا، اتجهت معظم الحكومات لبيع مؤسسات عامة في القطاع العام والاعتماد على شركاء غير حكوميين لتقديم الخدمات للمواطنين.
- التركيز على الاستجابة لاحتياجات المواطنين وليس تصميم برامج رسمية من وجهة نظر مقدمي الخدمات (الإدارات الحكومية): وهذا يعني في واقع الأمر إعطاء خيارات للمواطنين، وعلى الإداريين في أجهزة الدولة أن يعملوا وفقا لاحتياجات المواطنين، أي استعمال آليات السوق. فما يحتاجه الزبائن يوفر لهم، وعليهم أن يدفعوا الثمن المطلوب لكل خدمة، وهذا ما تركز عليه إدارة الجودة الشاملة.
- نقل مسؤوليات تقديم الخدمات إلى الحكومات أو الإدارات المحلية: وهذا يعني في جوهره، الابتعاد عن المركزية، وإعطاء فرص للقيادات المحلية أن تشارك في عمليات التنمية وإظهار كفاءاتها بتقديم الخدمات الجيدة، وهذا الأسلوب يتماشى مع إدارة الجودة الشاملة التي تهدف إلى تدعيم المشاركة والعمل الجماعي وتلبية رغبات المواطنين على جميع المستويات.
- تحمل المسؤولية عن النتائج: والمقصود بذلك أن تتحمل كل جهة المسؤولية الكاملة عن ما تقوم به، ولا تنتظر من الجهات العليا أن تحميها من غضب المتعاملين معها أو المراجعين. فلا بد من الاعتماد على النفس، سواء في تحديد المدخلات والتعرف على طلبات المواطنين في بيئة العمل، أو على مستوى المعالجة الصحيحة للقضايا الأساسية وتحقيق النتائج المطلوبة. فالشيء المهم هو العمل بطريقة ديمقراطية وبناء مجتمع مدني متجانس وإعادة صياغة علاقة الإدارة بالمواطن(1).
التوجه نحو اقتصاد السوق والشراكة
يبدو أن المسؤولين في القطاع العام قد أدركوا أن العولمة الاقتصادية خلقت مفاهيم وتقنيات جديدة وأن العديد من الدول قد غيرت منهجها في العمل وأصبحت تسعى جاهدة لبناء مجتمع المعلومات أو “مجتمع المعرفة” بدلا من التمسك بإجراءات العمل في المجتمع التقليدي. إن هذا الانتقال يعد في الحقيقة، انتقالا في الذهنيات التي عرفت كيف تقفز من نمط التسلط إلى نمط المشاركة، من حالة الجمود إلى حالة الحركة والمرونة، من حالة التخوف من نتائج اقتصاد السوق إلى حالة قبول التعايش معه.
وفي هذا السياق، انطلقت في الجزائر عملية إصلاح المؤسسات والتحول نحو اقتصاد السوق في سنة 1989، حيث نص دستور 23 فبراير 1989 على إلغاء نظام الاحتكار وتم تعويضه بنظام الانفتاح والمنافسة والدخول في شراكة مع الشركات الدولية ومؤسسات القطاع الخاص بالجزائر.
غير أن تغير استراتيجيات العمل في القطاع العام والقطاع الخاص لم يصاحبه تغير في الذهنيات البيروقراطية الموجودة في عقول الأشخاص الذين يتقلدون المناصب الإدارية فإذا كانت القيادة السياسية قد تبنت حزمة من السياسات الاقتصادية تستهدف بمقتضاها تشجيع الاستثمار وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وتنمية الصادرات خارج المحروقات، فإن الجهات التي تقع على عاتقها مسؤولية تنفيذ تلك السياسات لم تكن مستعدة وجاهزة لتطبيق السياسات الجديدة المرسومة من طرف القيادة، ولذلك كانت نتائج تلك السياسات التي تم إقرارها في أعلى هرم السلطة سلبية، واصطدمت بمعارضة قوية واستياء من طرف المعادين لها.
ونستخلص من ما تقدم، أن من شب على شيء شاب عليه، ولا يمكن القيام بإصلاحات جديدة ترقى إلى المستوى المطلوب إذا كانت بيئة العمل غير محفزة، لأن التغيير مرتبط بقدرة الفرد واستعداده للتأقلم مع الأوضاع الجديدة وفهمه لطبيعة المتغيرات، وكذلك درجة تعقد الأوضاع التي يمكنه التعامل معها وبعبارة أخرى، فإذا كان الأفراد قادرون على القيام بأعمالهم الجديدة، فإنهم يكونوا ذو قيمة كبيرة في إدخال التغيير على إداراتهم.
