دور القيادة الجماعية والشعب والزعيم في الثورة الجزائرية
“ألقوا بالثورة في الشارع فإن الشعب يتبناها”
العربي بن مهيدي أحد قادة الثورة
بقلم
الأستاذ عمار بوحوش**
منذ احتلال الجزائر في سنة 1830 إلى غاية استعادة سيادتها في سنة 1962، كان الشعب الجزائري يعيش في أزمات متتالية ولم يكن من السهل عليه مواجهة 3 قوى متواجدة فوق أراضيه الشاسعة. لقد كانت القوى الرئيسية متمثلة في الدولة الفرنسية وعاصمتها باريس. أما القوى الثانية فإنها تتمثل في الجيوش الفرنسية التي انهزمت في معركة واترلو ومعركة ديان بيانفو بالفتنام سنة 1954 ووضعت أوزارها في الجزائر لكي تحكم قبضتها الحديدية على الشعب الجزائري. وأما القوى الثالثة فهي المستوطنون الأروبيون الذين قدموا إلى الجزائر لبسط نفوذهم والاستيلاء على خيرات هذا الوطن.
إن الغاية من هذه المقدمة هو إثبات حقيقة جوهرية وهي أن الجزائريين كانوا بمفردهم يواجهون هذه القوات المتحالفة ضدهم ولم يكن في إمكانهم التغلب عليها وإخراجهم من وطنهم لمدة تجاوزت 132 سنة من الاحتلال للجزائر. وبكل واقعية، فإنه ليس في إمكان أي شعب أن يواجه الشعب الفرنسي، أو الجيوش الفرنسية أو المستوطنين الأروبيين وينتصر عليهم وخاصة أن فرنسا كانت مدعومة من الحلف الأطلسي الذي كانت فرنسا تستعين به للاستقواء واستعمال سلاحه الفتاك لفرض هيمنتها على الشعب الجزائري.
ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن فرنسا أصدرت مراسم بضم الجزائر إلى ممتلكاتها وأصبحت بذلك جزء لا يتجزأ منها، وأصدرت كذلك مرسوما يوم 24 أكتوبر 1870 والمعروف ” بمرسوم كريميو ” وهو الذي سمح فيها لليهود ولجميع الأروبيين بالحصول على الامتيازات التي يخولها القانون للرعايا الفرنسيين دون أن يتخلى هؤلاء عن عقيدتهم أو حقوقهم المدنية.[1]
وجاء هذا الدعم للأجانب لكي يتوحدوا ويفرضوا سلطتهم في الجزائر، بالإضافة إلى المرسوم الصادر يوم 22 جوان 834 الذي نص على اعتبار الجزائر جزاء من الممتلكات الفرنسية، والمرسوم الصادر يوم 4 مارس 848 الذي نص على أن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا، وكذلك المرسوم الصادر يوم 14 جويلية 1865 الذي نص على اعتبار الجزائريين رعايا فرنسيين.[2]
وباختصار شديد، فإن الانتفاضات الجزائرية والثورات الشعبية لإخراج القوات الفرنسية لم تكن مجدية، وتمكنت الجيوش الفرنسية والقوات الاستيطانية من إخماد أية مقاومة وطنية جزائرية، من الأمير عبد القادر إلى بوعمامة وغيرهما من قادة الانتفاضات الشعبية. وفي مرحلة معينة بين 1919 و1954 تغيرت الاستراتيجية وقام قادة الأحزاب الجزائرية بتنظيم أنفسهم في أحزاب سياسية ودخول مرحلة التنظيم السياسي، فلعلهم يتوصلون إلى نيل حقوقهم ومطالبهم السياسية عن طريق تسوية سلمية هادئة.
لقد دشن الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر، النشاط السياسي في الجزائر سنة 1919 حيث كان متحمسا للوطنية، وهذا التحمس نابع من شعوره بمسؤوليته كحفيد لرجل المقاومة الجزائرية. واشتمل برنامجه السياسي على نقاط أساسية يمكن تلخيصها فيما يلي:
- مساواة التمثيل النيابي في البرلمان الفرنسي بين الجزائريين والأروبيين القاطنين بالجزائر.
- إلغاء القوانين التعسفية والإجراءات الخاصة بالجزائريين في المحاكم.
- المساواة بين الجزائر والأروبيين في الخدمة العسكرية.
- تطبيق قانون تعمميم التعليم الإجباري واستفادة الجزائريين منه.
- احترام حرية الصحافة وعقد الاجتماعات.
- تطبيق قانون فصل الدين عن الدولة على الشريعة الإسلامية.[3]
وبالرغم من تقديم مطالب عديدة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية وإلى الرئيس الأمريكي ويلسون في سنة 1919، فإنه لم تتم الاستجابة لمطالبه السلمية والهادفة لمنح أبناء الشعب الجزائري حقوقهم السياسية والاقتصادية.
