حتمية القيام بثورة إدارية في الجامعات الجزائرية
المسؤول الواعي هو الذي يلتزم برسم الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها وذلك في نطاق الإمكانيات المادية والبشرية المتوفرة لديه. فالواقعية شيء ضروري
ولا يمكن التغلب على المشاكل العويصة بالنظريات المجردة أو برصد نصف الطاقات البشرية لتحقيق المشاريع التي تحظى بالأولوية. ولكن ضرورة معرفة وتحديد الأهداف الأساسية لا يمكن أن تضمن النجاح في العمل إلا إذا اقترن ذلك بشيئين هامين وهما : الإرادة القوية وحسن التدبير.
وميزة الإرادة الفردية والجماعية هي أنها تعتبر بمثابة دافع قوي ينبع من داخل الأفراد لمجابهة الصعاب وبلوغ الأهداف المنشودة بأية صفة كانت. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن حسن التدبير الذي لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر. ومعنى هذا كله، أن المسؤول الذي ينجح في تدليل الصعاب هو ذلك القائد الذي يتميز بالإخلاص والتفاني في عمله إلى درجة أنه يضحى بوقته وماله وكل نفيس لديه وذلك بقصد التغلب على أي شيء يعترض طريقه المرسوم ويحول دون بلوغه الهدف المنشود. وبطبيعة الحال، أن عوامل النجاح في الحياة متعددة ومتداخلة، ولكننا نرى أن أهم صفات النجاح في أي مشروع تتلخص في وجود إرادة قوية وحسن التدبير والإخلاص في العمل.
قوة أي شعب مرتبطة بقوة التعليم
كل من يقرأ تاريخ الشعوب التي تعتبر في عصرنا هذا متقدمة سيهتدي إلى حقيقة أساسية وهي أن النهضة العلمية هي المحرك الأساسي للتقدم الذي أحرزته هذه الشعوب سواء في الميدان العسكري أو الميدان الإقتصادي. إن الفضل في تقدم الدول الصناعية يرجع، بدون شك، إلى الجامعات الألمانية واليابانية والسوفياتية والأمريكية التي ساهمت بطريقة مباشرة في اختراع الآلات الجديدة وتقييم المشاريع الصناعية التي كانت هذه البلدان في حاجة ماسة إليها.
فالإتحاد السوفياتي، مثلا، قد تقدم بفضل ” بيطر الكبير ” (1682-1725) الذي تأثر كثيرا بإنهزام جيشه القوي أمام الجيش السويدي المنظم. وقد دفعه ذلك إلى تخصيص جزء كبير من ميزانية دولته لإقتناء الفنيات الحديثة في العالم الغربي وتشجيع الشبان السوفيات على الإلتحاق بالجامعات الأجنبية والإستفادة من مزايا التقدم العلمي الذي أحرزته. كما أنه كان يسافر بنفسه إلى الجامعات الأجنبية ويتحادث مع المسؤولين فيها بشأن تكوين نخبة من العلماء السوفياتيين الذين تحتاجهم بلاده. وعندما أصبح الإتحاد السوفياتي دولة اشتراكية، ركز قادته مجهوداتهم، بصفة خاصة، على تقوية الدولة عن طريق تعميم التعليم وتربية النشء الجديد بطريقة تجعله ملتزما بالمبادئ ومتعلقا بالمذهب الإشتراكي الذي تبنته القيادة السوفياتية. ومثلما فعل ” بيطر الكبير ” في مطلع القرن الثامن عشر، اعتمد ستالين على العلماء في الجامعات السوفياتية لكي يمدوا البلاد بالخبراء والمهندسين الذين يمكنهم الدخول في سباق مع علماء الولايات المتحدة والغربيين بصفة عامة حتى يضمنوا للنظام الإشتراكي التفوق سواء في ميدان الإختراعات أو ميدان التنظيم المالي والإداري. وقد نجحت الجامعات السوفياتية في تثقيف النشء الجديد وتخرج العلماء الذين صنعوا الصواريخ والطائرات النفاثة ووضعوا بذلك حدا للتفوق الغربي وأصبح الإتحاد السوفياتي دولة اشتراكية قوية في الداخل والخارج وذلك بفضل استراتجية التعليم الرائعة.
ومأساة الجامعات بدول العالم الثالث بصفة عامة هي أن المفكرين والأساتذة بالجامعات لا يحصلون على التشجيع والحوافز التي تساعدهم على الإرتقاء بمهنتهم
ولا يتلقون الدعم الذي يمكنهم من تسخير مواهبهم وخبرتهم لخدمة الإنسانية بصفة عامة ومجتمعهم بصفة خاصة. والغلطة التي يقع فيها العديد من البيروقراطيين في جامعات دول العالم الثالث هي أن رجال التعليم يعتبرون بمثابة أي موظف عادي يطمح للحصول على وظيفة قارة وراتب مضمون، في حين أن الواقع هو خلاف ذلك. فالمعلم لا يقوم بالعمل الروتيني اليومي فقط ولكنه يهدف إلى إنتاج شيء جديد في ميدان اختصاصه وتثقيف الجيل الصاعد الذي يطمح للإستفادة من تجاربه وخبرته. ونحن هنا لا نتعرض بالتفصيل إلى هذه الظاهرة لأن المجال لا يسمح بذلك، ولكنه من المفيد أن نلفت النظر إلى أن الأستاذ الحقيقي هو ذلك الذي يجهد نفسه لكي ينتج كتابا أو بحثا يخلد به نفسه في هذا العالم، أو يمكن وصفه بأنه ذلك الشخص البارع الذي يساهم في إثراء مادة اختصاصه وذلك عن طريق تقديم نظريات جديدة أو أبحاث قيمة تخدم القضايا الإنسانية. والخلاصة التي نريد أن نتوصل إليها هي أن الأستاذ الحريص على أداء رسالته التعليمية لا يقتصر دوره على إلقاء الدروس والعودة إلى البيت في آخر النهار، لأن هذه الظاهرة تنطبق على الموظف العادي والأستاذ، ولكن هذا الأخير مجبور على إقتناء الكتب الجديدة والمجلات العلمية وذلك للإطلاع على آخر التطورات في مادة اختصاصه وإثراء معلوماته.
