تدريس العلوم السياسية بجامعة الجزائر
بدأ تدريس العلوم السياسية في معهد مستقل في مطلع السنة الجامعية 1949، وذلك بهدف تكوين الباحثين والعناصر الإدارية الكفأة التي تحتاجها الإدارات الحكومية. وفي الحقيقة أن معهد الدراسات السياسية الذي تم إنشاؤه يوم 12/08/1949 في إطار المرسوم 283-452 الصادر بتاريخ 9 أكتوبر 1945 والذي جاء لسد الفراغ الموجود في الدراسات السياسية، يعتبر مكملا لكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية. فإذا كان دور معهد العلوم السياسية هو تخريج الطلبة المتخصصين في القانون والاقتصاد، فإن دور معهد العلوم السياسية هو تخريج العناصر التي يكون لها تكوين شامل في عدة اختصاصات تكمل بعضها البعض. وعليه، فإن الحاجة إلى تدريس العلوم السياسية بجامعة الجزائر قد جاءت نتيجة لرغبة الإدارات الحكومية في الاستعانة بالمتخرجين الذين عندهم إلمام شامل بمختلف الوظائف والمهام في الجهاز الحكومي التي تتطلب وجود متكونين أو متخصصين في العلوم الاقتصادية والقانونية والاجتماعية والتاريخية.
ونستخلص من ما تقدم أن مواد التدريس في معهد الدراسات السياسية “بجامعة الجزائر” في الفترة الممتدة من 1949 إلى غاية 1974، هي مواد متنوعة في النظريات السياسية والتنظيم، والعلاقات الدولية، والقانون الدولي، والاقتصاد الكلي والجزئي، وعلم الاجتماع السياسي. وخلال هذه الفترة كان المعهد يضع دبلوم في الدراسات السياسية بعد ثلاث سنوات من الدراسة والنجاح في جميع المواد المقررة بالمعهد. ونظرا لقلة الطلبة، فلم يكن هناك إشكال في توظيف المتخرجين من المعهد، خاصة أنهم كانوا يجمعون بين عدة اختصاصات تعتبر مناسبة للإدارات الحكومية.
إلا أن تغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بداية 1974 بسبب إقدام الجزائر على خوض معارك التصنيع والثورة الزراعية والثورة الثقافية تطلب تغيير محتوى مواد التدريس، وتعليم العلوم السياسية باللغة العربية مثلما هو الحال في معهد الحقوق ومعهد العلوم الاقتصادية. وابتداء من 31/1/1974 وبناء على المرسوم 46-74، والقرار الوزاري المؤرخ في 09/06/1975 تغير برنامج الدراسة والتخصصات العلمية بالمعهد، بالإضافة إلى نوع الشهادة التي يحصل عليها الطالب بعد تخرجه.
فالطالب أصبح مخير بين التخصص في العلاقات الدولية أو التنظيم السياسي والإداري وعليه أن يقضي أربع سنوات بالمعهد لكل يستكمل البرنامج ويحصل على شهادة الليسانس في العلوم السياسية (وليس الدبلوم). كما أن عدد الطلبة قد ارتفع من حوالي 200 طالب في عام 1975 إلى حوالي 800 طالب منذ ذلك التاريخ. كما ارتفع عدد المدرسين بالمعهد من حوالي 30 إلى 100 مدرس في يومنا هذا. وفي العادة تتراوح ساعات التدريس الأسبوعية بالنسبة للطلبة بين 28 و 32 ساعة في الأسبوع.