ونظرا لإقدام الفرنسيين وزعماء الاستعمار الاستيطاني على محاربة الجزائريين المتعلمين باللغة الفرنسية وعدم السماح لهم بالحصول على حقوقهم السياسية والتمثيل في المجالس المنتخبة فقد التجأ قادة الأحزاب الجزائرية إلى توحيد أنفسهم والتصدي لغلاة الاستعمار. إن العمل السياسي للقادة الجزائريين قد انطلق من فرنسا حيث يتواجد العمال الجزائريون هناك، وحرية العمل السياسي مضمونة، ولهذا فقد كانت بداية التنظيم على يد الحاج علي عبد القادر، أحد قادة الحزب الشيوعي في الفترة الممتدة من 1924 إلى غاية 1925. ونظرا لانشغال هذا الزعيم بتجارته، فقد تخلى عن القيادة للزعيم الوطني المرموق الحاج مصالي الحاج الذي تزعم النضال السياسي السلمي لغاية 1954. ويلاحظ هنا أن بداية النضال السياسي كانت في إطار حزب ” نجم شمال إفريقيا ” الذي تأسس يوم 15 جوان 1926 بباريس. وفي فترة وجيزة انضم إلى الحزب الجديد ما يزيد عن 8000 مناضل من جملة 48,000 مناضل في سنة 1926، وارتفع عددهم في سنة 1929 إلى 105,000 عامل متواجد بفرنسا. وقبل إلقاء القبض على مصالي الحاج وسجنه لعدة مرات متتالية، قال لمناضليه في الحزب: ” أن الجزائريين يريدون الاستقلال لوطنهم وليس الوصاية الشيوعية التي تضر أكثر من ما تنفع الجزائريين المسلمين “. وأضاف قائلا: ” لقد تركنا شيوعية الموت وتمسكنا بالوطنية التي هي رمز الحياة “.[4]
ما يهمنا في هذا الموضوع أن مصالي الحاج قد خرج من السجن وقام بتأسيس حزب الشعب الجزائري (P.P.A) يوم 11 مارس 1937 بباريس. إلا أنه بعد غيابه عن الحزب وقضاء عدة سنوات في السجون الفرنسية، عاد إلى الساحة السياسية وقرر مواصلة نضاله، وآنذاك اكتشف أن القيادة الجديدة للحزب متمردة عليه، وأن الراديكاليين أو المتشددين في الحزب بقيادة لمين دباغين، وهو طبيب مرموق، قد تمردوا عليه. وفي شهر فيفري 1947، وغداة تأسيس ” حزب انتصار الحريات الديمقراطية ” الجديد، ظهرت بوادر ابتعاد المناضلين عن قيادة الحزب بزعامة مصالي الحاج وتهافتهم على مناصرة لمين دباغين الذي تم انتخابه عضوا بالبرلمان الفرنسي سنة 1946. لقد كان هذا الطبيب المتألق يدعو إلى استعمال العنف والقوة لطرد غلاه الاستعمار الاستيطاني من الجزائر. وتعقدت الأمور في سنة 1947 وذلك حين انقسم الحزب إلى فئتين متناحرتين: مصالي الحاج يصر على انتهاج سياسة العمل الحزبي الشرعي والمشاركة في الانتخابات التشريعية وجناح لمين دباغين يحبذ العمل العسكري. في يوم 20 سبتمبر 1947، قررت السلطات الفرنسية إنشاء ” المجلس الجزائري “ والذي يضم 60 نائبا للمسلمين الجزائريين و60 نائبا للأروبيين، بالإضافة إلى إرسال 15 نائبا لتمثيل الجزائريين في البرلمان الفرنسي. وهنا جن المستوطنون الأروبيون لأن إرسال النواب المسلمين إلى الجمعية الوطنية الفرنسية والمساواة في التمثيل النيابي بالمجلس الجزائري يعني المساواة بين الجزائريين والأروبيين، وهذا غير مقبول بالنسبة للمستوطنين الأروبيين، لأن ذلك يحول الأروبيين من أقلية مفروضة بالقوة إلى أغلبية جزائرية متمتعة بحقوق منحتها لهم الديمقراطية.
وانطلاقا من هذه التشريعات الجديدة التي أقرتها السلطات الفرنسية، قرر الأروبيون الالتجاء إلى حيلة واضحة للعيان وهي القيام بتزوير الانتخاب واختيار الشخصيات العميلة لهم لتمثيل الجزائريين في المجالس المنتخبة. كما أن تعيين حاكم جديد يوم 11 فيفري 1948 قد قضى على أي أمل في حصول الأحزاب الجزائرية على أية مقاعد نيابة لتمثيلهم في أي مجلس نيابي، وخاصة بعد أن تم تعيين ” نايجلان ” في منصب الحاكم العام بأيعاز من المستوطنين الأروبيين في الجزائر الذين قاموا بالضغط على زعيمهم البارز في باريس ” روني مايير ” لكي يقوم الحاكم العام الجديد بالقضاء على المرشحين الانفصاليين المتطرفين من حزب انتصار الحريات الديمقراطية، حيث تم إلقاء القبض على 32 منهم والزج بهم في السجون وذلك من جملة 59 مرشح وفرضت عليهم غرامات مالية كبيرة تتجاوز 700,000 فرنك. وفي نهاية الأمر، نجح في تلك الانتخابات 55 نائب محلي من الأروبيين اليمينيين و4 مقاعد للاشتراكيين الأروبيين ومقعد واحد للشيوعيين.