ولهذا، فإن دافع الهجرة إلى الدول المتقدمة ليس القصد منه هو الحصول على راتب مرتفع ولكنه يعتبر بمثابة احتجاج على قلة الإحترام لمهنة المفكر والمعلم وعدم توفر الظروف التي تساعده على نشر انتاجه ودراساته في ميدان اختصاصه.
وهناك أيضا حقيقة أساسية لا يمكن لأية دولة أن تتجاهلها وهي أن التقدم مرتبط بنوعية التعليم والشبان الذين تحصلوا على ثقافة معمقة واحتكوا بعلماء أكفاء أثاروا فيهم الرغبة القوية للتعمق في فهم الأشياء وإعطاء الأولوية للفكرة الأساسية وهي خدمة المصلحة العامة. إن الجامعة التي تعطي الشهادات لمتخرجيها ولا تقوى على إتاحة الفرص للطلاب لكي يستفيدوا من خبرة العلماء الأكفاء، لا تساهم في التنمية الوطنية.
إن منطق الأحداث يفرض على الدول النامية أن تدرك حقيقة أساسية وهي أن الجيل الحاضر لا يريد أن يبقى مستهلكا لما ينتجه الغربيون مقلدا لهم في إنتاجهم العلمي ومرددا ما قرأه لهم من نظريات تجريدية. فالجيل الصاعد يطمح لكي يقوي دولته عن طريق تدعيم مختلف القطاعات، وينتج لكي يتذوق طعم الإبداع ومسايرة روح العصر، ويثبت للأجيال اللاحقة أنه أدى رسالته ومهد الطريق لمن يريد أن يتوسع في تعميم الفائدة على المجتمعات الإنسانية.
جامعة بدون نواة من الأساتذة الوطنيين لا قيمة لها
إن أكبر عتاب يوجه إلى المسؤولين في جامعاتنا هو أن عقلية 1962 لا زالت هي المقياس الذي يعتمد عليه في تسيير جامعاتنا حتى يومنا هذا (1)، فالشيء الأساسي، حسبما يبدو، هو البحث عن الأساتذة من الخارج الذين يمكن الإستعانة بهم في تدريس بعض المواد المقررة في برامج الدراسة. وهذا طبعا شيء كان يفرضه منطق الأحداث غداة الإستقلال يوم كانت الجزائر فقيرة علميا وينقصها الأساتذة الأكفاء الذين يمكنهم تحمل المسؤولية الثقيلة في التعليم العالي. لكن في السبعينات من الصعب هضم هذه السياسة الغير المنطقية. إن التأني والفتور في حل مشاكل الأساتذة بالجامعات قد عرقل مسيرة التعليم الجامعي إلى درجة أن العديد من المفكرين يشعرون أن الجزائر تحرز على تقدم مطرد في كل ميدان ما عدا ميدان التعليم الجامعي. هل فكر المسؤولون في جامعاتنا، مثلا، في ترقية الأساتذة الوطنيين وتشجيعهم على تحمل مسؤوليات التدريس والبحث العلمي ؟ هل من الضروري إحضار أساتذة أجانب لتقييم إنتاج الأساتذة الجزائريين ؟ هل تنقص الأساتذة بجامعاتنا الكفاءة أم الثقة في تقييمهم ؟.
إن العقبات التي تثيرها البيروقراطية في وجه الأساتذة، سواء كانوا من أبناء الوطن أو من الأساتذة الزائرين، قد قللت من إنتاج المعلمين وقضت على جميع المبادرات في مهنة التدريس بالجامعات. وقلة الإكتراث بالإنتاج وسد الفراغ في ميدان التدريس معناه أن الأساتذة الوطنيين قد اتجهوا إلى ميادين أخرى لا صلة لها بالتدريس حيث وضعوا خبرتهم تحت تصرف الإدارات والشركات التي تستعين بهم في المسائل التي تخصهم. وهكذا تذهب خدمات الأساتذة في الجامعة إلى قطاعات أخرى وتبدل مجهوداتهم للنهوض بمؤسسات غير مؤسستهم الأصلية وهي الجامعة.