وبأيجاز، إنه لا يمكن أن تنتقل الجزائر من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق والشراكة، ما لم تتغير ذهنيات الأفراد الذين يصنعون السياسات العامة ولهم سلطة اتخاذ القرارات والمنفذون لها على حد سواء. ففي ظل الشراكة والارتباط بالشركات المتعددة الجنسيات، وهي مؤسسات عملاقة في دول الاتحاد الأوروبي، والسعي للإنخراط أو الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وجدت الإدارة الجزائرية نفسها غير قادرة على السير بسرعة مماثلة لسرعة المؤسسات الدولية التي تميزت عن الجزائرية، بالمرونة والسرعة في العمل والكفاءة في الأداء والتطبيق الفعلي للقوانين الجاري بها العمل.
إن إقدام الجزائر على تغيير سياساتها الاقتصادية بسرعة وبدون ضوابط وقواعد عمل مدروسة قد خلق لها ارتباكات في سير وتيرة العمل منذ دخول الإصلاحات الاقتصادية حيز التنفيذ في بداية التسعينيات من القرن العشرين. وقد ارتكزت تلك السياسات على مقاييس العمل الجديدة المتمثلة في:
- تحرير الأسعار
- حرية تنقل الأموال بين الداخل والخارج
- أيقاف الدعم المالي للمؤسسات
- فسح المجال أمام الاستثمار الأجنبي
- تقديم التسهيلات لدخول وخروج الأموال الأجنبية
- دعم المنافسة والتخلي عن سياسة احتكار التجارة الداخلية والخارجية.
وباعتراف الحكومة الجزائرية، فقد أكدت المعطيات الأولية لتقييم مسار 3 سنوات من اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي (2005-2008)، ضعف أداء القطاع العام والقطاع الخاص ووجود خلل واضح في الميزان التجاري (خارج المحروقات). فالاقتصاد الجزائري، لم يجن أية فائدة منذ دخول الشراكة مع الاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ في سبتمبر 2005. ففي الوقت الذي ارتفعت فيه الواردات الجزائرية من دول الاتحاد الأوروبي منذ 2005 بنسبة 80%، منتقلة من 2,11 مليار دولار إلى 8,20 مليار دولار سنة 2008، لم تتجاوز الصادرات الجزائرية إلى دول الإتحاد الأوروبي في نفس الفترة، 1 مليار دولار. وقد أوضحت السلطات الجزائرية أن ضعف أداء القطاع العام والقطاع الخاص يرجع “إلى العراقيل البيروقراطية، والظروف التقنية والقانونية”.
أما الأوربيون فقد تحججوا بضعف أداء المؤسسات الجزائرية بسبب مناخ الاستثمار السيئ وظروف الأزمة المالية العالمية(1).
لقد أتينا على ذكر هذه الحقائق لنبين أو نثبت أن الشراكة المعول عليها لتحسين مستوى الأداء والتنافس والعمل في شفافية، لم تكن مجدية بسبب غياب تشريعات قانونية واضحة ومحددة لكيفية تنظيم الأعمال تنظيمنا محكما وصارما. إنه لمن الواضح، أن الصعوبات التي يواجهها القطاع العام، وكذلك القطاع الخاص، نابعة من صعوبات تطبيق القوانين التي تم إقرارها نظريا، لكن ينقصها التفعيل عمليا. وبكلمة أخرى، فإنه بالإضافة إلى تطبيق القوانين في بيئة خالية من المبادرات وتحفيز الموارد البشرية، هناك مشكل آخر يبرز على السطح باستمرار، وهو أنه كلما أتى وزير أو رئيس إلا ويقوم بتعديل أو تغيير القوانين التي كانت مطبقة سابقا، أي أنه لا توجد استمرارية واستقرار في القوانين. فكل وزير يأتي يقوم بإدخال تعديلات أو يلغي ماهو معمول به، وهذا يخلق ارتباكا في وتيرة العمل(2).
كما يعاني القطاع العام من ظاهرة أخرى تتمثل في انعدام الحوافز التي تعتبر من أهم العوامل الأساسية لخلق الاستقرار الوظيفي. والمقصود بالحوافز تلك المؤثرات الخارجية التي تحفز الفرد وتشجعه على القيام بأداء أفضل(3). إن انخفاض الرواتب وانعدام الحوافز المادية في القطاع العام نتج عنهما هروب الكفاءات نحو الخارج والالتحاق بالشركات الأجنبية المنافسة للقطاع العام. وبذلك حرم القطاع العام من مهارات وكفاءات عناصره المؤهلة مهنيا والقادرة على أداء المهام بفعالية وكفاءة عالية. فالإحصائيات تشير إلى أن هناك ما لا يقل عن 40,000 خبير وباحث جزائري غادروا البلاد إلى الخارج (وخاصة إلى أوروبا) في السنوات الأخيرة، وهم مقسمون حسب النسب التالية: 50% أطباء، 23% مهندسون و15% علماء وباحثون، والسبب هو الأجر البسيط الذي كان يتقاضاه كل واحد، وهو في حدود 500 أورو أوروبيا شهريا، بينما يتقاضى كل واحد منهم الآن في أوروبا أجرا قد يصل 6000 أورو شهريا(1).