أما بالنسبة للجزائريين المسلمين، فقد حصل المستقلون الذين رشحتهم الإدارة الفرنسية على 41 مقعد، ونال حزب انتصار الحريات الديمقراطية 9 مقاعد وحزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري 8 مقاعد، ومقعدان للمستقلين الاشتراكيين. وفي يوم 2 ديسمبر 1949، وفي اجتماع للجنة المركزية لحزب مصالي، تقرر طرد لمين دباغين من الحزب بدعوى أنه غير منضبط ولم يدفع المكافأة المالية التي يحصل عليها بصفته نائب عن الحزب في البرلمان الفرنسي.
المؤيدون للعمل العسكري في الحزب ينشؤون تنظيما موازيا
لقد نجح مصالي الحاج في المحافظة على وحدة الحزب لغاية 1947، لكن في فيفري 1947 وقع انقسام في حزب انتصار الحريات الديمقراطية حيث صار الحزب يسير بجناحين، جناح يتزعمه مصالي الحاج وجناح تتزعمه مجموعة يسارية شبه عسكرية يقودها محمد بلوزداد، متكونة من 8 زعماء، أطلقوا عليها اسم المنظمة الخاصة (organisation spéciale). للأسف فإن قائد المنظمة محمد بلوزداد توفي يوم 14 جانفي 1952، والمنشقون الثوريون عن الحزب تعرضوا إلى مكيدة وتم اكتشاف تنظيمهم من السلطات الفرنسية وتفكيك منظمتهم في مارس 1950. ومع ذلك، فقد واصل الثوريون مضايقة الزعيم القوي للحزب، وقرر أعضاء اللجنة المركزية لحزب انتصار الحريات الديمقراطية في شهر مارس 1950 رفض اقتراح من مصالي الحاج بتوسيع صلاحياته في اتخاذ القرارات وبقائه رئيسا للحزب مدى الحياة. وفي شهر ماي 1952 قررت السلطات الفرنسية نفي الزعيم الروحي للحزب إلى فرنسا وعزله هناك عن الجماهير الجزائرية، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد إلى الجزائر حتى قيام الثورة في أول نوفمبر 1954.
وباختصار، فإن الحزب قد استولى عليه جناح بن يوسف بن خدة بعد تعيينه أمينا عاما له، والثوريون فيه لم يتخلوا عن مهاجمة مصالي الحاج وقرروا رفض تعليماته الواردة إليهم من زعيم الحزب المنفي في فرنسا. وفي شهر مارس من عام 1954 استقالت اللجنة المركزية للحزب. وفي منتصف شهر جويلية 1954 عقد المصاليون مؤتمرهم الخاص بهم بمدينة هورنو البلجيكية وحضره 300 مندوب، وتقرر في ذلك المؤتمر حل اللجنة المركزية للحزب وأعلن رجال مصالي الحاج عن ثقتهم المطلقة في الزعيم مصالي الحاج والموافقة على تعيينه رئيسا مدى الحياة.
وفي الفترة الممتدة من 13 إلى 16 أوت 1954 عقد المركزيون والثوريون في الحزب بحي بلكور بالجزائر العاصمة، وقرروا خلع أو طرد مصالي الحاج من الحزب وتشكيل لجنة مركزية جديدة. وفي هذا الاجتماع قرر الثوريون في الحزب الاستعداد لشن الحرب على فرنسا. ولعل الشيء المثير في هذا الموضوع، أن أعضاء اللجنة المركزية للحزب، قد انقسموا إلى فئتين: فئة تنادي بمواصلة العمل في إطار الشرعية، وفئة أخرى تنادي بحمل السلاح وتحرير البلاد من الهيمنة الاستعمارية. وحتى اللحظة الأخيرة، حاول زعماء الحزب إقناع مصالي الحاج بالانضمام إلى الثوريين لتحرير الوطن، وطرحوا أسئلة على مصالي الحاج لتبديد شكوكهم في نية مصالي للقيام بثورة شاملة، فسأله الثوريون: ماذا تريد أن تفعل ؟ ما المقصود بتعبير الثورة في خطابكم ؟ بعد كم من الوقت سيقوم مصالي بثورته هذه ؟ وقد رد مصالي على الثوريين بقوله: ” عليكم بالثقة في مصالي وهو الذي سيتكفل بالباقي “!
وفي الحقيقة إن محمد بوضياف وديدوش مراد والعربي بن مهيدي ورابح بيطاط ومصطفى بن بولعيد كانوا قد أنشأوا يوم 23 مارس 1954 قيادة جماعية تحمل اسم ” اللجنة الثورية للوحدة والعمل “ وذلك بقصد شن العمل المسلح لأنهم يئسوا من المصاليين وترددهم في القيام بعمل مسلح. وتحقيقا للهدف المقدس وهو تحقيق الاستقلال عن طريق العمل المسلح، أنشأت اللجنة الثورية للوحدة والعمل صحيفة لنشر الفكر الثوري وإقناع المناضلين في الحزب أن مصالي لا يرغب في العمل للقيام بالثورة المسلحة.