وإذا نحن قمنا بمقارنة بين ما يدرس في معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر، وبين ما يدرس في كليات أو أقسام العلوم السياسية بجامعات أخرى بالبلدان العربية فإننا نلاحظ بأن تدريس العلوم السياسية في جامعة الجزائر على مستوى معهد أو كلية، يعني أن هناك اتجاها واضحا للاهتمام بعلم السياسة وتخريج طلبة متخصصين في التنظيم وفي العلاقات الدولية. كما أن تدريس علم السياسة بالجزائر يقوم على أساس دراسة مواد محددة في برامج كل اختصاص، والطالب لا يستطيع أن يختار بين مواد سهلة أو مواد صعبة وإنما يدرس المواد المقررة عليه (باستثناء اختيار في مادة واحدة في السنة الثانية هي مدخل للعلاقات الدولية أو مدخل للعلوم الإدارية). أما في معظم اقسام العلوم السياسية بالجامعات العربية فإن متطلبات التخصص تبتدئ بمواد إجبارية من داخل القسم ومن خارجه وتنتهي بمواد اختيارية. أي أنه يحق للطالب أن يختار المواضيع التي يدرسها من قائمة مواد مقبولة من طرف القسم، كما يتميز تدريس العلوم السياسية في جامعة الجزائر عن بقية الجامعات العربية بوجود الجدع المشترك أو المواد المشتركة لجميع التخصصات بالمعهد وذلك في السنة الأولى والسنة الثانية من الدراسة، وهذا يعني أن الطلب يشرع في دراسة المواد المشتركة لعلم السياسة ثم يقرر في السنة الثالثة أن يختار التخصص الذي يروق له بينما نلاحظ أن الوضع يختلف بالنسبة لأقسام العلوم السياسية في الجامعات العربية حيث يتم قبول الطالب في القسم منذ بداية الدراسة، وعليه ان يختار مواد محددة من خارج القسم.
ونستخلص من هذه الحقائق عن تدريس العلوم السياسية بجامعة الجزائر وبقية الجامعات العربية أن تدريس العلوم السياسية في الجزائر (منذ 1949) والعراق (منذ 1987) يتم في إطار كليات أو معاهد، بينما يتم تدريس العلوم السياسية في بقية الجامعات العربية في أقسام للعلوم السياسية. كما نلاحظ أن تدريس العلوم السياسية بجامعات دول المغرب العربي مماثل لنظم تدريس العلوم السياسية في فرنسا حيث توجد مواد الجدع المشترك في السنة الأولى والثانية ثم التخصص في السنة الثالثة، في حين نجد جامعات المشرق العربي تنتهج نظاما مماثلا للنظام الأمريكي المتمثل في المواد الإلزامية والاختيارية التي يتعين على كل طالب أن يدرسها وينجح فيها. وفي بعض الجامعات العربية يتم تدريس العلوم السياسية في كليات القانون والاقتصاد (مثل تونس، المغرب وسوريا) وهذا يعني طغيان المواد القانونية والاقتصادية على العلوم السياسية.
أما إذا قمنا بإلقاء نظرة على تدريس العلوم السياسية بالجامعات الأوروبية والأمريكية ومقارنة أساليب تلك الجامعات في تدريس العلوم السياسية مقارنة بالأساليب المتبعة في الجامعات العربية فإننا نلاحظ أن علم السياسة يعتبر في الجامعات الأمريكية والأوروبية هو البوابة الرئيسية لعلم الاقتصاد والإدارة والقانون، وبالتالي، فإن تدريس العلوم السياسية لجميع الطلاب وفي جميع التخصصات تعتبر مسألة إلزامية تقتضيها مصلحة الدولة ومصلحة المواطنين. ولهذا السبب يوجد في كل جامعة قسم لتدريس العلوم السياسية، يساهم في توعية الطلبة وتعريفهم بالنظام السياسي، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، ونظام الحكم المحلي، وتوضيح القضايا الحيوية التي تشغل بال المواطنين والمسؤولين، وهذا الأسلوب يختلف، بطبيعة الحال عن الأسلوب المتبع في البلدان العربية حيث يقتصر تدريس العلوم السياسية على الطلبة المتخصصين في هذا العلوم، وفي جامعة واحدة فقط أو جامعتين على الأكثر (وهذه هي الحالة في دول المغرب العربي أو جامعات مصر والعراق). كما يلاحظ أن جامعات الدول الغربية تولي أهمية كبيرة لتدريس العلوم السياسية في كل الجامعات على أساس أن القطاعات الحيوية في الدولة تتأثر بالقرارات السياسية، وهذا يتطلب إلمام شامل بأهداف وغايات ومخططات النظام السياسية بحيث يستطيع قادة المجتمع، بعد التعرف على المحاور الرئيسية للسياسة العامة للدولة، أن يتصرفوا ويضعوا خططهم ومشاريعهم الاستثمارية بناء على التوجهات العامة للقيادة السياسية. أما جامعات الدول العربية فإنها تقوم بتدريس العلوم السياسية كاختصاص علمي يتمثل في التعريف بالسياسة وبالنظريات والمؤسسات بداخل كل دولة وخارجها.