تشجيع سياسة الخصخصة
ليس هناك جدال بأن القطاع العام يقدم خدمات جيدة وأساسية للمواطنين، وهذه الخدمات ضرورية لوجود الإنسان واستمراره على قيد الحياة. إن هذه الخدمات تحتاج فعليا لحسن إدارة وتنظيم، ولا تحتاج أبدا للإلغاء من أجل إتاحة فرصة شكلية يتيحها القطاع الخاص(2).
وعليه، فإن القطاع العام هو العمود الفقري للدولة العصرية ولا يمكن التقليل من شانه، إنه:
- تجسد سيادة الدولة على ثروات الشعب.
- يجمع الضرائب والعائدات النفطية ويعيد توظيفها ودفع رواتب العاملين في القطاع العام منها.
- يحرص على منع استغلال المواطنين وفرض احتكار السلع والخدمات.
- يوفر فرص العمل لمئآت الآف من المواطنين ويساعد بذلك في امتصاص الباطلة.
- يخصص أموالا طائلة للتعليم والتدريب ورفع القدرات الإنتاجية في مجال الموارد البشرية.
إلا أنه، نتيجة مستوى الأداء والكفاءة الاقتصادية لمشاريع القطاع العام وتزايد الضغط على الوظائف، بدأت الدعوة إلى إعادة النظر في أهداف القطاع العام وتصحيح هياكله والتحول نحو اقتصاد السوق. وإذا كان القطاع العام لا يسعى إلى الربحية، عكس القطاع الخاص الذي يلهث وراء جمع الثروات، فإنه (أي القطاع العام)، بالتأكيد يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، بينما يبحث القطاع الخاص عن الكفاءة الاقتصادية.
نستخلص من ما تقدم، أن الحكومة أصبحت الآن تسعى لإشراك القطاع الخاص في التنمية وخلق الوظائف، والسماح له بالاعتماد على آليات السوق الحرة والمنافسة في تحديد أسعار السلع والمواد المنتجة والمستهلكة.
وكيفما كان الحال، فإن الدولة في الجزائر، انطلقت في عمليات تشجيع الخصخصة في بداية التسعينيات من القرن العشرين، وذلك في إطار برنامج “التصحيح الهيكلي” وأعلنت للملأ أن “سياسة خصخصة المؤسسات العمومية قرار لا رجعة فيه”. وبكلمة أخرى، فإن الدولة عولت على بيع مؤسسات القطاع العام إلى القطاع الخاص أو إلى العمال إذا أرادوا أن يشتروا مؤسساتهم ويواصلون العمل بها.
إن التحول إلى اقتصاد السوق، حسب تبريرات بعض القياديين في القطاع العام، قد جاء نتيجة لقناعة المسؤولين في الدولة بأن عصر العولمة يفرض على الدولة أن تولي اهتماما أكبر للقطاع الخاص. إنه الوسيلة الملائمة لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة. وبعبارة أخرى، إنه لم يعد في الإمكان بناء اقتصاد وطني يتميز بالفعالية والكفاءة الاقتصادية والرشادة الإدارية دون مشاركة رجال الأعمال وأصحاب الخبرة والكفاءة لأن تدخل الدولة بمفردها وسيطرتها على كل شيء، أدى إلى تجميد كل أنماط التجديد والابتكار وتحسين مستوى الإنتاج.
وتأسيسا على ما تقدم، يمكن القول أن الحكومة تسعى إلى تدعيم الخصخصة وذلك لتحقيق الأهداف التالية:
- في إطار تفرغ مؤسسات الدولة للمهام الرئيسية مثل الدفاع الوطني، العدل، والشؤون الخارجية، يتولى القطاع الخاص إنجاز الأعمال المرتبطة به كمتعاقد كمستثمر، وبالتالي، فهو الذي يتحمل عبء الوظيفة الإنتاجية والاستثمارية بما يملك من مؤهلات بشرية ومادية لا تتوفر في القطاع العام.