وفي شهر جوان من عام 1954 اجتمع بضاحية صلامبي بالعاصمة الجزائرية (المرادية حاليا)، 22 عضو من الثوريين، وقرروا الشروع في العمل المسلح لتحرير البلاد، لكن البعض منهم تساءلوا إذا كان في الإمكان القيام بعمل عسكري في تلك الفترة، فقام سويداني بوجمعة بتوبيخ المترددين من رفاقه فقال وقد اغرورقت عيناه بالدموع: ” هل نحن ثوريون، نعم أم لا ؟ وإذا، فماذا ننتظر للقيام بهذه الثورة إن كنا صادقين مع أنفسنا ؟ ” وكانت كلمته هي التي فصلت في الموضوع.[5]
في يوم 20 جويلية 1954 اختفت اللجنة الثورية للوحدة والعمل وحلت محلها لجنة خماسية ثورية متكونة من (1) محمد بوضياف، (2) مصطفى بن بولعيد، (3) مراد ديدوش، (4) العربي بن مهيدي، و(5) رابح بيطاط، وفي الأيام الأخيرة من شهر أوت 1954 انضم (6) كريم بلقاسم إلى النخبة الثورية وجلب بذلك منقطة القبائل إلى المشاركة في ثورة نوفمبر 1954 ومساهمة تلك المنطقة في نجاح ثورة التحرير. وكان بوضياف قد التقى أحمد بن بلة يوم الانضمام إلى اللجنة الثورية، وأعلن عن انضمام (7) محمد خيضر، (8) حسين آيت أحمد و(9) أحمد بن بلة إلى اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وهؤلاء الثلاثة أصبحوا يشكلون هيئة الوفد الخارجي للثورة الجزائرية. وفي اجتماع بيرن بسويسرا، أكد بن بلة للزعيم محمد بوضياف، أن القيادة المصرية على استعداد لتزويد الثوار الجزائريين بالسلاح وبالدعم الإعلامي وجلب تأييد قادة عدم الانحياز للجزائر، أمثال نهرو وسوكارنو وجمال عبد الناصر.
وفي يوم الأحد 24 أكتوبر 1954 عقد القادة الستة اجتماعا لهم في ضاحية باب الواد بالعاصمة، وحددوا يوم أول نوفمبر 1954 لانطلاق العمل الثوري، ثم دخلوا إلى استوديو للتصوير وأخذت لهم صورة جماعية للذكرى، وافترقوا على أمل اللقاء في بداية 1955 إذا كان ممكنا. وقبل الافتراق اتفق قادة الثورة على ما يلي:
- تسمية المنظمة السياسية الجديدة بـ ” جبهة التحرير الوطني الجزائري “.
- تسمية المنظمة العسكرية بـ ” جيش التحرير الوطني الجزائري “.
- اللامركزية في العمل المسلح نظرا لاتساع الجزائر وصعوبة قيام جهاز مركزي بتسيير الثورة تسييرا فعالا، وخاصة في وقت صعبت فيه الاتصالات.
- ترك حرية العمل في البداية بكل منطقة حتى يحين موعد عقد مؤتمر وطني في المستقبل.
- إفساح المجال للأفراد والأحزاب والجمعيات للانضمام إلى الجبهة إذا كانوا متفقين مع أهدافها وتوجيهاتها.
- إعطاء الأولوية للداخل، لأن الوفد الخارجي يقتصر دوره على شراء السلاح والذخيرة والقيام بالمسائل الإعلامية.
- توزيع المسؤوليات في داخل الجزائر كالتالي:
المنطقة الأولى: بقيادة مصطفى بن بولعيد (ونائبه بشير شيهاني).
المنطقة الثانية: بقيادة مراد ديدوش (نائبه يوسف زيغود).
المنطقة الثالثة: بقيادة كريم بلقاسم (نائبه عمر أوعمران).
المنطقة الرابعة: بقيادة رابح بيطاط (نائبه بوجمعة سويداني).
المنطقة الخامسة: بقيادة العربي بن مهيدي (نائبه عبد الحفيظ بوصوف).