العلاقات بين التخصصات والواقع السياسي:
إن تدريس علم السياسة بجامعة الجزائر يقتصر في الوقت الحاضر على تخصصين رئيسيين فقط هما: العلاقات الدولية والتنظيم السياسي والإداري، وطبعا، فإن الاكتفاء بهذين التخصصين اللذين تمنح فيهما شهادة جامعية لا يعني أن الطالب يدرس مواد هذين التخصصين فقط، بل يدرس مواد متعددة في علم السياسة تبتدئ بالمنهجية، وتنتهي بالفكر السياسي. لكن الشيء الملاحظ هو أن هذا الوضع ناتج عن ميول ورغبات أعضاء هيئة التدريس في الانتماء إلى قسمي العلاقات الدولية والتنظيم السياسي والإداري. وقد تعذر فتح اختصاصات أخرى بسبب النقص في الأساتذة المتخصصين والحاملين لشهادات علمية عليا، كما أن قلة مشاريع البحوث بالمعهد قد ساهمت في عدم وجود تخصصات علمية دقيقة في علم السياسة.
والمشكلة الرئيسية التي تواجه علم السياسة سواء في الجزائر او في كل الجامعات العربية والعالم الثالث هي أن هذا التخصص العلمي يعتبر غامضا بالنسبة لرجال الحكم لأن هناك خلط بين السياسيين المحترفين في نظام الحكم وبين الأساتذة المختصين في علم السياسة. وبكلمة أخرى، فإن مشكلة المتخصص في علم السياسة تتمثل في وجود حساسيات بين الممارسين لمهنة السياسة والمحللون او المنظرون لهذا العلم.
ثم إن علم السياسة تعترضه عقبة أخرى تتمثل في اعتبار المتخصص في علم السياسة يتعامل مع قضايا فيها أسرار الدولة وأمنها والانتماء إلى جماعات معينة، وبهذا المعنى فالسياسة بمفهومها العام تختلف عن بقية المهن الأخرى في الحقول العلمية مثل القانون والاقتصاد والإدارة والتجارة والمحاسبة في إدارة الأعمال. فهي تقوم في الواقع على أساس الثقة الشخصية وليس الكفاءة في المهنة، والتماثل في الفكر والإيديولوجية والانتماء وليس بالضرورة الذكاء والخبرة والموضوعية.
ونستخلص من ما تقدم أن الاعتبارات السياسية تطغي على التخصصات العلمية في مجال العلوم السياسية. ولهذا فإن التخصصات العلمية في حقل العلوم السياسية قليلة وغير متميزة، وماهو موجود في معاهد وأقسام العلوم السياسية في الجزائر وفي جامعات عربية أخرى هو في الحقيقة عبارة عن مواد تدرس في فروع علمية تقليدية في العلوم السياسية مثل: الفكر السياسي، النظم السياسية المقارنة، الأحزاب السياسية ، الفكر الغربي، الفكر الإسلامي، الفكر الاشتراكي، المنهجية.
وعليه، فإن التخصصات الموجودة بصفة تقليدية تعكس تطلعات ورغبات أفراد هيئة التدريس أكثر مما تعكس تخصصات أو فروع علم السياسة. ثم إن الشيء الذي ساعد على عدم وجود تخصصات بارزة في علم السياسة هو عدم وجود القطاعات أو المؤسسات التي تحدد احتياجاتها ونوعية التكوين الذي يناسبها، وهذا معناه أن أقسام العلوم السياسية تقوم بتدريس مواد نظرية للتعريف بعلم السياسة وليس خلق مهارات ووكوادر علمية متخصصة لتلبية احتياجات القطاعات المستخدمة لهذه الكوادر. وانطلاقا من هذه الحقائق يمكننا أن نستنتج بأن الواقع الأكاديمي لا يتماشى أو لا يتطابق مع الواقع السياسي. فالتدريس عبارة عن عملية تقليدية لتلقين الطلاب مبادئ ونظريات علم السياسة مع الإشارة إلى حالات معينة في حين أنه كان المفروض أن يكون هناك حصر للمواد التي يتعين تدريسها لتلبية احتياجات الإدارات الحكومية أو مؤسسات الأبحاث والدراسات الوطنية.