- بما أن القطاع العام يخضع لقوانين رسمية فيها الكثير من التعقيد، فإن القطاع الخاص يستطيع بقراراته الداخلية المرنة أن يتحكم في عناصر الإنتاج. والظروف المحيطة بها، وبذلك يمكن اعتباره دعامة أساسية لتحسين معدلات الإنتاج كما أنه يعتبر وسيلة هامة لترشيد القرارات على مستوى المؤسسات أو على مستوى الاقتصاد الوطني ككل.
- التخفيف من الأعباء المالية التي تتحملها الدولة في مشاريع التنمية وأيجاد فرص عمل جديدة.
- إعفاء الدولة من الإعانات والمساعدات التي تقدمها لبعض السلع والخدمات.
- اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية والاستفادة من عوائدها ومن الوسائل التكنولوجية المتطورة.
- خلق الثقة في المستثمر الوطني والاعتماد على القطاع الخاص في استجذاب رؤوس الأموال الموجودة بالخارج واستثمارها داخل الدولة، وبذلك يستفيد منها المجتمع في شكل مشاريع توظيف الأيدي العاملة وتخفيف مشاكل البطالة والفقر.
وباختصار شديد، فإن سياسة الخصخصة تحتاج إلى دعم حكومي وذلك لما يتميز به القطاع الخاص من فوائد كبيرة يمكن أيجازها فيمايلي:
- رفع الكفاءة الإنتاجية.
- تحسين النوعية والجودة.
- توسيع دائرة الملكية.
- زيادة العائدات المالية للدولة.
- توفير فرص أكثر للعمل.
- تطوير وتنمية أسواق رؤوس الأموال.
عوائق الخصخصة
إن الالتجاء للقطاع الخاص لتحسين الإنتاجية والأداء الجيد في الخدمات الإدارية، لا يعني أنه تم العثور على الطريق المعبد الذي يقود بلوغ القمة والتربع على كرسي الريادة في مجال الكفاءة الإدارية. فبالإضافة إلى غياب الاستقرار القانوني، يعاني القطاع الخاص من صعوبات تحول دون ممارسة أنشطته الإنتاجية بطريقة عادية. وعليه، فإن الخوصصة تعرف جملة من المعوقات في الجزائر، من أهمها:
- الافتقار إلى تمويل الخوصصة: إن القطاع الخاص يجد صعوبة كبيرة في تمويل مشاريعه، ولذلك يلتجئ إلى عملية التسليف والتوجه للبنوك للحصول على قروض مالية بنسب عالية يصعب تسديد فوائدها في الوقت المتفق عليه.
- عدم وجود تقنيات حديثة بسبب ارتفاع أسعارها: والمشكل هنا أن الدول المتقدمة متفوقة تكنولوجيا وتحتكر المعرفة والتقنيات الحديثة، واقتناء هذه التكنولوجيا من طرف القطاع الخاص لا يتم إلا إذا كانت هناك أموال ضخمة، من الصعب توفيرها بسبب أسعارها المرتفعة.
- صعوبة المنافسة مع شركات دولية عملاقة: إن خبرة ومهارات الشركات المتعددة الجنسيات لا يمكن أن تقارن بالمستوى المتواضع لشركات القطاع الخاص. ولهذا فإنه من الصعب أن تزاحم وتنافس مؤسسات القطاع الخاص تلك الشركات المتعددة الجنسيات، وبالتالي، من الصعب على مؤسسات القطاع الخاص أن تحافظ على وجودها (Survive) وتبقى على قيد الحياة.
- ارتفاع كلفة التدريب: وهذا يعني أن تأهيل الموارد البشرية وتمكينها من اكتساب الخبرة والمهارة الفنية، يعتبر عبئا ثقيلاً على مؤسسات القطاع الخاص، وبالتالي، من الصعب عليه إنجاز المهام المسندة إلى العاملين فيه بطريقة فعالة.
القطاع العام يعاني من تكريس الذهنية البيروقراطية
المشكل في القطاع العام أنه يسير بموجب القوانين العامة التي تسنها السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وهو الشيء الذي يتطابق مع ما قاله المفكرة الألماني ماكس ويبر (Max Weber) ذات يوم: “إن النظام التقليدي للسلطة هو بدوره نظام محافظ يحرص على الاستمرارية والتمسك بالماضي الذي يضفي عليه الشرعية، وبالتالي، فإن استمرارية السلطة التقليدية أمر مرهون باستمرارية النظام الذي يحرص على عدم التغيير الذي، وإن حدث، فإنه يكون تغييرا تدريجيا (Evolutionary Change) وليس تغيير ثوريا (Revolutionary change )، وبالتالي، فإن السيطرة التقليدية هي السبب في خلق الذهنية البيروقراطية التقليدية بالمؤسسات العامة(1).