المنطقة السادسة: يتم تعيين قيادتها فيما بعد.[6]
الدعم الوطني لثورة التحرير الشاملة
الشيء البارز في ثورة أول نوفمبر 1954 أنها كانت شاملة، وأن فكرة القضاء على أية انتفاضة ثورية صارت عملية شبه مستحيلة، لأن الفرنسيين كانوا ينقضون على أي ثائر ويحاصرونه، وبالتالي يتم إخماد تمرده. أما في هذه المرة، في سنة 1954، فالقيادة جماعية والشعب كان متعطش وجاهز للانضمام إلى الثورة والمشاركة فيها بقصد إشباع غليله وتهميش الجزائري سواء كان متعلما باللغة الفرنسية أو العربية، وبالتالي فالمواطنون الجزائريون كانوا يعيشون في الهم سواء، ولا يوجد من لم يتم هضم حقوقه وحرمانه من حقوقه السياسية والاستيلاء على ثرواته وخيرات بلاده. وفي هذا السياق تأتي المقولة المشهورة للقائد العربي بن مهيدي الذي قال: ” ألقوا بالثورة في الشارع فإن الشعب يتبناها “[7] وفي نهاية الأمر، لقد انصهرت الأحزاب السياسية وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في جبهة التحرير الوطني بعد أن التحق الأفراد، وليس الأحزاب، بالثورة وقيادتها الجماعية. وبالفعل فقد ظهرت عبقرية قادة جبهة التحرير الوطني الجزائري في انضمام الأفراد إلى الجبهة بصفة فردية وليس بصفتهم ينتمون إلى أي حزب، فلو الثورة قامت على أساس حزبي، ربما قد تتحصل الثورة على جزء صغير من أبناء الشعب فقط وبالتالي تفقد شموليتها. لكن القيادة الجماعية تنبهت إلى فكرة أساسية وهي التخلي عن الحزبية والقيادات الفردية، وعليه، فالأفراد الذين قامت على كواهلهم ثورة التحرير، هم الطبقات الشعبية أي الطليعة التي قادت الثورة وآمنت بالقيادة الجماعية لثورة الشعب. وبإيجاز، إن نبذ الزعامات الفردية والالتفاف حول القيادة الجماعية، هي سر من أسرار نجاح الثورة الجزائرية في انطلاقة الثورة في بداية نوفمبر1954.
وربما يتعين علينا أن نشير هنا إلى أن اضطهاد فرنسا لجميع الأفراد بدون تفرقة بين مناضل وشعبي، قد عجلت بالتفاف جميع المواطنين حول الثورة ما دام الظلم مسلط عليهم سواء ثوريين أو غير ثوريين. فالمناضل يلتحق بالثورة إيمانا منه بأن ذلك واجب وطني، وأيضا خوفا من الاضطهاد الفرنسي، وبذلك يضع حدا لحالته البائسة وظروف الحياة المجحفة.
وإذا كانت الأحزاب تقوم على ايديولوجيات دينية، ماركسية أو رأسمالية، فإن جبهة التحرير كانت تنتهج سياسة محايدة، فلا هي ماركسية ولا هي رأسمالية، إنها ثورة شعبية لتحرير الشعب الجزائري من العبودية والاضطهاد المسلط عليه منذ 1830. إنها جبهة وطنية هدفها هو تغيير نظام سياسي قائم وهو الاستعمار الفرنسي لنظام سياسي جديد هو استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة.
إن ميزة الثورة الجزائرية أنها كانت براغماتية وواقعية. لقد كان قادة الثورة يدركون أنهم يحاربون الحكومة الفرنسية، وكذلك جيوشها البحرية والجوية والأرضية وغلاة الجالية الأروبية بالجزائر الذين تجاوز عددهم المليون ساكن في سنة 1954، ولذلك فإنه يتعين عليهم أن يتغلبوا على ضعفهم بالتنظيم الفعال وتأسيس خلايا في جميع القرى والمدن وفي جميع الأحياء. كما يتعين على جيش التحرير الوطني الجزائري أن يكثر من العمليات وأن يبرهن على قدرته وصموده وإرادته الفعالة في القتال كما أنه مطلوب من جبهة التحرير الوطني أن تجند المواطنين وتؤثر فيهم وتخلق وعيا وطنيا شاملا وإعطاء صورة جيدة للرأي العام بحيث يثق في قدرة العمل العسكري والمدني على تحرير البلاد من الهيمنة الفرنسية. وتحقيقا لهذا الهدف، تمكنت جبهة التحرير الوطني من تجنيد الطلبة والالتحاق بصفوفها وتوقفهم عن الدراسة يوم 19 ماي 1956، وكذلك التحاق العمال بالاتحاد العام للعمال الجزائريين بالثورة يوم 24 فيفري 1956 وخاصة في فرنسا التي كانت توجد بها جالية جزائر مهاجرة، وهي التي كانت تدفع الاشتراكات المالية وتمول الثورة الجزائرية بالمال الضروري لشراء السلاح وتقديم الدعم الضروري للثورة وخاصة من طرف العاملين في الخارج.
مؤتمر الصومام لتقييم ومراجعة استراتيجية الثورة
بعد 22 شهرا من انطلاق ثورة أول نوفمبر 1954، اجتمع قادة المناطق لتقييم مسار الثورة ومراجعة الخطط المرسومة في بداية الثورة، مع العلم أن بعض قادة الثورة قد استشهدوا أو ألقي عليهم القبض من طرف الجيش الفرنسي، مثل استشهاد ديدوش مراد قائد المنطقة الأولى في شهر جانفي من عام 1955، وكذلك استشهاد مصطفى بن بولعيد في شهر مارس من عام 1956 وإلقاء القبض على رابح بيطاط في شهر مارس 1955 وسفر السيد محمد بوضياف إلى الخارج لجلب السلاح بالإضافة إلى استشهاد سويداني بوجمعة يوم 16 أفريل 1956.