وكم يندهش المرء عندما يلتقي بالأساتذة الذين التزموا بالعمل في إطار الجامعة والتدريس وألفوا بعض الكتب، ولكن إدارة الجامعة تجاهلت ما انتجوه ولم توجه إليهم حتى رسالة مجاملة وتقدير لإنتاجهم. وظاهرة التجاهل لمن يؤدي واجبه العلمي تعني أن مؤسسات التعليم الجامعي ببلادنا لا يهمها أن تنتعش جامعاتنا وتساير النهضة العلمية ولكن يهمها فقط البحث عن من يلقى المحاضرات وإبقاء المعاهد مفتوحة للطلبة الذين يرغبون في الإنخراط بها. وعندما نقول أن هذا الوضع شاذ بالنسبة للجامعات العلمية، فلأننا نعرف أن جميع الجامعات في العالم تجازي أساتذتها بترقيتهم ورفع مرتباتهم بمجرد أن تحظى أبحاثهم بالنشر في مؤسسات النشر.
والحقيقة التي ينبغي أن لا تخفى عن المسؤولين في الجامعات أن كل بلد يعمل بنية صادقة لإحراز أي تقدم سياسي أو إقتصادي أو علمي، لابد له أن يعمل على خلق نواة من الأساتذة الوطنيين الذين يعملون على تدعيم الجامعات والمساهمة في خدمة القضايا العلمية والثقافية. إن الإستعانة بالأساتذة الزائرين أصبحت شيئا مألوفا في العالم ولا تقبل أية جامعة محترمة أن يبقى أساتذتها في عزلة تامة، ولكنه من الغلط أن يتبع أي بلد سياسة الإعتماد على الأساتذة الزائرين لإحداث نهضة علمية بالبلاد.
إن المنطق السليم يفرض على جامعاتنا أن تعطى قيمة للعلماء الجزائريين وأن تقوم بتشجيعهم على الإنتاج والتفرغ للتدريس والقيام بالأبحاث. فالطلبة الذين
لا يحصلون على معلومات غنية بالحقائق ولا يتعمقون في اختصاصاتهم بالجامعة
لا يمكنهم أن يساهموا بطريقة جدية في إحداث نهضة شاملة بالبلاد، لأن الموظف يسدى الخدمات لشعبه بنفس النوعية من التعليم الذي حصل عليه من الجامعة التي تخرج منها. فإذا هو نهل من منبع غزير بالعلم والمعرفة كان في إمكانه إثراء المصلحة التي يشتغل فيها بأفكار جديدة، وإن كان تعليمه ضحلا تكون مساهمته في خدمة مجتمعه بسيطة ولا تفي بالغرض.
التنظيم الإداري لا يتماشى وروح العصر
السؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا هو الآتي : من هو صاحب السلطة الحقيقية في أية جامعة ؟ والإجابة عليه بدون تردد، هو أن رئيس القسم هو الذي يتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه من طرف الجامعة بنسبة 90% على الأقل. فهو أدرى الناس بالقطاع الذي يزاول فيه نشاطه التعليمي، وهو الذي يستطيع أن يختار الأساتذة الأكفاء الذين يمكن الإعتماد عليهم لتدريس المواد المقررة، وهو بصفته متخصصا في مادته يدرك جيدا ما هي المواد التي ينبغي أن تدرس وما هي المواد التي لا تتماشى وروح العصر. وبكلمة مختصرة، أن رئيس القسم وزملاءه يتحملون مسؤولية تقوية مصلحتهم وتحقيق نهضة شاملة بمادة تخصصهم.
أما دور عميد الكلية أو مدير المعهد فهو التنسيق بين الأقسام التي تتبع ادارته ووظيفته الأساسية هي التأكد من حسن التسيير وتوفير الظروف التي تمكن الأساتذة من أداء واجباتهم العلمية بدون صعوبة أو عراقيل. كما أنه يتكفل بالدفاع عن المصالح التابعة للكلية أو المعهد وذلك في الإجتماعات التي تعقد على مستوى الجامعة وتخصص لدراسة الميزانية أو مناقشة مشاريع بناء مدرجات جديدة تحتاجها الأقسام التابعة له. ويقوم العميد أيضا ببعض الواجبات التقليدية وذلك مثل الإمضاء على الشهادات وتوزيع المنح على الطلبة المتفوقين وتقديم التهاني للأساتذة المنتجين وإعطاء موافقته على الترقيات في مختلف الأقسام وذلك بعد استشارة رؤساء الأقسام.
وبالنسبة لمدير الجامعة، فإنه يعتبر الشخصية الرسمية التي تعمل على تحسين وضعية الجامعة بصفة عامة وذلك من خلال اتصالاته بمختلف الشخصيات في القيادة وحضور الإجتماعات والحفلات الرسمية. إن مدير الجامعة هو همزة الوصل بين المعلمين وحكوماتهم وهو الذي يتدخل لحل المشاكل التي تهم قطاع التعليم الجامعي بصفة عامة.
ومن خلال هذا التقسيم للوظائف يمكننا فهم الصعوبات التي تعاني منها الجامعات الجزائرية. فالمفروض أن تعطى لكل جامعة ميزانيتها وعلى المسؤولين في ادارة كل جامعة أن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه الأساتذة سواء من ناحية توفير السكن أو دفع المرتبات في نهاية كل شهر. وللتأكد من تفرغ الأساتذة لمهام التدريس، ما دامت جميع المشاكل تسوى على مستوى دائرة العمل، فإن المسؤولين في الوزارة يقومون بدور المراقبة ويتعرفون على مدى تنفيذ المشاريع التي أقرتها الهيأة المكلفة بالتعليم العالي.