وبأيجاز، فقد ساعدت الذهنية البيروقراطية على تكريس بعض الأمراض البيروقراطية التي انتقلت بدورها من القطاع التابع للدولة إلى القطاع الخاص في نظام اقتصاد السوق المطبق من طرف السلطة في الجزائر. إنه لمن الواضح، أن النخب والعصب والجماعات القوية التي تصنع القرارات أو تؤثر في ذلك بطريقة واضحة، هي ذات عقلية تسليطية، تستغل هذا التحول من القطاع العام إلى القطاع الخاص وتستثمر فيه على حساب القطاع العام من أجل فرض المزيد من وجودها والاستحواذ على نسب أكبر من الريع البترولي الذي يعتبر هو المحرك للاقتصاد الجزائري(1).
إن الحقيقة الواضحة للعيان أن الغموض يسود استراتيجية ودور كل قطاع. والشيء الأكيد أن رجال الأعمال في القطاع الخاص يجرون ويلهثون وراء الاستحواذ على أموال الخزينة العامة للدولة، والسعي لإبقاء القطاع العام ضعيفا وممولا لمشاريع الاستثمار في القطاع الخاص الذي لم يظهر نضجه وقدرته على لعب دور محوري في عمليات التنمية حتى الآن.
المشكل هنا أن عائدات البترول المتوفرة اليوم قد لا تتوفر غدا. وإذا حدث وجفت آبار البترول، والدولة لا تريد فرض الضرائب لتمويل الخزينة، بدعوى أن هذا لا يتحمله أي مواطن، فإن مشاريع التنمية ستتوقف وتقديم الخدمات يواجه نكسة، وإذا حدث ذلك، فإن الأزمة ستعصف بالقطاع العام والقطاع الخاص على حد سواء.
الحل يكمن في إعادة توزيع أدوار
كل من القطاع العام والقطاع الخاص
إن القطاع العام يعتبر في جميع الأحوال هو القائد في مجال التنمية حيث تقوم الدولة من خلاله بتوفير الخدمات الأساسية في مجالي التعليم والصحة وبيع منتوجاته للمواطنين بأسعار زهيدة. إن مرافقه الأساسية في مجال المياه والكهرباء والموانئ والسكك الحديدية وبناء الطرقات، وبناء المدارس والجامعات، والأمن، قد استطاعت أن تلبي معظم الحاجات الضرورية للمواطنين مقابل ثمن بسيط ليس في إمكان القطاع الخاص تقديم خدمة مماثلة بنفس السعر.
المشكل هنا، أن الناس لا زالوا يحلمون بالحصول على أرقى الخدمات ودفع أثمان بسيطة مقابل ذلك، ولا يدركون أن معظم مؤسسات القطاع العام خاسرة وغير قادرة على تقديم خدمات بدون دعم مالي من الخزينة العامة للدولة. إن المسؤولين السياسيين يحولون باستمرار تلبية احتياجات المواطنين، لكن في حدود الإمكان، لأن الإلتجاء إلى فرض ضرائب جديدة لتمويل الخدمات قد يخلق استياء عاما ومقاومة غير مأمونة العواقب.
والسؤال المطروح هنا: هل هناك إرادة حقيقية وشجاعة قوية لخصخصة القطاع العام بقصد تخفيف آثاره السلبية، بالإضافة إلى بذل الجهود المضنية في ابتكار أنواع جديدة من التنظيم الفعال؟ إن الجواب على هذا التساءل يعتبر هو المفتاح الرئيسي لنجاح أو فشل الخصخصة. فالتحول من نظام اقتصادي تحت سيطرة القطاع العام إلى نظام الخصخصة الذي يتسم بالديناميكية والمبادرات الفردية يتطلب تفهما وثقة في صحة هذا التحول وضرورته لتخليص الاقتصاد الجزائري من أزمته. المشكل واضح هنا، أن السلطات العليا في الدولة تخشى من جشع القطاع الخاص وسعيه للربح السريع، خاصة وأن نسبة كبيرة من العمال يعتقدون أنه سيتم تسريحهم من مناصب العمل بمجرد تخلي الدولة على القطاع العام، وأن الفئات الضعيفة الدخل ستتضرر من ارتفاع الأسعار والاستغناء عن نسبة كبيرة من العمال بدعوى أنه لا حاجة إليهم، وبالتالي، سيحالون على البطالة.
