تأملات في مسيرة أول نوفمبر 1954 بعد مرور 58 سنة على اندلاعها
بمناسبة مرور 58 سنة على اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، أرى لزاما علينا أن ننتهز فرصة توجيه الدعوة إلي من طرف مركز الدراسات الإستراتيجية و الأمنية لتسليط بعض الأضواء على ثورة التحرير الكبرى في منتصف الخمسينات من القرن العشرين. إنها بالفعل مناسبة رائعة لتسجيل بعض الملاحظات و إبراز الجوانب الخفية في مسيرة نضـــــــال الشعب الجزائري لاستعادة سيـــــــــــــــــادته الوطنية
و التحكم من جديد في ثروات أرضه الباطنية و وضع حد للنفوذ الأجنبي في أرضنا الطيبة.
إن هذه الكلمة ليست محاضرة كلاسيكية أو خطابا سياسيا لمنافسة الأحزاب التي يتباهى قادتها بانتصار الجزائر على أعدائها يوم كانوا صغارا عندما اندلعت ثورة أول نوفمبر 1954، لا يتمتعون بما فيه الكفاية من الوطنية و الرزانة في العقل و النضج الفكري و المهارات القيادية التي يتطلبها الكفاح الشامل ضد عدو، يملك الطائرات و المخابرات و الجيوش المدربة في شمال حلف الأطلسي. دعنا نكون صرحاء و نعترف أن إمكانية التغلب على خصمنا الذي حكم بلدنا لمدة 132 سنة لم تكن مضمونة و محفوفة بالمخاطر، لكن إرادة شعبنا و قادته موجودة، و تدعمت خاصة بتوافق أبناء شعبنا على خوض معركة التحرير إلى أن تنال الجزائر حريتها و استقلالها و تتخلص من الوجود الأجنبي في هذه الأرض الطاهرة. إن ما يهمنا منهم في هذا الموضوع هو أن ثورة نوفمبر 1954 أنها لم تكن ثورة فرد أو حزب ذو الإيديولوجية رأس مالية آو اشتراكية، و إنما ثورة شعبية تعبر عن طموحات الكادحين من عمال و فلاحين و طلبة، ونقابات، يعانون من الظلم المسلط عليهم من طرف أقليات أوروبية مستوطنة، همها الأساسي نهب ثورات الجزائر و إخضاع مواطنيها إلى جميع أنواع التعذيب و الاضطهاد، و حرمانهم من حقوقهم السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.
و قبل الدخول في صميم الموضوع، أريد أن الفت الانتباه بأننا كباحثين جزائريين، نقوم بمهمات نبيلة في تكوين و تدريب شبابنا، لبناء نخبة معارضة لأية سياسة منتهجة، لان الباحث ليس له خصم، إلا الجهل و لا يتنافس أي شخص على السلطة، و لا يبحث عن كرسي. إن الباحث يعبر فقط عن آرائه التي تحتمل الخطاء و الصواب. و الباحث في جميع الحالات عنده فكر انتقادي (Critical Wihd) .
جيل نوفمبر 1954 يكسر حاجز الخوف
في البداية ينبغي أن نوضح بان الجزائر كانت محتلة و تخضع لفرنسا سياسيا و اقتصاديا، ووضعها يختلف عن وضع تونس و المغرب حيث كانت تحت الحماية الفرنسية. و لهذا كانت فرنسا متشددة مع أي تنظيم يحـــاول التمرد على فرنســـــــا، أو يقوم بأي عصيـــــان مدني. و خلافــــــا للأعـــــــــراف الدولية
و منظمات حقوق الإنسان، فان الوافدين الأوروبيين استباحوا الجزائر و كانت علاقتهم بأبناء البلد الأصليين علاقة سيد بعبده.