وهناك مشكل آخر يتمثل في انعدام خطة مضبوطة بالنسبة للمعيدين والأساتذة. فالمفروض أن يكون هناك المعيد الذي يساعد الأستاذ المحاضر في الأقسام الصغيرة ويجيب على أسئلة الطلبة الذين قد يستفسرون عن الجوانب الغامضة في المحاضرات ويستعينون بالمعيد لمعرفة المواد التي يدرسونها. كما ينبغي أن يكون هناك المعيد المساعد للأستاذ الذي يقوم بأبحاث متنوعة في اختصاصه. وبهذا الإحتكاك والعمل المشترك بين الأساتذة والمعيدين، سواء في ميدان التدريس أو الأبحاث، يتسنى للطلبة أن يستفيدوا من خبرة معلميهم ويتعمق مفهومهم لمواد اختصاصاتهم.
والشيء الذي يصعب فهمه هو السبب في عدم وجود ” دليل الجامعة ” حتى الآن. فمن حق الطالب أن يعرف في أول كل فصل دراسي من هم أساتذته وما هي المواد التي سيأخذها، وما هي الطرق المتبعة في الإمتحانات وكم تكون العلامة التي يحصل عليها من الأستاذ والعلامة التي يحصل عليها من الأعمال الموجهة. لقد جرت العادة أن تضع كل جامعة الدليل السنوي الذي يتضمن الإجابة على جميع الأسئلة التي قد يثيرها الطلبة في أية مرحلة أو فترة تاريخية خلال مزاولتهم للدراسة الجامعيـة.
برامج التعليم متداخلــة
إن المشكل الأساسي الذي تعاني منه الجامعات الجزائرية هو عدم وجود استراتيجية وطنية في ميدان التعليم العالي. فوزارة الداخلية تسير المدرسة الوطنية للإدارة، ووزارة الصناعة والطاقة تشرف على معاهدها التي أصبحت الألان تمنح شهادة الدكتوره ! ثم هناك مختلف الوزارات التي أسست مدارسها التقنية لتخريج الإطارات التي هي في حاجة إليها.
والأشياء التي يمكن استنتاجها من هذا التسابق كثيرة ولكن هناك حقيقة واضحة لا جدال فيها وهي أن برامج التعليم الجامعي تعاني من النقص والفعالية إلى درجة أن هذه الوزارات قد أصبحت تعتمد على نفسها لتكوين الإطارات التي هي في حاجة إليها. ومعنى هذا أن هذه المعاهد لا تخضع لأي مقياس علمي ولا يوجد من يراقبها ويوافق على برامجها التعليمية سوى الوزارة صاحبة الوصاية عليها، وهذه الأخيرة لا يعتبر التعليم من اختصاصها ولا تعتمد على أي مقياس محدد عند تسطير برامج التعليم بمدارسها.
والإنتقاد الكبير الذي يوجه إلى البرامج التعليمية في الجامعات الجزائرية هو أن التخصص يكاد يكون منعدما في بعض الأقسام التي تعتبر على جانب كبير من الأهمية. والسبب في طغيان مواد معينة على مواد أخرى هو أن الأفراد الذين يشرفون على وضع البرامج التعليمية لا يأخذون بعين الإعتبار الإختصاصات التي لا تمت إليهم بصلة. فالشيء الملاحظ بالنسبة لمعهد الحقوق والدراسات السياسية والعلوم الإدارية بجامعة الجزائر أو معهد الحقوق والعلوم الإدارية بجامعتي وهران وقسنطينة أن برنامج الدراسة عبارة عن خليط من المواد التي تشكل في مجموعها 75% من الدراسات القانونية والباقي مواد ثانوية في العلوم السياسية والعلوم الإدارية.
والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا الآن : هل الجزائر في حاجة ماسة إلى قانونيين يهتمون بشؤون القضاء والمنازعات الإدارية أم خبراء في التنظيم والتخطيط وخلق التوعية الإجتماعية بالبلاد ؟ لقد كان من المفروض أن يتفطن المشرفون على برامج التعليم في جامعاتنا إلى أن سياسة بلادنا الإشتراكية تقتضي إعطاء أهمية خاصة للتنظيم والتخطيط لأن الجامعات التي لا تحتوي برامجها على مناهج دقيقة ومركزة على فن تسيير المصانع وضبط برامج العمل في الحياة الإجتماعية لا يمكنها أن تساهم في الترقية الإجتماعية وخدمة القضايا الإنسانية.
إن النتيجة الحتمية لتخريج طلبة يتخصصون في القانون ثم يطلب منهم بعد تخرجهم أن يقوموا بأعمال التنظيم والتسيير والتوعية الإجتماعية، ستكون بمثابة محاولة لتعجيز المتخرجين، لأنه من غير المعقول أن ينجحوا في فن التسيير والتنظيمات المالية إذا كانت جل دراساتهم مركزة على المواد القانونية. ولعل هذا المشكل يظهر الآن بوضوح في بعض الأقطار العربية التي لا تستطيع إيجاد العمل للمتخرجين في القانون وذلك لكثرة العدد وقلة المناصب الشاغرة في هذا الميدان.