ولهذا، فإن تخوف القيادة من القطاع الخاص نتيجة لسمعته السيئة ووجود قناعات عند الناس بأنه غير قادر أن يكفل للعمال أي تحسن في الأجور أو تدريبهم على التكنولوجيات الحديثة، هي مخاوف لا مبرر لها، لأنه لا مصلحة للدولة أو العاملين فيه، في بقاء واستمرار قطاع عام عديم الكفاءة. إن الحل يكمن في انتهاج سياسة واضحة المعالم تسند إليه، وتحديد دور القطاع الخاص في التنمية وتحديد المؤسسات الإنتاجية والخدمية التي تقوم بهذا الدور. وبمعنى آخر، يتعين على الحكومة أن تخفف الأعباء على نفسها وتقوم بتوزيع الأدوار بين القطاع العام والقطاع الخاص. فالقطاعات الاستراتيجية التي تعتبر حيوية للشعب، كالمياه والكهرباء والنقل والمواصلات والسكك الحديدية وبناء الطرقات والمدارس والجامعات ومقرات قوات الأمن… ينبغي أن تبقى تحت مظلة القطاع العام لأنها تتطلب أموالا ضخمة وتكنولوجيات متطورة لا يستطيع القطاع الخاص أن ينهض بها بمفرده وهذا يعني في حقيقة الأمر، توجيه استثمارات الدولة نحو القطاعات التي يستثمر فيها القطاع الخاص، وعلى الدولة تأمين احتياجات المواطنين في القطاعات الاستراتيجية وتقديم الخدمات بأسعار مناسبة أما القطاعات الغير استراتيجية مثل الصناعات التحويلية وتصنيع الأحذية والألبسة والمشروبات الغازية والمنظفات والتجارة، بجميع أنواعها، فهذه الأنواع من السلع والخدمات يمكن للقطاع الخاص أن يقوم بها ويوفر فرص عمل حقيقية وسلع منافسة في الداخل والخارج.
الخلل في السياسات العامة والتباطؤ في توظيف المعرفة
تنبع مشاكل القطاع العام والقطاع الخاص من الغموض في التشريع وضبابية الاستراتيجيات وصعوبة تحديد الأهداف وعدم اعتماد أنظمة سليمة لقياس الأداء. كما أن الإدارات الحكومية تعاني من النقص في ترشيد الأداء (Rationalization)، فالمهم بالنسبة للعاملين هو احترام النصوص القانونية وتطبيقها حرفيا وليس الحرص على تحقيق الأهداف المرسومة بدقة وفعالية.
كما أن هناك تقصير في المسؤولية عن النتائج التي يتعين على إدارة المؤسسات العامة تحقيقها (Lack of accountability). إن العبث بأموال الخزينة وصرفها بأية صفة كانت بدون أن تكون لها مردودية وكفاءة أداء عالية، هي مسؤولية كبرى تتطلب مساءلة ومحاسبة كل من هو في موقع المسؤولية، وتسليط أشد أنواع العقاب، إن هو أهدر المال العام، ولم يحقق الأهداف المرسومة في المؤسسة.
إن القطاع العام يتعرض لأزمات دولية وداخلية ومشاكل تنبع في جوهرها من ضعف الاستراتيجيات وغموض في الأهداف وعدم الإكتراث بتوظيف المعرفة وتحسين مستوى الأداء في العمل.
على الإنسان أن لا ينكر أن سياسات الحكم تعتبر أصعب عملية معقدة وذلك بسبب تشابك المصالح وتهافت الجماعات على النفوذ والثروة والجاه. فإذا كان قادة العولمة يصرفون وقتهم وطاقاتهم في توظيف المعرفة والإنتاج، فإن نسبة كبيرة من طاقات القيادة في الدولة الوطنية تصرف في محاولات التوفيق بين الجماعات المتنازعة على المناصب وتوزيع الغنائم على من يظهر الولاء والمحبة لهم. وعليه، فالمشكل الجوهري يكمن في حدة الصراعات وينتج عن ذلك إضعاف موقف القيادة التي لا ترضي كل الأطراف، وهذا يؤدي في واقع الأمر إلى شبه جمود يعيق التحرك الحاسم في أي اتجاه من الاتجاهات، وبالتالي، يصعب اتخاذ قرارات جذرية وخدمة الصالح العام. كما أن القيادة تعاني في معظم الأحيان من التعدد والتضارب المستمر بين الأولويات وخاصة إذا كانت المطالب كثيرة والإمكانيات محدودة.