ثم إن مشكل العلوم السياسية نابع في الأساس من عدم مسايرة الأحداث الوطنية وعقد ندوات أو دورات تدريبية للمتخصصين بحيث يتعرفوا على آخر النظريات والمهارات المتوفرة عن الموضوع. وعليه، فإن عملية توظيف علم السياسة لتحليل القضايا وتوضيح الرؤيا المستقبلية وتحديد الأهداف غير مطبقة في أرض الواقع، وبالتالي، تقل المردودية ويصعب على السياسة أن تلعب الدور الإجتماعي الهادف والمتميز في أرض الواقع.
كما يجدر بنا هنا أن نطرح قضية أخرى وهي أن المناهج العلمية في معظمها مستمدة من مناهج التدريس الغربية، أي دراسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وكيفية أداء مهامها وإجراءات العمل بها. وإذا كانت هذه هي أوضاع الدول الغربية المتقدمة، فإن أوضاعنا في الدول النامية تختلف عنها، وأسلوب العمل السياسي في مؤسسات الدولة غير مطابق لأسلوب العمل في الدول الغربية، ولهذا فإن تقليد الدول الغربية في تدريس نفس المواد ونفس المضمون لا يعبر عن واقعنا ولا يجسم حقيقة ما يجري في بلادنا.
ثم إن البرامج تعتبر غير ملائمة للواقع السياسي والظروف التي تمر بها الدول النامية بصفة عامة حيث نلاحظ أن أغلب مواد التدريس جاءت لتغطي قضايا تقليدية أو أزمات سياسية مرت بها دول كبرى، في حين أنه كان من المفروض أن تكون مواد التدريس معبرة عن القضايا الحيوية التي يتفاعل معها المجتمع يوميا مثل قضايا حرية التعبير في أجهزة الإعلام، والديمقراطية في العمل، وحقوق الإنسان، ومشاركة المواطنين في الحوار واتخاذ القرارات في إطار جماعي.
وباختصار، فإن الأساتذة في الجامعات العربية يقومون بمهام التدريس بطريقة روتينية، وتنقصهم الفعالية في العمل لأن الجامعات والمواد التي تدرس بها لا تعبر عن شواغل وتطلعات المواطنين. والمشكل في رأي ينبع من حقيقة أساسية وهي أن رجال العلم في الدول النامية يجدون صعوبة في توظيف المعرفة الغزيرة التي تجمعت في أذهانهم في تخصصات معينة لأن هؤلاء العلماء الذين يعتزون بتخصصاتهم العلمية لا يملكون في معظم الحالات وسائل تجسيدها أو القدرة على اختبار أفكارهم في الحياة.
ونستطيع أن نقول في هذا المجال بأن جامعاتنا في الدول النامية بصفة عامة معزولة عن أهدافها الاجتماعية ولا تلعب الدور الإيجابي في تأهيل الشباب وتدريبهم للوظائف المهنية والعملية التي تتماشى واحتياجات البلاد. وكما لا يخفى على أي إنسان، فالأقسام العلمية في المعاهد والجامعات في العالم الثالث تضع برامجها في غرف مغلقة، والقطاعات المستخدمة للمتخرجين تأخذ ماهو موجود في سوق العمل من حاملين لشهادات علمية بشرط أن يكون المترشح للوظيفة حاملا لشهادة جامعية حتى لا يحرج المؤسسة من ناحية الراتب.