وقد كان من المفروض أن يدرك المسؤولون في جامعاتنا أن العلوم الإدارية والعلوم السياسية ترتبطان بالإقتصاد أكثر من ارتباطهما بالقانون، لأن هذا الأخير يختص بتكوين الإخصائيين في المحاماة ورجال القضاء، لكن العلوم الإدارية تختص بتكوين رجال الإدارة الذين تقع على عاتقهم مسؤوليات التنظيم والتخطيط والمراقبة المالية. وهذه الوظائف لها ارتباط وثيق بالإقتصاديين الذين يهتمون بقضايا الإنتاج وتوزيع الثروات وسد الحاجيات الوطنية أكثر مما هي قريبة من الأشياء التي يقوم بها رجال القانون. وهذه الحقيقة تفرض نفسها حيث أنه كان ينبغي على المسؤولين في جامعاتنا أن تكون العلوم الإدارية والسياسية منفصلة تماما عن الحقوق، ولكنهما مرتبطان بالإقتصاد وإدارة الأعمال.
وقد ظهرت عملية اللامبالاة في وضع برنامج السنة الأولى لقسم العلوم السياسية. فالأشخاص الذين سطروا برنامج الدراسة قد حرصوا على إدراج مختلف المواد القانونية والإجتماعية في برنامج طلبة العلوم السياسية ولكنهم أهملوا إدراج المادة الأساسية في المنهج وهي المدخل إلى علم السياسة ! فالمنطق يفرض أن يبدأ الطلبة بدراسة ومعرفة مادة اختصاصهم قبل أن يتوسعوا في هذا العلم ويدرسون مختلف المواد التي هي مسطرة بالبرامج.
وكم يأسف الإنسان للنقص الموجود ببرامج العلوم الإدارية والعلوم السياسية. إن الجزائر تسعى لكسب صداقة الدول الإفريقية المجاورة للعرب، لكن لا توجد بجامعاتها مواد مقررة على الطلبة الجزائريين تساعدهم على فهم الأوضاع السياسية والإقتصادية بهذه الدول التي تشاطر العرب في نضالهم من أجل التحرر الإقتصادي. كما أنه من المؤلم أن لا يكون هناك تركيز في جامعاتنا على فن التسيير في الإدارة وادارة الأعمال والتخطيط المالي. فبالإضافة إلى حاجتنا الماسة إلى الخبراء في التنظيم الإداري والمالي، كان بإمكان الجزائر تدريب الشبان الأفريقيين وإعانة بلدانهم على الإستفادة من التجربة الجزائرية في ميدان التنظيم. إن انضمام الدول الإفريقية إلى صف الدول العربية سواء في نطاق كتلة عدم الإنحياز أو منظمة الوحدة الإفريقية يقتضي منا أن لا نبقى متفرجين حين تصد الدول الغربية أبواب جامعاتها في وجوه الطلبة الأفارقة وذلك لأن حكوماتهم تسلك سياسة تضامن مع العالم العربي.
الطلبة بدون توجيه من الأساتــذة
إن الطالب في حاجة ماسة إلى من يعلمه ويوجهه في آن واحد. فمن غير المعقول أن يخرج الطالب بنتيجة ايجابية من قاعات المحاضرات لأن هذه الحالة تشبه وضعية الإستماع إلى الدروس الملقاة عن طريق التلفزة أو الإذاعة الوطنية حيث يلقي الأستاذ محاضرته بدون توقف وعلى المشاهد أو المستمع أن لا يفكر في الإستفسار عن أية نقطة غامضة ما دام غير ممكن مخاطبة الأجهزة الصوتية التي توجد أمامه.
وجوهر المشكل بالنسبة لتوجيه الطلبة هو أن عدد الأساتذة قليل ومن الصعب تلبية رغبات الطلبة الذين يتزايد عددهم باطراد. ولكن هذا لا يمنع من تخصيص ساعات معينة في الأسبوع لإستقبال الطلبة والتعرف على الصعوبات التي تعترض دراساتهم وتقديم الإرشادات والأجوبة المقنعة للمسائل التي يثيرونها. وبفضل هذه اللقاءات يستطيع الأساتذة أن يعرفوا ميول الطلبة ونوعية المواضيع التي يرغبون في التعمق بها، وآنذاك يتسنى للمعلمين تقديم خدمات قيمة للشبان الراغبين في القيام بأبحاث علمية.
وإذا كان من الضروري لطلبة الليسانس الإحتكاك بأساتذتهم واستشارتهم في الأشياء الغامضة فإن طلبة الدراسات العليا الذين يواصلون دراستهم بقصد نيل الماجستير أو الدكتورة لا يستطيعون أن يتطرقوا إلى أي بحث لا يحظى بموافقة أساتذتهم. وبقدر ما يظهر الطالب رغبته في تغطية فصول أبحاثه بكيفية دقيقة إلا وتزداد حاجته إلى المشرف على البحث. ومعنى هذا أن مصير الطالب يتوقف على المجهود المشترك ولا يمكن إحراز أي تقدم ملموس بدون مساعدة متواصلة من الأستاذ المشرف.
وأعتقد أن السبب الرئيسي وراء إخفاق جامعة الجزائر في تخريج دفعة كبيرة من الأساتذة الجامعيين الجزائريين منذ الإستقلال إلى يومنا هذا، يرجع إلى عدم ترابط متين بين مجهودات الطلبة وأساتذتهم بالمعاهد والكليات. فالأساتذة الذين كان من المفروض أن يقوموا بالتدريس وتكوين الإطارات الجامعية قد اكتفوا بإلقاء المحاضرات وبقيت الوظيفة الثانية مهملة وبذلك تحولت الجامعة إلى شبه مدرسة عليا تقتصر مهمتها على تخريج طلبة الليسانس وكفى. وكم كان بالجامعة من أساتذة زائرين ممتازين وانتهت مدة تعاقدهم وعادوا إلى بلادهم بدون أن تتاح لهم فرصة تكوين إطارات جامعية مؤهلة لسد الفراغ الموجود في مختلف الأقسـام.
