برامج التعليم العالي تفقد مصداقيتها في الجزائر
كل جامعة محترمة في العالم ، لها دليل (كاتالوج) يحتوي على قوانين التعليم بها، وتواريخ إجراء المسابقات، و أسماء أعضاء هيئة التدريس الذين كانوا يقومون بتأطير الطلبة فيها، غير أن هذه التقاليد العلمية المألوفة في جامعات العالم، للأسف غير موجودة بجامعاتنا الجزائرية، اللهم إلا وجود قرار وزاري يحدد تواريخ استئناف الدراسة في بداية سبتمبر و انتهائها في يوم 04 جويلية من كل سنة .
عدم وجود أجندة هو المشكل
في البداية، أعترف أنني أكتب هذه السطور على مضض لأنني اقتنعت بعدم جدوى الكتابة في الجزائر، فالقضايا تثار لكن الوصاية لا تتحرك لتصليح الأوضاع. غير أنني شعرت أنه من الغلط أن يسكت الإنسان على مشكلة تغطية برامج الدراسات العليا الذي يبرز على السطح كل بداية سنة دراسية، بحيث صار من الصعب تغطية البرامج في وقت قصير من الزمن المخصص لتدريس الساعات المعتمدة في كل برنامج، و كما هو معروف، فإن الأساتذة يمضون محاضر استئناف التدريس في سبتمبر. لكن الشروع في تدريس الماجستير يؤجل إلى شهر نوفمبر حيث يتم الانتهاء من تنظيم مسابقة الماجستير والتعرف على الطلبة الجدد .
وفي الحقيقة، أن مشكل برامج التعليم العالي لا تعاني فقط من عدم وجود رزنامة (أجندة ) دقيقة للتدريس و تنظم دورات الامتحانات الشهرية و الفصلية و إنما تعاني أيضا، من تقليص ساعات البرنامج الذي تم تقليصه من 3 فصول دراسية في الماجستير إلى فصلين دراسيين فقط، بالإضافة إلى فصل آخر لكتابة ” مذكرة الماجستير ” بدلا من كتابة ” رسالة الماجستير “. إن تقليص المواد إلى فصلين دراسيين فقطن قد جعل الدراسة مختصرة جدا، بحيث تحول ما كان يعرف ” بالماجستير ” إلى شهادة معمقة للدراسات العليا (D.E.A) ! وبعبارة أخرى، فإن نظامنا يختلف عن الجامعات الأخرى التي تعتمد
3 فصول دراسة للماجستير ، كحد أدنى للحصول على هذه الشهادة . أما نحن في الجزائر، فإن التدريس يكون لمدة سنة واحدة . يتم خلالها تدريس 400 ساعة في مواد نظرية في الفصل الأول، و في الفصل الثاني 300 ساعة لتغطية مواد التخصص الدقيق.
والمشكل الجوهري في هذا الموضوع هو أن جامعاتنا الجزائرية التي يتم تسييرها من طرف الوصاية، وهي وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، لا توجد لديها أجندة أو رزنامة محددة و مفصلة، لتحديد كيفية تطبيق البرنامج المقرر على طلبة الدراسات العليا.
وإذا كان البرنامج يتطلب تدريس 16 أسبوعا لتغطيته بكامله ( مثلما ينص القانون) فإن الواقع هو أن مسابقات الماجستير لا تجري و لا يتم تنظيمها إلا في شهر أكتوبر… ولا تنطلق فعليا إلا في النصف الثاني من شهر نوفمبر، و السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا بقي من الفصل الأول ؟ ممكن أربعة أسابيع أو أكثر بقليل، فهل هي كافية لتغطية البرنامج الذي يتطلب 16 أسبوعا من التدريس ؟ فلو فرضنا أننا واصلنا التدريس لمدة 16 أسبوعا، فإننا سننتهي من إجراء امتحانات الفصل الأول في شهر أفريل… فكيف يمكن الآن تغطية مواد الفصل الثاني ؟ هل يمكن تدريسها في شهر ماي؟
ولعل الشيء الذي يزيد الطين بلة، هو أن العطل السنوية مبرمجة وفقا للرزنامة الأوروبية، أي عطلة في ديسمبر ( وهي عطلة للدول المسيحية) و تتعطل فيها لمدة أسبوعين.. ثم تأتي عطلة الربيع و نتوقف فيها عن التدريس لمدة أسبوعين، معناه أن برنامج تدريس الماجستير قد أفرغ من محتواهن بسبب التأخر في إنطلاق التدريس، ثم بسبب العطل التي تلحق أضرارا بالغة ببرامج التدريس، بينما كان من المفروض أن تكون هناك عطلة واحدة بين الفصلين الدراسيين، وذلك هو التقليد العلمي السائد في كل دول العالم.