والعبرة التي يمكن استخلاصها من هذه الظواهر هي أن انكماش الجامعات على نفسها وإعطاء الأهمية لتدريس المواد النظرية وإهمال الجوانب التطبيقية لهذه النظريات، قد جعلت الجامعات تعيش على الهامش ويصعب على العلماء الذين يمارسون مهنة التدريس بها خلق التأثير الإيجابي والتوجيه السليم لسياسة البلدان النامية. وفي هذا الإطار يتعين علينا كأساتذة أن ندرك حقيقة أساسية وهي أن العلم الذي لا يتحول إلى منفعة عملية تؤثر في مناهج الحياة كل يوم لا يمكنه أن يتغلغل في بنيان المجتمع ولا يؤثر في القوى المتفاعلة فيه. كما يمكن أن تضاف إلى هذه المعضلة قضية أخرى، وهي أن الجامعات عاجزة عن عقد الندوات العلمية والتدريبية وتجديد معلومات الشباب سواء في المؤسسات التعليمية أو القطاعات التي تتعامل مع القضايا السياسية، ولذلك لم يعد في إمكان المتخصصين مسايرة الأحداث والتعرف على ماهو جديد والتحكم في مجرى الأمور بفعالية ومهارة عالية.
ماهي أحسن الطرق لتدريس العلوم السياسية؟
لعل أحسن ميزة متوفرة في مجال التدريس بجامعة الجزائر هي الحرية الأكاديمية في التعبير وتسمية كل مشكلة باسمها الحقيقي بدون لف أو دوران. وكل من يمارس مهنة التدريس يحس ويشعر بهذه الحقيقة التي لا تخفى على أي أستاذ أو طالب.
كما أن المسؤلين في الدولة يخصصون أموالا هائلة للتعليم لا تقل عن 35% من الميزانية العامة، وبذلك تمكن كل طالب من حصوله على منحة لمزاولة دراسته الجامعية. وارتفع عدد أعضاء هيئة التدريس الذين تم توظيفهم لتدريس المواد المقررة على هذا الجيش الكبير من الطلبة الذي يبلغ عددهم في الوقت الحاضر حوالي 210.000 طالب يزاولون دراستهم بستة جامعات فيها كل التخصصات وستة جامعات أخرى جهوية أو إقليمية. ففي معهد العلوم السياسية وحده يوجد ما لا يقل عن 100 مدرس لحوالي 800 طالب في الليسانس، و 150 طالب في الدراسات العليا.
وفي رأي الخاص أن الأسلوب الحالي لتدريس العلوم السياسية سواء في جامعة الجزائر أو الجامعات العربية التي توجد به كليات وأقسام لتدريس مواد العلوم السياسية، في حاجة إلى مراجعة جذرية. ولكي تستطيع مؤسسات التعليم العالي أن تلعب الدور الإيجابي في التنمية والاستجابة لاحتياجات ورغبات كل مواطن، ينبغي أن لا تبقى الحكومات أو الفئات البيروقراطية هي الوصية على التعليم والتحكم فيه، بل تسند هذه المهمة العلمية إلى الجامعات التي تكون هي السلطة المسؤولة عن تحديد المسار ووضع الاستراتيجيات العلمية إلى الجامعات التي تكون هي السلطة المسؤولة عن تحديد المسار ووضع الاستراتيجيات العلمية التي تخدم البلاد والصالح العام. وبتعبير آخر، ينبغي على المسؤولين في الجامعات ومناهج التدريس أن ينزلوا إلى أرض الواقع ويتحاوروا مع الجهات التي تستفيد من الكوادر المتخرجة وتقوم بتوظيفها والاعتماد عليها لتحقيق أهدافها.
إن مشكل وجود جامعات ومعاهد وأقسام للعلوم السياسية معزولة عن أهدافها في بنايات محصنة بخراسانة قوية في مدن كبرى، يجعلني أشعر بعدم جدوى التعليم في بلداننا العربية، والعلم الذي لا يخدم المجتمع ويحقق له النتائج الملموسة لا خير فيه.
وبالرغم من وجود عدة بدائل لتحسين مستوى تدريس العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية في الجزائر وفي بقية البلدان العربية، فإنني اقترح الطرق الآتية لرفع المستوى وتحسين طرق تدريس العلوم السياسية.