و في الحقيقة أن الجزائريين لجوا إلى استعمال جميع الحيل التي يخطر بذهن أي إنسان للحصول على حقوقهم السياسية و الاقتصادية داخل وطنهم، لكن الأوروبيين المتمركزين في الجزائر، كانوا يستنجدون بنوابهم في الجمعية الوطنية الفرنسية بباريس لإحباط أي محاولة لإنصاف الجزائريين في بلدهم. فقد أجهضوا محاولات حزب الشعب و زوروا الانتخابات عندما دخل مجـــالسهم الجزائرية و الفرنسية و ادخلوا قادته السجون التي كانت مقتضة بالوطنيين الشرفاء. و اعتدوا على حزب البيان الجزائري الذي كان يمثله النخبة المثقفة، ولم يقبلوا بدعوته للاندماج و معاملة الجزائريين كبقية الفرنسيين و كشفوا بذلك أن الاعتدال مرفوض و الحقوق السياسية لا تعطى لمن يطلبها و إنما تفتك بالقوة. و استعملت جمعية العلماء المسامين الجزائريين حيلة الابتعاد عن العنف و الاعتماد على التعليم و تكوين جيل يؤمن بالمحافظة على لغته و دينه و وطنيته في المستقبل، لكن غلاة الاستعمار، قاموا بإغلاق مدارسها و أوقفوا حملات التوعية و لم يتمكن الجزائريون من تعلم لغتهم الوطنية في مدارس الغزاة !.
نستخلص من ما تقدم، أن الأوروبيين انطلقوا من فكرة و هي أن الجزائر مفتوحة لأية قوة أجنبية. و تماشيا مع هذا المنطق أقامت الإدارة الفرنسية نظاما شبه عسكري بقصد التحكم في السكان الجزائريين و ليس بقصد تقديم الخدمات إليهم، مثلما هو الحال في فرنسا. و باختصار، كانت الأقليات الأوروبية في الجزائر تحرص على إقامة نظام تعسفي بحيث يمكنها من المحافظة على امتيازاتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية. و نتيجة لهذه السياسة القمعية، تولد الإحباط في نفوس الجزائريين ووحدهم للقيام بثورة شاملة للتخلص من الهيمنة الأوروبية التي طال أمدها.
إن كل متمعن في أحداث الجزائر منذ بداية الاحتلال إلى نهايته، أن الأوروبيين الوافدين إلى الجزائر قد انتهجوا سياسات ظالمة و مجحفة بحقوق أبناء البلد الأصليين، تمثلت خاصة في:
- فرض الخدمة العسكرية سنة 1912 بدون الحصول على الحقوق السياسية.
- استيلاء المعمرين الأوروبيين على الأموال و الأراضي التابعة للحبس.
- خلق عصابات في وجه الجمعيات الثقافية التي أنشئت بقصد المحافظة على الثقافة العربية الإسلامية بالجزائر، خاصة و انه لم يعد بالمدارس الحرة مصدر لتمويلها.
- إحلال قضاة السلام الفرنسيين محل القضاة المسلمين الذين يتبعون الشريعة الإسلامية.
- إجبار أبناء البلد الأصليين على تسجيل أراضيهم و إلقاء القبض، على الأفراد الذين احتجوا على هذا الإجراء.
- إقامة محاكم استثنائية لفرض عقوبات صارمة.
- فرض ضرائب تصاعدية على أبناء البلد الأصليين تعرف باسم ” الضرائب العربية”
- انعدام أي تمثيل سياسي عادل في المجالس البلدية و المقاطعات الإدارية.
- انتشار الأمية بين الجزائريين و بالتالي صعوبة حصولهم على مناصب عالية.
10. الأحجام على تضييع الجزائر حتى تبقى هذه الأخيرة تابعة للاقتصاد الفرنسي.
11. تضاؤل فرص العمل و تشبع القطاع الزراعي الذي لم يعد قادرا على استيعاب الطاقات
البشرية المتوفرة بكثرة.
12. عدم استفادة الجزائريين من القروض و الإعانات المالية المخصصة للتنمية الزراعية.
هذه بعض النماذج من الإجراءات التعسفية ضد المواطنين الجزائريين التي أجبرتهم على التلاحم و التضامن فيما بينهم و كسر حاجز الخوف و مساندة قرار القادة الوطنيين في الاتجاه إلى عمليات العنف و حمل السلاح و مواجهة الدولة الفرنسية و جيشها و مخابراتها المجندة كلها لقمع الجزائريين و الوقوف بجانب الغلاة الأوروبيين في ارض الجزائر.