تداعيات إفراغ برامج
التعليم العالي من محتواها
إن بقاء الوضع على حاله، يعني في واقع الأمر، تسليم شهادات فارغة من محتواها، فالمؤسسات التي توظف المتخرجين قد لا تأخذ الشهادات العلمية بجدية و تعتبر تكوينهم ناقصا، وبالتالي ، ستبحث عن أساليب جديدة للتوظيف تتمثل في الالتجاء إلى الجامعات الأجنبية أو الجامعات الخاصة الموجودة في دول أخرى و التي لها برامجها الجيدة، وبعبارة أخرى، إن عدم تدراك هذا الخلل الموجود في تدريس مواد الدراسات العليا و المتمثل في صعوبة تغطية برامج التدريس بصفة كلية، سينتج عنه الأضرار التالية:
- تدني مستوى التعلم العالي : وهذا ما نراه مجسدا في مسابقات الماجستير حيث يحصل معظم الطلبة و الطالبات على علامات ضعيفة إلى درجة أن 90 % من المتنافسين في العديد من الجامعات لا يحصلون على 10 من 20 !.
- خلل في برمجة مواد التدريس : أي إذا كان الأساتذة لا يبدؤون التدريس إلا في شهر نوفمبر، كيف يمكن برمجة مواد الفصل الثاني في شهر أفريل؟ ماذا بقي من السنة الدراسية لتدريس مواد الفصل ألثاني ؟
- نقص في التكوين: و هذا معناه حرمان الطالب من تغذية عقله بكمية كافية من المعلومات، وحصول المتعلم على معلومات ضئيلة لا تفي بالغرض و لا تشبع رغبات الشباب المتلهف على النهل من ينابيع العلم.
- الالتجاء إلى الواسطة: إذا كان الطالب غير متمكن في مجال تخصصه وغير قادر على تدارك النقص الموجود في برنامج دراسته، فإنه سيلتجئ إلى الواسطة للتوظيف أو المشاركة في المسابقات الوطنية و المنافسات الخاصة بالترشح لأي منصب .
النقص في التأطير يفرغ
البرامج من محتواها
بعد أن شرحنا مشاكل برامج التعليم العالي الآتية من تقليص المواد و عدم وجود رزنامة مفصلية لتغطية جميع مواد التدريس. يجدر بنا أن نشير إلى مشكلة أخرى مرتبطة بالمشكلة الأولى وهي مشكلة النقص في التأطير النوعي و التي تسبب في إفراغ البرامج من محتواها، وخلاصة القول حول هذا الموضوع أن برامج التعليم العالي و نجاح تدريسها يتوقفان على وجود أساتذة متخصصين في مواد كل برنامج، غير أن الشيء الذي يحصل عندنا هو أن المواد تكون مقررة بمعزل عن أساتذة الاختصاص و بالتالي تسند المواد الموجودة إلى أي مدرس لكي يكون له نصاب قانوني، ومن هنا تبدأ مشكلة البرنامج و الطلبة الذين لا يفهمون السبب في ضآلة المعلومات التي يحصلون عليها من أستاذ غير متخصص في المادة التي يقوم بتدريسها.
وإذا كان من السهل على كل مسؤول عن الدراسات العليا أن يستعين بالأساتذة الذين لا يحملون شهادة الدكتورة لتدريس بعض المواد. فإنه من الصعب عليهم الاستعانة بأولئك الأساتذة للإشراف على طلبة الدراسات العليا، و هذا يعني في واقع الأمر، الضغط على الأساتذة الذين عندهم رتب علمية عالية للإشراف على عدد ضخم من الطلبة الذين يتهافتون على وجود مشرف يخصص جزء كبيرا من وقته لكل طالب، وبالتالي، فإن النقص في عدد المؤطرين يقضي على النوعية في الإشراف ومتابعة كل طالب بدقة وعناية.