1. فروع التخصصات: يمكن تقسيمها إلى خمس مناطق متميزة يتخصص كل أستاذ في منطقة معينة بحيث يكون عنده إلمام شامل بجميع التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية التي تحدث في تلك المنطقة من العالم. وهذه التخصصات الفرعية في علم السياسة هي:
1) السياسة الوطنية
2) العالم العربي
أ- دول المغرب العربي
ب- دول الخليج العربي
ج- دول وادي النيل
د- دول أرض الشام
3) العالم الإسلامي
4) العالم الغربي
أ- دول أوروبا الغربية.
ب- دول أمريكيا الشمالية والجنوبية.
5) العالم الاشتراكي
أ- الصين.
ب- روسيا.
ويتميز هذا التقسيم بوجود تخصصات تكمل بعضها البعض بحيث يتخرج الطالب وعنده معلومات غزيرة عن بلده، وعن العالم العربي والعالم الإسلامي، بالإضافة إلى إلمامه بكل التطورات السياسية والفكرية التي تجرى في البلدان الغربية والبلدان الاشتراكية.
2. التحليل الرسمي وغير الرسمي للمؤسسات: بما أن علم السياسة يهتم كثيرا بالنظريات الوظيفية للمؤسسات فإنه يتعين علينا أن نركز على الجوانب الرسمية والقانونية للمؤسسات ولا نهمل التصرفات الفعلية للأفراد في داخل المؤسسات والإجراءات الحقيقية غير المنصوص عليها في القوانين والتي تؤثر بصفة ملموسة في مجرى الأمور. وعليه، فإن الأسلوب الحالي لتدريس العلوم السياسية والمتمثل في تحليل دور المؤسسات والقوانين التي تعتبر بمثابة قواعد لتسييرها، يعتبر أسلوبا تجريديا أو عقيما لأن الاهتمام بالشكليات ينسينا بجوهر الموضوع الذي هو الأداء الحقيقي للمؤسسات، وبعبارة أخرى، ينبغي إعطاء أهمية كبرى لما يجري حقيقة في مؤسساتنا وعدم الإكتفاء بتحليل الجوانب الشكلية للنصوص القانونية.
3. الواقعية في معالجة القضايا بدلا من الإكتفاء بوصفها: ونقصد بذلك التوجه إلى تحليل المسائل السياسية بأسلوب عملي يتمثل في تقديم الحلول الممكنة والابتعاد عن أسلوب الإفراط في الوصف والحديث عن المتافزيا في العلوم السياسية. ولعنا بهذا التبسيط في طرح القضايا واقتراح الحلول أو البدائل الممكنة، نستطيع أن نوضح الرؤيا ونخلق الفاعلية في أساليب العمل ونفسح المجال للأفراد لكي يستخلصوا الحقائق بسهولة ويتوصلوا إلى نتائج منطقية في وقت قصير من الزمن. وبعبارة أخرى، إن أسلوب التدريس التقليدي يغلب عليه طابع التخصص الدقيق واستعمال المصطلحات التي يفهمها رجال الاختصاص فقط، والإطناب في شرح النظريات التي قد تكون صالحة لمجتمع معين نابعة منه وغير صالحة لعشرات المجتمعات التي تختلف أوضاعها باختلاف القضايا التي تنبع من بيئة العمل. وعليه فإنه من الأحسن الابتعاد عن الأسلوب الوصفي والاعتماد على الأسلوب العملي الذي يساعد على استيعاب المشاكل والحلول الملائمة لها.
4. تبادل الخبرات والزيارات بين المؤسسات الجامعية: وهذا بقصد التعرف على الحقائق والإنجازات أو المشاكل، والاستفادة من الحقائق والتأليف المتوفرة في الجامعات الأخرى. إنني اعتقد أنه من الصعب على أية جامعة تستقطب الخبراء المرموقين في كل التخصصات ويستفيد طلابهما من علم وخبرة ومهارات جميع الأساتذة المرموقين في كل تخصص، لكن بالتعاون بين الجامعات وبين المختصين في كل فرع من فروع المعرفة يمكن تقديم النوعية والموضوعية العلمية لكل الطلبة، وبالتالي يمكن تنويع المصادر العلمية وإعطاء الفرص للطلبة لكي يتعلموا ويستقوا معلوماتهم من عدة مصادر، وبالتالي تكون معلوماتهم شاملة ومتنوعة.