وفي الختام، دعني أشير إلى بعض السياسات العامة (في دولة مثل الجزائر) التي كان في الإمكان توظيف المعرفة العلمية لحلها منذ زمان، ولكنها لا زالت تراوح مكانها بسبب عدم وجود رؤيا واضحة وإرادة سياسية قوية لأيجاد حلول ملائمة لها. ومن هذه السياسات التي يكتنفها الغموض وعدم الحسم فيها:
- مسألة تنويع الصادرات والمداخيل المالية: فهذه القضية قد كانت مسجلة في أجندة كل حكومة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا. إلا أن هذه المعضلة ما زالت موجودة حتى الآن ومداخيل الدولة المالية ما زالت تأتي من النفط ومشتقاته بنسبة 95%.هل عجز العلم عن إيجاد حل لهذه المعضلة؟.
- وجود خلل في القوانين المتراكمة: والتي تتغير إلا بشق الأنفس، وإذا تغيرات يكون قد فات أوانها ولم تعد ملائمة للمستجدات والتغيرات التي تتوالى بسرعة مذهلة. وكل واحد يعرف، بدون شك، أنه منذ عشر سنوات وقوانين الوظيف العمومي والإعلام والأسرة تنتقل باستمرار وبانتظام بين البرلمان ومقر الحكومة لتنام في درج أمين، ولم يفصل فيها حتى الآن. والشيء الأكيد أن المعرفة موجودة لحل الإشكالات الموجودة بهذه القوانين، لكن المقاومون لتغييرها يبدوا أنهم أقوياء وصامدون في وجهها. وبعبارة أخرى، فنحن لازلنا نعيش تحت سلطة القوانين التي صدرت منذ وقت قديم لحماية المكاسب الاشتراكية والثورة الزراعية والعلاج المجاني، إنها باقية بصرف النظر عن تغيرات الظروف وتغير العصور.
- هجرة الأدمغة إلى الخارج: تعتبر من أخطر القضايا التي تواجه البلاد، ولا يوجد أي بريق أمل لوقف هذا الاستتراف. يبدو أن الدولة الوطنية لا ترى مانعا من تصدير المعرفة لمن يريد أن يوظفها ويعتمد عليها لحل مشاكله. وأكثر من ذلك، هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح هنا: لماذا تصرف الحكومة الوطنية أموال طائلة على التعليم إذا كان غيرنا هو الذي يستفيد من علم وكفاءة ومهارة شبابنا؟ كيف يمكن توطين العلم والمعرفة إذا كانت الإرادة غائبة أو الدولة الوطنية غير قادرة على الاحتفاظ بالعلماء والباحثين والمفكرين الذي يمكن الاعتماد عليهم لبناء مستقبل البلد؟ إن نقطة الضعف في وضعنا الحالي أننا نتصور أن سادة العولمة سيسمحون لنا بأن نقتسم معهم المعلومات والمعارف. إلا أن الحقيقة المرة أنهم لا يسمحون أن نحصل إلا على ما يرغبون، لأنهم يحتكرون أسلوب استخدامها من طرف علماء كل بلد وتوظيفها لما فيه فائدة المجتمع.
- غياب التنسيق بين برامج التعليم العالي واحتياجات المؤسسات الخدمية والإنتاجية: لقد كان من المفروض أن تهدف برامج التعليم العالي إلى تلبية احتياجات القطاع العام والقطاع الخاص بحيث توفر الجامعات الإطارات الكفاءة والمتخصصة في مختلف المجالات العلمية إلى كل مؤسسات الدولة وتفسح لهم المجالات لتقديم الخدمات إلى المواطنين في كل تخصص علمي. غير أنه يلاحظ هنا أن الجامعات تقوم بتخريج الإطارات بدون معرفة الاحتياجات الحقيقية والتخصصات الدقيقة. وعندما يتوجه المتخرجون إلى سوق العمل لا يجدون من هو في حاجة إلى تخصصهم، وتحصيلهم العلمي لا فائدة تجدي منه. وبعبارة أخرى، إن الجامعات أصبحت تقوم بدور محو الأمية لا غير.
- غموض في السياسات الخاصة بتأهيل الشباب للمهن: إنه لمن الواضع أن أهم موضوع يشغل بال المسؤولين في كل دولة هو توفير الوظائف للشباب وإقحامهم في عمليات التنمية وتوفير الدخل المالي لكل شاب لمواجهة مشاكل الحياة اليومية. إلا أنه يلاحظ هنا أن الطاقات مبعثرة ومدارس او مراكز التكوين المهني تقوم بمجهودات لتكوين وتدريب الشباب الذين لم يتوفقوا في اجتياز امتحان البكالوريا. لكن هذا التكوين لا يجدي نفعا في أغلب الأحيان لسبب رئيسي وهو أن التكوين والتدريب تم بقصد التكوين لا غير، وأن الشباب لا يعثر على الوظيفة التي يحلم بها. والمفروض في مثل هذه الحالة، ان تقوم الدولة أو الجهات المسؤولة عن التكوين والتأهيل بتحديد احتياجات الإدارات والشركات وتتعرف على احتياجاتهم، ثم تقوم بتدريب وتأهيل الشباب للوظائف المطلوبة. وفي هذه الحالة لا يبقى الشباب مرميا في الشارع بعد تخرجه وإنما يلتحق مباشرة بالجهة التي أعلنت عن احتياجها إليه.