ولعل الشيء الذي ينبغي أن نشير إليه هنا هو أن قائدا جديدا سيبرز على الساحة السياسية للثورة وهو القائد عبان رمضان الذي خرج من السجن يوم 19 مارس 1955، والتحق بالثورة بناء على طلب الزعيم كريم بلقاسم الذي كلفه بالتنسيق بين المناطق والتفكير في برنامج موحد وخلق قيادة مشتركة بين جميع المناطق. وبالفعل، فقد تمكن في أفريل 1956 من توسيع الجبهة الوطنية وتدعيمها بقادة بارزين في الحركة الوطنية مثل فرحات عباس، أحمد فرنسيس وقادة من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أمثال إبراهيم مزهودي، أحمد توفيق المدني، والعربي التبسي. وبناء عليه، فقد مهد عبان رمضان الطريق لعقد مؤتمر وطني للثورة الجزائرية. ونجح عبان رمضان في المجال العسكري حيث تمكن من تكوين قيادة مركزية للثورة بزعامة جديدة. ولعل الخطأ الكبير الذي ارتكبه عبان رمضان هو سعيه لإرسال لمين دباغين إلى القاهرة في سبتمبر 1955 لكي يرأس الوفد الخارجي للثورة. فالمصريون لم يقبلوا به لأنهم كانوا يؤيدون أحمد بن بلة، وزعماء الثورة في القاهرة تحفظوا على هذا القرار لأنهم شعروا أن عبان رمضان كان يعمل لفرض نفسه كقائد للثورة، مع العلم أنه لم يكن أحد مفجريها.
الشيء المهم أن مؤتمر الصومام الذي انعقد في الفترة الممتدة من 20 أوت إلى يوم 5 سبتمبر 1956، تحت رئاسة العربي بن مهيدي وكاتبه العام عبان رمضان، قد سمح للقادة الحاضرين فيه، بالتعرف على حقيقة الوضع في الجزائر من خلال التقارير السياسية والعسكرية التي قدمها قادة المناطق الذين تمكنوا من الحضور، وتوصل المؤتمرون إلى نتائج إيجابية يمكن تلخيصها فيما يلي:
- إنشاء تنظيم إداري جديد يتمثل في تقسيم الجزائر إلى ستة ولايات (بدلا من مناطق) وتتجسد السلطة في كل مجلس ولائي الذي يرأسه عقيد وأربعة ضباط برتبة رائد في الجيش، أما منطقة الجزائر العاصمة فقد تقرر اعتمادها كمقر لجبهة التحرير الوطني وهي منطقة مستقلة وغير تابعة لأية ولاية.
- إقامة مقاييس عسكرية موحدة لجيش التحرير الوطني (كتيبة فيها 110 مجاهد، فرقة فيها 35 مجاهد، فوج فيه 11 مجاهد).
- تأسيس المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وهو عبارة عن السلطة التشريعية لدولة الجزائر، وتم اعتماد 17 عضوا دائما فيه و17 عضوا إضافي لتمثيل جميع الفئات المناضلة والمقاتلة المشاركة في ثورة التحرير.
- إنشاء سلطة تنفيذية (اسمها لجنة التنسيق والتنفيذ) تتولى تطبيق القرارات السياسية والعسكرية التي يتخذها المجلس الوطني للثورة الجزائرية. وتتكون هذه السلطة التنفيذية من الزعماء الآتية أسماؤهم:
- رمضان عبان مكلف بالتنسيق بين الولايات وبين الداخل والخارج.
- العربي بن مهيدي مكلف بالعمل الفدائي داخل المدن.
- كريم بلقاسم مكلف بالعمل العسكري وقائد الولاية الثالثة.
- بن يوسف بن خدة مكلف بالإعلام والاتصال بالمنظمات الطلابية والعمالية.
- سعد دحلب مسؤول عن صحيفة ” المجاهد ” والدعاية.
وكما يلاحظ هنا فإن عودة المركزيين من حزب انتصار الحريات الديمقراطية أصبحت تثير مخاوف قادة الثورة الأوائل، وخاصة من لم يحضروا مؤتمر 22. وبطبيعة الحال إن غياب بوضياف الذي كان متواجدا بإسبانيا وأحمد بن بلة وقادة آخرين مرموقين، قد خلق امتعاضا داخل جبهة التحرير، وتفاقم الوضع عندما قرر عبان رمضان إعفاء العديد من المسؤولين من مهامهم لأنهم فشلوا في جلب السلاح للثورة.