5. الاعتماد على أسلوب التأليف المشترك وتنويع المراجع العلمية: لأن المشكل الذي تعاني منه جميع البرامج ومناهج التدريس هو النقص الملحوظ في المؤلفات العلمية التي تساعد الطلبة على استيعاب المواضيع المقررة عليهم وتمكنهم من أخذ نظرة هادفة على الحقائق العلمية في كل موضوع، كما يساعد هذا النوع من التأليف المشترك على التعريف بأعضاء هيئة التدريس في الجامعات العربية وبانتاجهم العلمي. ثم إن اشتراك عدة مؤلفين في تأليف كتاب واحد يعجل في إصدار الكتب ويساهم في بلوغ الأفكار العلمية إلى جميع الأفراد في جميع أنحاء الوطن العربي.
6. ضرورة إدراج برامج التدريب والدراسات الميدانية في برامج العلوم السياسية وذلك بهدف تدريب الطلاب على الإلمام بفنيات العمل والجمع بين المعرفة النظرية والمعرفة التطبيقية. إن برامج التدريب على فنيات التدريس، وكيفية استعمال الكومبيوتر، وطرق استعمال المناهج الإحصائية لتحليل المعلومات قد أصبحت الآن ضرورة من ضرورات الحياة اليومية في مجالي التدريس والبحوث العلمية. إن أي تباطؤ في إدخال التكنولوجيا الحديثة في مجال تدريس العلوم السياسية سوف ينعكس سلبيا على مسيرتنا لتحسين مستوى التعليم وتطويره نحو الأفضل.
7. حتمية تدعيم المجلات العلمية والإكثار من مراكز البحوث العلمية التي تبرز المعالم الرئيسية للفكر العربي، وتؤثر في الرأي العام وتوجيه العقل العربي. إن مشكلتنا الرئيسية في رأي تنبع من وجود طاقات وأفكار وعلماء مبدعين في الجامعات العربية لكن هذه الأفكار غير موظفة لخدمة قضايانا وتحقيق أهدافنا. والسبب في ذلك أن هؤلاء المفكرين لا يملكون الوسائل لتجسيد أفكارهم في أرض الواقع، وتبقى باستمرار عبارة عن أفكار مغمورة، أما إذا اقترن الفكر بالعمل، وتم إنشاء مؤسسات البحوث العلمية، فإنه بالإمكان دراسة الأزمات التي نواجهها والبحث في الحلول التي تخدم أهدافنا. إن أفكارنا التي نحملها في أذهاننا لن تكون لها قيمة حقيقية إلا إذا فتح لنا المجال لكي تختبرها في أرض الواقع ونتعرف على ردود الفعل لها ومدى صلاحيتها وملاءمتها لبيئتها العربية.
وباختصار، إن التدريس الهادف للعلوم السياسية سواء في جامعة الجزائر أو أية جامعة عربية أخرى هو الذي يأخذ بعين الاعتبار العوامل التي أشرت إليها آنفا، والنقطة التي أحرص على إبرازها هنا هي أن الواجب المهني يفرض علينا أن نهيئ الأرضية الصحيحة لتربية النشء وتهيئته للمستقبل بحيث نبتعد عن الشكليات والمجادلات والعقلية العشائرية أو التسلطية، ونعتمد على الأساليب العملية أو العقلية المتحررة للتعبير عن طموحات وأمال هذا الجيل الصاعد. وبصفتنا رجال الفكر وعلم، فإنه يتعين علينا أن نقيم مسار عملنا ونعيد النظر في برامج جامعاتنا، ونبحث عن أحسن الطرق للتأثير في شبابنا وفي مجتمعنا، وخلق المصداقية في مؤسساتنا، وينبغي أن نتوصل إلى نتيجة واضحة وضوح الشمس وهي أن الفكر هو الذي يقود مجتمعنا العربي وأن يكون هناك تطابق بين الذهنية العربية وما يقدم لها من فكر وممارسة.
* بحث تم تقديمه للمؤتمر الثالث للجمعية العربية للعلوم السياسية المنعقدة بالقاهرة من 1 إلى 3 فبراير 1989.