خصائص الثورة الجزائرية
إذا أردنا إن نفهم حقيقة الثورة الجزائرية و استراتيجياتها، يتعين علينا أن القادة في عام 1954 تجنبوا الوقوع في خطأ فادح تسبب في انتكاس ثورات الجزائر منذ 1830 و هو اتخاذ قـــــــــرارات فردية أو قبلية أو على مستوى ناحية معينة لان فرنســـــــا كـــــــانت تلتف عليهم و تعزلهم و تتمكن من القضاء عليهم بمضي الوقت. كما أن ثورة نوفمبر 1954. بإبقاء الباب مفتوحا أمام جميع التيارات السياسية الجزائرية للانضمام إلى جبهة التحرير الوطني الجزائري و جيش التحرير الوطني الجزائري لان العمل الفردي أو الحزبي المنغلق لا يمكن أن يصمد أمام فرنســــا و الحلف الأطلسي. إن هذا التكتيك أو الإستراتيجية المدروسة، دوّخ فرنسا في أول نوفمبر 1954 و لم تعرف بالضبط من هو الذي يقود الحرب ضدها، و من هو الحزب الذي خطط لتحرير الجزائر، و بالتالي لم يكن في إمكانها تحديد أهدافها و القضاء على الجماعات المجندة عن بكرة أبيها لخدمة ثورة شعبها.
لقد حاولت فرنسا أن تلقي القبض على مصالي الحاج، و قادة في حزب الشعب، و اغتالت قادة مرموقين في الحركة الوطنية، لكن الثورة استمرت و لم تتعثر. ثم تخيلت أن الثورة حركتها قيادات عربية معادية لفرنسا، مثل جمال عبد الناصر، و قـــــــامت بمهــــــاجمة مصر سنة 1956 و احتلال بور سعيد، لكن اتضح لها لاحقا، أن الثورة الجزائرية مستمرة، و بالعكس توسع نطاقها و أصبحت مطروحة على المحافل الدولية في باندونغ و الجمعية العامة للأمم المتحدة. وعليه، فان مشكلة فرنسا تمثلت في الاختيار بين انتهاج سياسة مكلفة لشعبها و اقتصادها و إزهاق أرواح أبنـــــــــــاء شعبها أو الاعتراف بجبهة التحرير الوطنــــــي و حكومتهـــــا المؤقتة كسلطة شرعية و التفاوض معها بقصد إعادة السيادة للشعب الجزائري و التحكم في ثوراته الباطنية و إعطاء الفرصة لأبناء الجزائر لكي يعيشوا حياة حرة و في مساواة تامة مثل بقية شعوب العالم.
و بإيجاز فان ثورة أول نوفمبر 1954 كانت متميزة و عندها خاصيات تنفرد بهما يمكن الإشارة إلى بعضها في النقاط التالية:
- إنها ثورة جماهيرية ( غير فردية ) ذات هدف واحد هو استقلال الجزائر.
- إنها ثورة ذات عقيدة إسلامية لان الإسلام عامل مشترك و بفضل اللغة التي أتى بها- صرنا نتخاطب بلغة القرآن.
- إنها ثورة قامت على أساس قيادة جماعية و برنامج مشترك يتمثل في تحرير الوطن من الاحتلال الأجنبي.
- إنها ثورة قادتها عناصر وطنية تنتمي إلى الفلاحين و العمال، أي أنها ليست مستمدة من نخبة بورجوازية ذات أبعاد إيديولوجية خاصة بها.
- إنها ثورة ضد الاحتلال الأجنبي، و ليست ثورة الحكم البورجوازي المتسلط.
- إنها ثورة جاءت لتعيد الاعتبار لكل الفئات الاجتماعية.
- إنها ثورة للتخلص من التبعية الأجنبية في الميادين السياسية و الاقتصادية.
- إنها ثورة قامت على وجود سلطة مركزية صارمة ( النظام قرر…. و علينا بالتنفيذ).
- إنها ثورة ضد التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية لكل بلد.
10.إنها ثورة تهدف إلى إقامة علاقات اجتماعية جديدة في المجتمع الجزائري.