هل يمكن تكوين طبقة مثقفة واعية بدون انسجام وتجاوب بين الطلبة والأساتذة بجامعاتنا ؟ هذا سؤال نطرحه على أنفسنا من الآن لأن مصير الجيل الصاعد يتوقف على الانسجام في العمل بين الطلبة والأساتـذة.
الأبحاث والندوات لا تلقى أي تشجيـع
هناك عدة ظواهر تقلق الطلبة والأساتذة في كل جامعة، لكن ظاهرة فقدان المادة الرئيسية وهي الكتب، التي تخلق في نفس كل متعلق بالميدان الأكاديمي شيئا من الإنقباض والكبت. فانعدام المادة الخام لتغذية العقل يحتم على الأساتذة والطلبة أن تتجه أنظارهم إلى الخارج لمعرفة ماذا يجري في النواحي العلمية التي تتعلق باختصاصاتهم.
ولا بأس أن نشير هنا إلى أن مكتبات الجامعات تعاني من نفس المشكل والكتب التي تصل إليها تكون في معظمها هدايا من بعض الجهات. ولهذا، فإن صعوبة اقتناء الكتب من الخارج ظاهرة يعاني منها العام والخاص. ولو كان باستطاعة المكتبات أن تحصل على أغلب الكتب الصادرة بالخارج وخاصة تلك الكتب التي يكثر عليها الطلب، لكان في الإمكان أن تخف أزمة العثور على المصادر العلمية وتحل محلها أزمة العثور على المقاعد في قاعات المطالعة.
وكان من المفروض أن تتدارك الأقسام هذا النقص في الكتب وذلك عن طريق إجراء الأبحاث خلال العطل الصيفية ومنح فترات معينة للتفرغ حتى يتسنى للأساتذة أن يكرسوا مجهوداتهم لتأليف الكتب الدراسية وسد الفراغ الموجود في مواد اختصاصاتهم. والطريقة المتبعة في كل جامعة هي أنه توجد نسبة محددة من الأساتذة الذين يتفرغون كل سنة. ثم هناك نسبة مماثلة من الذين يعودون إلى مواصلة التدريس بعد أن تكون فترة تفرغهم للأبحاث قد انتهت.
والشيء الذي يلفت الانتباه في جامعاتنا هو أن الأقسام بجميع المعاهد الجامعية، ومثلها المكتبات والإدارات، تغلق أبوابها في فصل الصيف وكل شيء يتوف ويجمد. ومعنى هذا أنه يتحتم على كل من يشتغل بحقل التعليم أن يقضي عطلة إجبارية بعيدا عن عمله تدوم ربع السنة. هذه ظاهرة غير صحية في جامعاتنا ونأمل أن تزول.
إننا نتسابق مع الزمن من أجل تحقيق نهضة ثقافية شاملة. والسؤال المطروح هو : لماذا لا نفتح المجال لكل طالب وكل أستاذ لكي يعمل في المزرعة لمن أراد أن يتطوع للثورة الزراعية، أو المساهمة في محو الأمية بالريف لمن يرغب في تعليم المحرومين من معرفة اللغة الوطنية ببلادنا، أو الحصول على منحة والتوجه لبلد غني بالعلم والمعرفة للتعمق في دراسة ظاهرة معينة والخروج بنتيجة قيمة ؟.
إن أكبر حلقة مفقودة في تاريخ الثقافة الجزائرية هي ذلك الترابط الذي ينبغي أن يكون بين المعلمين في الثانويات أو المدارس الإعدادية وبين الأساتذة في جامعاتنا. ففصل الصيف يعتبر، في الحقيقة، فرصة ثمينة للمدرسين لكي يشاركوا في الندوات ويتباحثوا مع المختصين في وسائل تحسين أسلوب التدريس وإثراء المعلومات القديمة بمعلومات جديدة. وإذا لم يتم تدارك هذه الهفوة وبقي المعلم في المدرسة محروما من فرص تجديد معلوماته ومسايرة ركب التقدم الحضاري فإن مستوى المتخرجين من الثانويات سينخفض وسيكون ذلك نكبة للتعليم ببلادنـا.
تعدد السلطات هو آلفة القرن العشريــن
ولو نحن حللنا أسباب الضعف في جامعاتنا لوجدنا أن المشكل الكبير يكمن في تعدد السلطات وكثرة الإمضاءات قبل أن يرى أي مشروع نور الإنجاز والبروز إلى حيز الوجود. فالمدير المسؤول لا يستطيع أن يتصرف بحرية لأن كل شيء يحتاجه يتوقف على موافقة العديد من المصالح الأخرى التي قد تفهم أهمية مطالبه وقد تتجاهلها إن هي شاءت ذلك. وسواء كان هناك تقدير لمطالب أية مصلحة أو عدم تقدير، فإن الشيء الأساسي هو أن العامل الزمني هو الذي يعمل ضد كل من يريد أن يعمل بسرعة ويقوم بالمبادرات الضرورية لإنجاز أعماله.