اختطاف طائرة قادة الثورة يخلط الأوراق
بعد مؤتمر الصومام ونجاح عمليات 20 أوت 1956 في سكيكدة، استبشر الثوار خيرا وخاصة بعد وضع الهياكل الإدارية للثورة الجزائرية المتمثلة في إنشاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية وقيام لجنة التنسيق والتنفيذ. إلا أن الأوضاع تغيرت فجأة وخيمت شكوك كبيرة حول مصير ثورة التحرير. فالمخابرات العسكرية الفرنسية قد نجحت يوم 22 أكتوبر 1956 في اختطاف طائرة مغربية، يوجد على متنها قادة جبهة التحرير الوطني، بوضياف، بن بلة، محمد خيضر وحسين آيت أحمد، بالإضافة إلى مصطفى الأشرف. ويقال أن الأمير الحسن الثاني، كان وراء تسهيل عملية اختطاف الطائرة لأنه لم يقبل أن يسافر الوفد الجزائري مع جلالة محمد الخامس إلى تونس في طائرة واحدة، وأمر بإرسال طائرة مغربية يقودها طيار فرنسي، بنقل الزعماء الخمسة إلى تونس، وأثناء مرور الطائرة المقلة لوفد جبهة التحرير الوطني بالبحر الأبيض المتوسط، أمرت المخابرات العسكرية الفرنسية الطائرة بالتوجه إلى مطار الدار البيضاء بالجزائر العاصمة والهبوط هناك لأنه يوجد على متنها أناس مطلوبين لدى العدالة الفرنسية !
وعليه، فإن اختطاف قادة الثورة الجزائرية قد أحدث موجة عارمة من السخط والتدمر لدى أبناء الشعب الجزائري وقادة دول المغرب العربي، بورقيبة ومحمد الخامس. وبالمناسبة فإن القادة العسكريين الفرنسيين الذين اختطفوا الطائرة، لم يطلبوا موافقة حكومة فرنسا على ذلك، وإنما أخذوا المبادرة من قيادة الجيش الفرنسي وزعماء الجالية الأروبية بالجزائر. وقد ظن أعداء الثورة الجزائرية في البداية أن عملية الاختطاف هي بمثابة خنق الثورة الجزائرية والقضاء عليها نهائيا. لكن الواقع كشف أن اعتقال القادة الثوريين لم يغير أي شيء. فالثورة استمرت، وربما بطريقة أنجع، لأن إلقاء القبض على تلك المجموعة من قادة الثورة، حال دون قيام صراع كبير داخل الثورة حول نتائج مؤتمر الصومام. وهناك العديد من المحللين الذين توصلوا إلى قناعة أن إبعاد قادة الثورة المسجونين لدى قرنسا كان بمثابة نعمة على الثورة الجزائرية لأن الصراع بين جماعة عبان رمضان، وجماعة بن بلة قد توقف وسمح للقادة الذين كانوا يتواجدون في مناصب حساسة قد تمكنوا من قيادة الثورة وأوصلوها إلى بر الأمان.
وبكل وضوح، فإن مرحلة ما بعد اختطاف طائرة القادة الأساسيين لتفجير ثورة أول نوفمبر، قد تميزت ببروز الزعامات الفردية في الثورة. فالسيد عبان رمضان الذي لم يكن من القيادة التي خططت لقيام الثورة قد أصبح هو الزعيم الأتوقراطي لثورة التحرير، وقد استغل اجتماع المجلس الوطني للثورة بالقاهرة في شهر أوت 1957 وغير تشكيلة لجنة التنسيق والتنفيذ، حيث قام بإدخال عناصر جديدة من حزب الشعب أمثال فرحات عباس، وعناصر جديدة من حزب الشعب أمثال عبد الحميد مهري. فأصبحت تتشكل من (1) عبان رمضان، (2) عباس فرحات (3) لخضر بن طوبال (4) عبد الحفيظ بوصوف (5) محمود الشريف (6) محمد لمين دباغين (7) كريم بلقاسم (8) عبد الحميد مهري و(9) عمر أوعمران.
وبمعنى آخر، فإن كريم بلقاسم قد تم تقزيم دوره، مع العلم أنه من القادة الستة الأوائل للثورة، ولذلك قام كريم بلقاسم بإيقاف الزعيم الجديد عبان رمضان، وساعده في ذلك عبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال لأنهما من القيادات الأساسية للثورة. فالزعماء الثلاثة قد شكلوا حاجزا كبيرا أمام عبان رمضان حتى زحزحوه، لكنهم فيما بينهم اختلفوا على من يقود الثورة، هل يتولى القيادة كريم بلقاسم الذي لم يكن من بين القادة 22 الذين فجروا الثورة لأنه كان في ذلك الوقت من المدافعين عن مصالي الحاج، أم يتولى القيادة بوصوف وبن طوبال لأنهما من الثوريين الأوائل والمنخرطين في حزب الشعب. ولهذا تحالف بوصوف وبن طوبال[8] ضد كريم بلقاسم ومنعاه من البروز كقائد زعيم للثورة.
وفي شهر أفريل من عام 1958 تشكلت لجنة تنسيق وتنفيذ ثالثة مشابهة للجنة الثانية، لكن الباءات الثلاثة (بلقاسم كريم، وبو الصوف عبد الحفيظ وبن طوبال لخضر) أصبحوا يشكلون قيادة وزعامة جديدة، وتمكن الثلاثة من إبعاد وقتل عبان رمضان في المغرب يوم 26 ديسمبر 1957 بدعوى أنه يسعى للقيام بانقلاب على قادة الثورة الأوائل وأنه كان يصر على كتابة افتتاحية جريدة ” المجاهد ” التي أنشأها وأشرف عليها إلى غاية وفاته في ديسمبر 1957.