الحسابات الخاطئة في استراتيجيات الأوروبيين
بعد 24 سنة من الاحتلال الفرنسي للجزائر، قام الأوروبيون المتواجدون بالجزائر بإعداد إستراتيجية مضادة للثورة الجزائرية في سنة 1954. فقد خططوا و التجئوا إلى أساليبهم القديمة التي نجحت في إخماد الثورات السابقة و معاقبة القادة الجدد لثورة التحرير. و من جملة التصورات التي كانت تجول بأذهانهم نخص العناصر التالية :
- أن إيديولوجية الثورة مستوحاة من الخارج، أي أن جمال عبد الناصر و قادة العالم العربي هم الذين حرضوا قادة الجبهة على القيام بالثورة و طرد فرنسا من شمال إفريقيا.
- أن إستراتيجية الثورة مبنية على حرب الاستنزاف و طالوا مد الحرب حتى تنهك قوة فرنسا اقتصاديا و تقبل في النهاية التفاوض مع جبهة التحرير و ترك الجزائر لانها غير قادرة على تحمل الخسائر المالية. و لهذا ينبغي ان تستعمل فرنسا كل قواتها و تهزم الثوار بسرعة.
- أن خطة جبهة التحرير الوطني الجزائري هي الاعتماد على السكان في الريف و جلبهم إلى صفها و تجنيدهم لخدمة قضيتها. و لذلك ينبغي أن تنزل فرنسا اشد العقوبات بالأفراد الذين يتعاونون مع الجبهة و ينشرون إيديولوجيتها في صفوف السكان، و بالتخلص منهم تفقد الثورة تلك العناصر القيادية التي تقوم بعمليتي التوجيه الإيديولوجي و الحربي في آن واحد.
- أن الحيلة التي تستعملها الجبهة هي الدخول في مفاوضات من اجل السلام، لكن الثورة في الواقع لا تهتم بالمفاوضات ووضع حد للحرب، وإنما الشيء الذي يهمها بالدرجة الأولى هو الاعتراف بالجبهة كقوة سياسية و ذلك لكي يحصل الثوار على مكاسب سياسية و يستولوا على السلطة في النهاية.
- أن الجبهة تحصل على مساعدات من الخارج لتمويل الحرب التحريرية، و لذلك لا بد من فرض رقابة قوية على الحدود و منع المساعدات من التسرب إلى داخل الجزائر. إن الاحتكاك الموجود بين سكــــــــتان الريف و قـــــــــــادة الجبهة هو الذي يتسبب في انتشـــــار الثورة و تمويل الثوار و تزويدهم بأخبار تحركات القوات الفرنسية. لهذا ينبغي نقل السكان من ديارهم و جمعهم في محتشدات تكون مراقبة و محمية من طرف الجيش الفرنسي، و بذلك يمكن حماية السكان من دعاية الجبهة و تهديد رجالها لهم بالقتل، إن هم امتنعوا عن تقديم المساعدة لها.
- أن المسؤولين في الجبهة يستعملون أسلوب غسل المخ و تضليل الناس، و لذلك يتعين على السلطات الفرنسية أن تستميل القادة الذين يقعون في قبضة الأمن و الجيش الفرنسي و تعيد توجيههم و التأثير فيهم.
- أن الثوار غالطوا العالم عندما قاموا بالثورة و أعلنوا الانسلاخ عن فرنسا و لهذا يتعين على فرنسا أن تنتهج سياسة جديدة خلاصتها حماية الجزائر التابعة لها و إنقاذها من السقوط في مخططات الوحدة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج.
- أن الجيش الفرنسي هو رمز قوة هذه الدولة العظمى، وعليه، فلا بد أن يكسب هذه المعركة بالجزائر و يستعيد مكانته المحترمة في المجتمع الفرنسي.
- إذا كان هناك تخوف من الثمن الباهظ للحرب التي تخوضها فرنسا، و بالتالي الالتجاء إلى التفـــــــاوض مع الثوار، ينبغي على المستوطنين الأوروبيين بالجزائر أن يعتمدوا على أنفسهم و يقوموا بالمهام المسندة إليهم و الدفاع عن أنفسهم دون الاعتماد على الجيش الفرنسي.
10.في حالة وجود أي زعيم فرنسي تسول له نفسه التفاوض مع الثوار، ينبغي القيام بانقلاب
عسكري و إقامة كيان مستقل لهم بالجزائر.