فبالنسبة للجانب المالي، دعنا نتساءل لماذا لا يكون هناك مدير مالي لكل جامعة وهو الذي يتكفل بصرف جميع مرتبات المعلمين ودفع العلاوات في مطلع كل شهر ؟ إن كل ما هو مطلوب من المدير المالي بالجامعة هو الحصول على إمضاءات من رؤساء الأقسام، وكل مسؤول يمضي بنفسه على صرف الأموال المخصصة لذلك القسم. فمثلا، إذا كان هناك أستاذ يريد أن يحضر مؤتمرا بالخارج، فما على رئيس القسم إلا أن يعطي موافقته على صرف مبلغ معين للأستاذ المدعو بالنسبة للسفر وذلك من الحساب الخاص بالمؤتمرات والذي قررته الوزارة بالنسبة لكل قسم. ومعنى هذا أن رئيس القسم يتحمل مسؤوليته تجاه جميع الأساتذة بقسمه. ومديرية الجامعة والوزارة تعفيان من مشقة إزعاجهما بمشاك المشاركين في المؤتمرات ويكفيهما أنهما خصصتا الأموال اللازمة لذلك.
ونبقى في الحديث عن الشؤون المالية لنشير إلى أن مشكل المراقبة المالية
لا يمكن أن يحل إلا عن طريق تنسيق العمل بين المدير المالي في كل جامعة ورئيس كل قسم. فبإمكان المدير المالي، مثلا، دفع مرتب أي أستاذ في نهاية الشهر وذلك بمجرد أن يصله قرار التسمية من أي رئيس قسم بالجامعة. وعندما تتم جميع الإجراءات الشكلية ويعود ملف الأستاذ من مدير الجامعة، يحصل مدير المالية على الأموال التي كان قد دفعها للأستاذ وذلك عن طريق تحويل النقود المخصصة لتغطية راتب الأستاذ إلى قسم السلفيات الذي كان يقترض منه لدفع الأجور في شكل تسبيق مالي. وجميع هذه العمليات البسيطة تتم في مديرية المالية، والأستاذ لا يعرف عنها شيئا لأن كل ما يعرفه هو أنه يقوم بالتدريس ويتلقى راتبه في نهاية كل شهر.
ولعل أهم مشكل تعاني منه مختلف الأقسام هو التسمية في المناصب بالجامعات الجزائرية. فالمفروض أن يقيم أساتذة كل قسم انتاج كل مترشح ويمنحونه الرتبة التي يستحقها وذلك وفقا للخبرة والمؤهلات العلمية التي يحملها كل أستاذ. لكن القياس الذي يعتمد عليه حاليا هو قانون الوظيف العمومي الذي وقع إعداده في ظروف انتقالية وأصبح لا يفي بالغرض في وقتنا الحالي. ولو فرضنا، جدلا، أن التسمية قد تمت على مستوى مدير المعهد فإنها تمر بمحطات عديدة، وفي كل محطة يستريح الملف بعض الوقت قبل أن يواصل سيره إلى مديرية الجامعة، ثم الوزارة، والوظيف العمومي. وفي الحقيقة، فإن كل هذه الشكليات لا تزيد عن كونها مجهودات ضائعة لأنه من السهل على مجلس كل قسم تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الضرورية ثم إرسال نسخ من التسمية إلى الوزارة والوظيف العمومي والمراقبة المالية، وعلى هذه الجهات التي تهتم بالبيانات الإحصائية وصحة المعلومات أن تبعث بالمفتش للتأكد من صحة ما ورد من معلومات في ملف الأستاذ المعني بالأمر.
وما قلناه عن المالية يمكن تطبيقه على مشكل السكن. فالمفروض أن توضع اللجنة المكلفة بالسكن مقاييس محددة لتوزيع السكن على المدرسين بحيث يراعي في ذلك رتبة الأستاذ والأقدمية في التدريس والوضعية العائلية. وبعد أن تنتهي اللجنة الوزارية من تحديد الظروف التي يتم فيها توزيع السكن، يتم توزيع الشقق على الأقسام، وعلى مجلس القسم أن يجتمع ويقرر من هو الأستاذ الذي تنطبق عليه المقاييس التي أعدتها اللجنة الوزارية المكلفة بالسكن.
لابد من ثورة إدارية شاملة في الجامعـات
لعله قد إتضح من النقاط التي أثرنا في هذا المقال بأن القصد هو لفت النظر إلى أن الوقت قد حان للقضاء على ظاهرة البيروقراطية في الجامعات الجزائرية وتنظيم المؤسسات العلمية على أساس متين يضمن للبلاد نهضة ثقافية وصناعية تتصفان بالفعالية وخدمة الإنسان. إن الواقع الذي نعيشه يوميا قد أثبت لنا، بما لا يدع مجالا للشك، بأن كثيرا من مجهودات المسؤولين بجامعاتنا تضيع في أشياء صغيرة وذلك نظرا للتعقيدات التي يلاقيها كل مسؤول عندمايحاول التغلب على الصعاب التي تعترض عمله.