- الدولة هي المصدر الوحيد للتمويل: هذه هفوة موجودة في سياسات الحكومة الوطنية ولم تتغير. لقد كان من المفروض أن لا تورط الحكومة نفسها في بناء مئات الآلاف المساكن المكلفة وتدعم الشركات المفلسة؛ بل تنتهج سياسة إنشاء شركات مساهمة لتفسح المجال لذوي الدخل المتوسط الغير قادرين على إنشاء شركات بمفردهم، ولكنهم يملكون ثروة متواضعة فائضة عن حاجاتهم ويمكن استثمارها في شركة مساهمة. وبهذه الطريقة تشجع الدولة أصحاب المدخرات الفردية على الاستثمار في مشاريع منتجة، والابتعاد عن صرف أموالهم في شراء المواد الاستهلاكية التي تستترف الثروة والمدخرات في أشياء لا تعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني. وإذا كانت الدولة الوطنية لا توظف المعرفة لتنويع الاستثمار وإشراك المواطنين في مشاريع التنمية، فإن العولمة تسعى جاهدة لتقليص دور الدولة في عمليات الإنفاق العام، وخاصة الإنفاق الاجتماعي، وهذا سيؤدي إلى الحد من فاعلية وظائف الدولة في المجال الاجتماعي(1).
والخلاصة، هي أن الاستثمار في المعرفة وتأهيل الموارد البشرية، وتصنيف التقنيات الحديثة لحل مشاكل القطاع العام والقطاع الخاص، هي عمليات ضرورية ولا يمكن التقشف فيها.
(1) حمد بن صالح الشمري، إدارة الجودة الشاملة: تحسين الإنتاجية في القطاع العام، الرياض، د.ن. 2004، ص 49.
(1) عمار بوحوش، نظريات الإدارة الحديثة في القرن الواحد والعشرين، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2006، ص 96-97.
(1) يومية الخبر (الجزائر)، العدد الصادر يوم 13 ماي 2009.
(2) وكنموذج على هذا المثال، فقد قررت شركة “إعمار” الإماراتية في جويلية 2009 الإنسحاب كليا من الاستثمار في الجزائر وإلغاء مشروعاتها التي قدرت قيمتها بما لا يقل عن 20 مليار دولار وذلك بسبب قرار الحكومة الجديدة في الجزائر أن تحصل الشركات الجزائرية على نسبة 51% والأجنبية على 49% في أي مشروع استثماري، وهذا خلافا للعقد السابق في حكومة عبد العزيز بلخادم الذي لم يشترط على الشركات الأجنبية أن تتقاسم حصص رأسمال الشركات سواء بنسبة 30% أو 51%. كما استاءت شركة “إعمار” من وصف رئيس الحكومة الجزائرية أحمد أو يحي الاستثمارات العربية بأنها “مجرد تصاميم ومجسمات” والتي رأت فيها شركة “إعمار” أن هذا التصريح هو عبارة عن دعوة ضمنية لها وغيرها من الشركات الإماراتية والعربية عموما بمغادرة البلاد. أنظر: جريدة الخبر، العدد الصادر يوم الأحد 5 جويلية (يوليو) 2009، ص 2.
(3) عمار بوحوش، نظريات الإدارة الحديثة في القرن الواحد العشرين، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2006، ص 40.
(1) Mohamed Belkacem Hassan Bahloul, ” 40 000 chercheurs Algériens à l’étranger” Le point Economique, Alger, # 56 (décembre) 2006, p. 5.
(2) أسعد عبود، “خدمات القطاع العام وموارد الدولة”، جريدة الثورة، (السورية) العدد الصادر يوم 7/03/2006.
(1) مصطفى أبو عبد الله القاسم خشيم، مبادئ علم الإدارة، طرابلس: الجامعة المفتوحة، 2002، ص 157.
(1) محمد بلعسل، “سياسة توجه الجزائر نحو اقتصاد السوق”، رسالة جامعية غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة الجزائر، 2008، ص 57.
(1) محمد محفوظ، العولمة وتحولات العالم، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2003، ص 14.