الاختيارات الصعبة للثورة الجزائرية
نحن الآن نعيش في القرن الواحد و العشرين و نحتفل بمرور 50 سنة على استقلال الجزائر، و لاكن ينبغي أن نتذكر بان وصول بـــــــــــاخرة الثورة إلى شاطئ الأمــــــــــان لم يكن سهلا و مأمون العواقب. إن الله وحده يعلم ما عاناه أهلنا و أبناء الجزائر خلال حرب الإبادة التي تعّرض إليها أبناء الأمة الجزائرية في الفترة الممتدة من 1954 – 1962. قد يضن من لم يعش فترة الحرب أو دخل حلبة الصراع بين خصم هائج يبحث عن إبادة عباد الله عن آخرهم إذا كانوا لا يقبلون بالخضوع لإرادته، و بين مواطنين بسطاء لا يملكون أي سلاح يدافعون به عن أنفسهم، و بالتالي يمكن اعتبارهم فريسة لقوات البطش و العدوان. إن القتل كان مباحا، و خبرات التعذيب و نزع الاعترافات كانوا ينتقمون من كل شخص لا يعترف بالجزائر المنسوبة إليه، بالإضافة إلى منظمة اليد الحمراء التي كانت تتصيد و تغتال كل القادة الذين تضعهم نصب أعينها.
و بدون إطالة، دعنا نقول أن ثورتنا واجهت صعوبات جمة يصعب حصرها لان ما تم التخطيط لع، ليس هو الذي يتم تجسيده بعد الدخول في ميدان العمل الثوري. فالانطلاقة كانت سهلة، لكن العمل الثوري تعرض لتطورات مفاجئة بعد سنتين من الكفاح، و خاصة بعد اعتقال عدة قادة و اكتشاف مخابئ أعضاء لجنة التنسيق و التنفيذ و تنقلهم إلى تونس و المغرب في سنة 1956، بالإضافة إلى إلقاء القبض على قادة الثورة في الخارج الذين كانوا متوجهين إلى تونس في طائرة مغربية كان مخطط لها أن تحط في إحدى المطارات الجزائرية قبل إقلاعها من المغرب الشقيق.
الشيء المهم أن التغيرات في مسار الثورة أجبرت قــــــادة ثورتنا على اتخـــــــــاذ قرارات صعبة و إنقاذ سفينة الثورة من الغرق، و الوصول إلى شاطئ الأمان بسلام. و بالرغم من صعوبة الأزمات ز المواقف الصعبة التي واجهتها ثورة نوفمبر 1954، فانه يمكننا انتقاء الحالات التالية تبدو لنا من أهم الصعوبات التي واجهتها ثورة التحرير في فترات معينة من مسيرتها:
- الاختيار الصعب الذي واجهته القيادة هو توحيد خطة العمل و الدخول في معركة حاسمة ضد المصاليين الذين كانوا يتشبثون بإسناد القيادة إلى زعيمهم المعزول و المسجون في فرنسا. و بفضل لباقة و مهارة قادة الثورة، تمكنت جبهة التحرير الوطني الجزائري من القضاء على المنشقين المصاليين في الداخل أو الخارج، و سارت الثورة في الطريق الصحيح بعد تفوقها على خصومها العنيدين.
- المشكل الثاني الذي برز على السطح في 1956 هو تنقل القادة الذين خططوا للثورة إلى الخارج، و استلام القيادة من طرف زعماء جدد ميدانيين عندهم تصور آخر لكيفية خوض المعركة و جمع الشمل. و قد تزعم هذه الحركة الشهيد عبــان رمضان الذي يرجع إليه الفضل و جماعته المحيطة به، في الاتصال بجميع الفصائل و الأحزاب و تمكينها من الانصهار في جبهة التحرير الوطني الجزائري و المشـــــــــاركة بصفة فعــــــــالة في خوض معركة التحرير. و في الحقيقة إن المشكل لم يكن يكمن إستراتيجية انضمام جميع الأحزاب إلى جبهة التحرير، و لكن التخوف كان من تكوين زعيم جديد يستأثر بالسلطة و ينفرد باتخاذ القرارات، و هو الشيء الذي حاربه القادة الأوائل و دخلوا في عداوة مع زعيم الحزب بسبب إصراره على قيادة الثورة و منحه سلطات مطلقة.