والنقطة الأولى التي تستحق الاهتمام من طرف المشرفين على التعليم بجامعاتنا هي أنه لابد من تحديد المسؤوليات وتكليف الأساتذة الأكفاء بتحمل أعباء الجامعات، كل واحد في مهنته وفي اختصاصه. وهذا، بطبيعة الحال، يتطلب وضع ثقة كاملة في المربين والمعلمين للجيل الصاعد. كما أن وضع الثقة في العلماء يعني منحهم جميع التسهيلات التي تمكنهم من أداء واجباتهم ورفع مستوى مهنتهم.
وإذا كانت هناك بعض الأعمال والمهن التي يتغلب عليها طابع البيروقراطية والوساطة، فإن تسرب هذا الداء إلى الميدان العلمي يعتبر بمثابة كارثة إجتماعية. والتعليم لا يمكن أن تعم الفائدة والإستفادة منه إلا إذا كان هناك إلتزام باحترام شرف مهنة التدريس والرغبة القوية لإبراز المواهب الخلاقة. وإذا قدر الله وفتح المجال للقيود البيروقراطية أن تمتد إلى مهنة الإبتكار والإبداع، فإنه سيكون من الصعب على الجيل الصاعد أن يبحث عن الحقيقة أو يلتزم التحلي بروح الجدية والأخلاق الفاضلة.
إن الترميم لا ينفع والحل الوحيد هو القيام بثورة شاملة في التنظيم الجامعي بحيث توضع جانبا جميع الإجراءات التي تعرقل سير الجامعات وتحل محلهم الإجراءات الفعالة التي تعطي للتعليم الجامعي نفسا جديدا. وكل ما هو مطلوب من المسؤولين على جامعاتنا هو أن يكرسوا مجهوداتهم لتكوين جهاز وتنظيم إداري جامعي متماسك، وبذلك تتكامل عمليتا بناء الجامعات وخلق الإطار العملي الذي يمكن مؤسات التعليم العالي من أداء مهمتها على أحسن وجه في المستقبل.
ورغبة منا في تدعيم مكانة الجامعات الجزائرية، فقد قدمنا عدة ملاحظات حول بعض النقاط التي استرعت انتباهنا. ولا بأس أن نتقدم هنا باقتراحات أخرى، فلعلها تكون مفيدة لإخواننا المشرفين على التعليم العالي :
1. تعيين مدير مالي ومدير إداري في كل جامعة، وكل واحد منهما مسؤول عن تسيير قسمه وينبغي عليهما أن يحلا جميع المشاكل الإدارية والمالية التي تواجه الأساتذة والطلبة.
2. يراعى في إختيار رؤساء الأقسام والمعاهد فكرة تداول وتناوب بين الأساتذة الذين يحسنون اللغة العربية والأساتذة الذين يحسنون اللغات الأجنبية لأن مدة 12 سنة قد مضت الآن على جعل اللغة العربية إجبارية في المدارس الإبتدائية وجميع الطلبة يعرفون اللغة العربية، ولم تعد هناك حاجة لقسم معرب وقسم مفرنس وإنما قسم واحد فيه فصول بالعربية وفصول أخرى باللغات الأجنبية.
3. ينبغي أن لايبقى التعريب شعارا يقصد به معرفة اللغة الوطنية. فلكي يكون للتعليم بالعربية مستقبل، لا بد أن تعطى مسؤولية التعريب للأفراد الذين لهم تعلق وارتباط روحي بالثقافة العربية.
4. يجب الفصل بين المعاهد التي يتحصل فيها الطلبة على الشهادات المهنية
(مثل الطب والقانون) والمعاهد التي تمنح شهادات تعليمية (مثل الاقتصاد والعلوم السياسية وعلم الأحياء). إن النظام الموجود لا يفرق بين الحاصل على الدكتوراه في الاقتصاد أو السياسة والقانون، وهذه ظاهرة غريبة تنفرد بها الجامعات الجزائرية.
5. وضعية الأستاذ الجزائري ينبغي دراستها وذلك بمقارنة وضعيته مع وضعية أساتذة آخرين في العالم. ولو اعتمدنا على هذا المقياس لكان في إمكاننا التغلب على المشكل العويص الذي تعاني منه العديد من جامعات دول العالم الثالث وهو هجرة الأساتذة الأكفاء إلى جامعات أخرى توفر لهم أحسن الظروف للإنتاج والتدريس.
6. إتاحة الفرصة للأساتذة الجزائريين والأساتذة العرب في الشرق لكي يتبادلوا الزيارات في نطاق التدريس ويشتركوا في تأليف الكتب المدرسية.
7. منح ترقيات دورية للأساتذة المنتجين وتشجيعهم على العمل.
8. مضاعفة عدد ساعات التعليم الجامعي ومضاعفة الرواتب في آن واحد، وذلك مثلما وقع في هذه السنة بالنسبة للأساتذة الزائرين.
(*) دراسة منشورة بمجلة الثقافة (الجزائر) العدد 26، (أفريل – ماي) 1975، ص 53-68.
(1) هذه الفقرة تسببت في طرد الدكتور صالح خرفي، رئيس تحرير مجلة الثقافة التي نشرت فيها الدراسة، من إحدى اجتماعات المجلس الأعلى بي مقر الجزائر لأن رئيس الجامعة السيد رشيد التوري الذي لم يكن يتقن اللغة العربية، قد فهم من هذه الجملة، حسبما أبلغه بعض الناس، أن المقصود بعقلية 1962 هو عقلية الإستعمار الفرنسي البغيض.