والمشكل الجوهري هنا هو أن قلة المؤطرين و كثرة الطلاب الذين يحتاجون إلى إشراف نوعي، قد ينتج عنه غياب المقاييس العلمية للتأطير التي هي في حدود 6 إلى 8 طلبة لكل أستاذ ( في الدراسات العليا) و13 طالبا لكل أستاذ في الليسانس.
ابتعاد الأساتذة الأكفاء عن مهنة
التدريس يخلق مشاكل في تأطير البرامج
ليس هناك جدال بأن أكثر كارثة يبلى بها أي بلد، هي أن يتخلى العلماء والمفكرون و الباحثون عن مهنهم أو حرفهم في وطنهم، لأن ذلك يعني إفساح المجال للتعساء، أن يحكموا الناس النزهاء، و يعبثوا بالعلم و الثروات الوطنية و ذلك في غياب قادة الفكر والمهارات المهنية التي تخدم المصالح العليا لأية دولة. و لهذا، فإن مصداقية برامج التدريس في المعاهد و الجامعات مرتبطة بوجود علماء أكفاء و باحثين مبدعين.
وبكلمة أخرى، إن غياب المهنية في أي بلد. ينتج عنه انكماش الرصيد المعرفي وانتشار الرداءة العلمية، كما يترتب عنه انضمام عدد كبير من حاملي الشهادات إلى هيئة التدريس، الذين يبحثون عن وظائف لكسب العيش، في انتظار العثور على وظائف إدارية أو سياسية، يمكن أن تمنحهم الامتيازات المالية. و المكافآت التحفيزية التي يصعب عليهم الحصول عليها في مجال التعليم المغبون.
لهذا نقول إن التقدم في أي قطاع من قطاعات الدولة والقطاع الخاص، مرتبط بوجود أصحاب المهن المبدعين والأساتذة الذين عندهم رغبة حقيقية في تعليم الأجيال الحالية و الصاعدة، وكما لا يخفى على أي إنسان، فإننا نعيش الآن في عصر المهنية Professionnalisme والمنافسة والاستثمار في الإنسان وترقيته في جميع الميادين، وعليه، فإن سياسية ” البريكولاج ” أو ” تريبوطاج ” في التعليم العالي لا يمكن أن تفسر عن نتائج إيجابية مهما طال الزم، فلابد من توجيه عناية خاصة إلى المفكرين والباحثين الذين عندهم ميولات تعليمية حقيقية و رغبة صادقة لمزاولة مهنة البحث والتدريس، ولا طمع لهم في المناصب المالية التي تسيل لعاب أي طامع في الثروة والنفوذ.
إنه لمن العجب و الغريب أن نسمع في الأخبار أو نقرأ في الجرائد بأن هناك توجه في سياسات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للتركيز على النوعية في التعليم وتحسين المستوى ودفع مكافآت مجزية للمشرفين على أطروحات الماجستير و الدكتوراه وتوسيع شبكة الأنترنيت ليستفيد منها الأساتذة و الطلبة، في حين أن الواقع هو أن سياسات التعليم العالي المجسدة في أرض الواقع، بعيدة كل البعد عن ما يصل إلى مسامعنا في خطب رنانة. إن من يعيش في الجامعات ليس مثل من يعيش خارجها، إن من يعيش بداخلها يشعر بالإحباط و أن ما يسمعه من توجهات وأفكار مستقبلية يصعب الحكم عليها الآن أو على الأقل هي توجهات تهدف لتهدئة الخواطر والعيش على أمل. أن يوم الفرج سيأتي يوما ما، لا محالة أو يوم ” تنور الملح ” !.
الجميع يعلم أن العلم لا ينبت في مستنقع، و أملنا أن تتطابق الأقوال مع الأفعال، وأن يدرك قادتنا أن التأطير العلمي وتوطين التكنولوجيا بوطننا والاستثمار في الإنسان الجزائري لكي يفيد و يستفيد، هي الحقائق أو الركائز الأساسية لتقدم بلدنا .