- الصعوبة الثالثة التي واجهتها الثورة كانت في الواقع نابعة، من مؤتمر الصومام الذي كانت فكرة انعقاده موجودة منذ البداية لمراجعة إستراتيجية الثورة، لكن ظروف انعقاده لم تكن تسمح لمعظم قادة الثورة المشاركة فيه و اتخاذ القرارات التي تحضي بموافقتهم، و بالتالي، فان قرارات هذا المؤتمر الهام خلقت انشقاقا في صفوف قادة الثورة الجزائرية. و قد خفت وطأة هذا المشكل و اجتازت الثورة هذه العقبة بفضل اختفاء قادة الثورة في الخارج في الطائرة المحولة من المغرب إلى الجزائر حيث تقلصت معارضة بن بلة و رجاله لمؤتمر الصومـــــام و واصلت الثورة مسيرتها نحو النجاح بدون تعثر.
- التحدي الرابع الذي واجهته الثورة يكمن في تشكل قيادة موحدة لجيش التحرير سنة 1958 حيث كان يدور صراع كبير بين السيد عبد الحفيظ بوصوف المسؤول الأول على التسليــــح و مخابرات جيش التحرير، و بين زميله السيد كريم بلقاسم المسؤول عن القوات المسلحة لجيش التحرير، و في نهاية الأمر، اتفق قادة الثورة على تعيين العقيد هواري بومدين كرئيس لقيادة الأركان، و هو المنصب الذي بقي فيه إلى غاية الاستقلال في سنة 1962.
- المشكل الخامس الذي واجهته ثورة التحرير يتمثل في سعي قادة الثورة إلى استمالة الجيــران و التعامل مع قادة تونس و المغرب بحكمة و رزانة لان نجاح الثورة يتوقف على استعمال إعلامهم و عدم مطالبتهم بأراضي جزائرية إلى أن تستقل البلاد و تمرير السلاح من الحدود إلى داخل الجزائر. و بدون شك، فان قرار الملك محمد الخامس بعدم قبول اقتراح الجنرال ديغول بضم بشار و تندوف إلى المغرب مقابل تخلي المغرب عن تأييد الثورة الجزائرية، يستحق التقدير و التنويه به.
- الانقسامات الإيديولوجية كانت منتشرة بكثرة في الخمسينيات من القرن العشرين، لكن الله انعم علينا بميزة أنقذت الثورة من أية إيديولوجية أجنبية و لم يقبل قادة الثورة بالارتباط بأية جهة حزبية، و كانت قراراتهم مستمدة من مبدأ أن مصلحة الجزائر فوق أي اعتبار، و لم يقبلوا أن ينحازوا إلى أية جهة معينة، و كان انحيازهم دائما لثورة التحرير فقط.
- المشكل السابع الذي نجحت ثورة الجزائر في تخطيه يكمن في بروز صراعات بين قادة الجيش و قادة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية حيث كادت الحرب الأهلية أن تقع بين الحكومة و جيشها في سنة 1962، لكن وساطات الرجال المخلصين أنقذ البلد من أزمة عويصة يصعب تصور عواقبها.
- إن خروج الزعماء الخمسة من السجن في عام 1962 قد أجج الصراعات الحزبية و الركض وراء المناصب القيادية في الدولة الجزائرية، لكن الإرادة القوية لقادة الثورة و رغبتهم في التنازل عن مطالبهم و طموحاتهم الشخصية، أخمدت نار الأزمة و استقر الرأي على تكوين قيادة مدعومة من طرف جيش التحرير الوطني الجزائري.
و باختصار، فان ثورة الجزائر مرت بصعوبات و أزمات كادت أن تعصف بها، ولكن إرادة قادة الثورة و تصميمهم على بلوغ سفينة الثورة إلى بر الأمان تكللت بالنجاح، و هذا ما يهمنا أن يتحقق، لان الشعب الجزائري يستحق كل التقدير و الاحترام على بطولات أبنـــــــائه و قدرتهم الفائقة على نيل الاستقلال و استعادة السيادة الوطنية بالكفاح المسلح و التضحية بالغالي و النفيس من اجل هذا الوطن.