وإذا كانت الأعمال بالنيات، ويوجد أي مسؤول عن قطاع التعليم العالي، عنده رغبة صادقة لمراجعة قواعد التعليم الجامعي وتنقيته من الشوائب التي تحول دون سيره في الاتجاه الصحيح، فمن واجبنا أن نكاشفهم بالحقائق ونعطيهم خلاصة صغيرة، لعلها تفيدهم في إصلاح أوضاع جامعاتنا، إذا كانت هناك، حقيقة، معلومات تنقصهم عن المواضيع التي ذكرناها آنفا.
وباختصار، إن واجبنا المهني يفرض علينا أن نقوم بمهامنا حسب الأصول والمبادئ العلمية التي يتم مراعاتها في جامعات المشرق العربي أو جامعات دولية ذات مستور رفيع في مجال تأطير برامج الماجستير والدكتورة، وهي كثيرة لكن يمكن حصر النقائص بجامعاتنا في النقاط التالية:
- ينبغي أن تتخلى عن سياسة الكم ونبحث عن النوعية، وهذا يعني أن لا تتجاوز نسبة الطلبة لكل أستاذ لـ 8 ( أي أستاذ واحد لـ 8 طلبة).
- أن تشمل مكتبة كل جامعة تمنح شهادة الماجستير، على ما لا يقل عن 250.000 كتاب أو مرجع علمي.
- أن يكون لكل أستاذ مكتب يستقبل فيه طلبته مرتين في الأسبوع على الأقل.
- أن لا يتخرج أي طالب و تسلم له شهادة الماجستير، إلا إذا قام بإدخال التعديلات التي تطلبها لجنة المناقشة على رسالته.
- أن تشترك كل جامعة في مواقع الأنترنيت التي يتم من خلالها فتح المواقع العلمية لاقتناء الكتب و المقالات الموجودة في المجلات .
- أن تمنح مكافآت مالية على كل رسالة تناقش في اليوم الذي تجري فيه المناقشة، أي قبل انتهاء مداولات لجنة المناقشة.
- أن تمنح مكافآة مالية سنوية لكل أستاذ أو أستاذ مشارك لحضور ندوة علمية في الخارج أو تجديد معلوماته في مجال تخصصه.
- أن تنشأ شبكة وطنية للتبادل بين المكتبات (Inter – Library Loan) للحصول على المقالات والكتب التي تتوفر بكل جامعة و التي يحتاجها الطلبة في جامعات أخرى.
- أن توجد ميزانية خاصة بنشر المجلات و الأبحاث في كل كلية بكل جامعة.
- أن تنظم مسابقات الدخول إلى الماجستير قبل الدخول الجامعي في كل سنة ، و تحديدا في شهر جويلية أو قبل العطلة الصيفية .
- أن تكلف اللجان العلمية في كل كلية برصد جائزة علمية سنوية لتمنح لكل باحث نشر إنتاجا علميا أو كان ملتزما في التدريس أو كفؤا في مجال تخصصه.
إن هذه الاقتراحات ناقصة وغير وافية، وربما لن تعيد المصداقية لبرامج الدراسات العليا بالجامعات الجزائرية، ومع ذلكن فإنها تجسد الحد الأدنى المطلوب لإعادة الاعتبار لجامعاتنا في الجزائر، للتخلص من هذه النقائص وإعادة الاعتبار لمؤسسات التعليم العالي ببلدنا . والسؤال المطروح: ماذا ينقصنا لتدارك هذه الهفوات ؟. والجواب على ذلك أن هناك عدة فرضيات لهذا التباطؤ في تدارك هذه الهفوات، هناك من يرى أن المشكل يكمن في نقص التجهيزات و هناك من يقول إن العقبة الكبرى تكمن في عدم توفر الأموال اللازمة لذلك، و هناك من يعتقد أن المشكل ينبع من الترسانة القانونية وهيمنة الوصاية. لكن الفريضة الأكيدة ، لغاية إثبات العكس، هي أنه لا توجد إرادة لتجاوز هذه العقبات الهشة، و بدون إرادة، لن يكون النجاح حليف أي إنسان في أي عمل يقوم به .
(*) : دراسة منشورة بصحيفة الشروق اليومي ، العدد 1672 ، الصادر يوم 27 أفريل 2006.