إنشاء الحكومة المؤقتة في المنفى
إن إنشاء الحكومة المؤقتة في المنفى يوم الجمعة 19 سبتمبر 1958 والتي تم الإعلان عليها في تونس والرباط والقاهرة في آن واحد، قد برز إلى الوجود بقصد تكوين حكومة موسعة لتحل محل لجنة التنسيق والتنفيذ التي فقدت كثيرا من مصداقيتها وعدم قدرة أعضائها على الانسجام في العمل وخاصة بعد تورط بعض أعضائها في وضع حد لنشاطات عبان رمضان.[9]
لقد تم اختيار عباس فرحات لرئاسة الحكومة لأسباب استراتيجية سياسية لأنه محنك في ميدان المفاوضات ومعتدلا، مقارنة بغيره من قادة الصورة الجزائرية. ومع أن فرحات عباس كان مدعوما من كريم بلقاسم ورفاقه في قيادة الثورة وقادة تونس والمغرب، إلا أنه كان يعتبر دخيلا على الثورة الجزائرية في نظر المصريين، ثم إن مشكلته أنه لا يتقن اللغة العربية ومن الصعب عليهم التواصل معه. والأخطر من هذا كله أن المصريين كانوا يشعرون أن فرحات عباس سيدخل في مفاوضات مع فرنسا باسم الثورة الجزائرية ويسير في ركاب الدول الغربية.
وبالفعل، فإن فرحات عباس كان يصغي بانتباه إلى ما ينصحه به الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والسلطان محمد الخامس، وبدأ يبتعد عن القيادة المصرية التي كانت تتزعم القومية العربية ورفض التعاون مع الدول الغربية. لقد اتضح من خلال تركيبة الحكومة المؤقتة أن هناك تغير جوهري في مسيرة الثورة. فالتوجه أصبح بارز المعالم بحيث أن التونسيين والمغربيين والجزائريين صاروا يفكرون في قيام فدرالية مغاربية وتوحيد دول المغرب العربي، وبالتالي يحصلون على المساندة الأمريكية وابتعاد الثوار الجزائريين عن الشيوعية حيث كانت فرنسا تزعم في دعايتها أن الثورة الجزائرية هي ثورة شيوعية وأن نجاحها سيسمح للاتحاد السوفياتي (سابقا) أن يضع قدمه في شمال إفريقيا. لقد تفطن الجزائريون بعد الهجوم الفرنسي على ساقية يوسف إلى أن فرنسا كانت تسعى لعزل الجزائر، وأن المصلحة الوطنية الجزائرية تفرض على الثوار، إخراج الثورة الجزائرية من العزلة التي كانت تخطط لها فرنسا على مستوى المغرب العربي، ولن يتحقق ذلك إلا بإحياء الجبهة المغاربية. إن إقامة الخط الكهربائي (موريس) على الحدود التونسية والخط الكهربائي (شيل) على الحدود المغربية كان القصد منه تضييق الخناق على الثورة الجزائرية وعزلها. وكما هو معلوم فإن الأحزاب الثلاثة في تونس (الدستور الجديد) وفي المغرب حزب (الاستقلال) وفي الجزائر (حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري)، قد اجتمعوا بمدينة طنجة المغربية في الفترة الممتدة من 28 إلى 30 أفريل 1958 وبحثوا إمكانية قيام اتحاد لدول المغرب العربي وتأسيس أمانة دائمة من 6 مندوبين (اثنان لكل دولة) وذلك بقصد تنفيذ القرارات التي يتخذها قادة الأحزاب الثلاثة. لقد تعرضت تونس والمغرب لضغوطات فرنسية حيث أعلنت الحكومة الفرنسية أنها ستجبر تونس على تمرير أنابيب نقل البترول الجزائري إلى أوروربا عبر أراضيها وتكسب بذلك حوالي 500 مليون دولار أمريكي من المبالغ المالية التي تحتاجها فرنسا. كما حاولت فرنسا أن تضغط على المغرب لكي يغلق الحدود الجزائرية معه ويمنع الثوار من الدخول إلى الأراضي الجزائرية ومقابل ذلك تتخلى فرنسا عن جزء من الحدود الجزائرية إلى المغرب. لكن جلالة محمد الخامس رفض العرض الفرنسي وأعلن أنه لن يطعن الثورة الجزائرية من الخلف.
لقد لاحظنا نحن طلبة جبهة التحرير الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال اتصالنا بقادة الجبهة مثل عبد القادر الشندرلي، ممثل جبهة التحرير في الأمم المتحدة ومحمد يزيد المكلف بالإعلام في الحكومة المؤقتة، أن سياسة الحكومة المؤقتة كانت تهدف إلى التقرب من القيادة الأمريكية وإقناع جون ف. كينيدي بعدم تزويد فرنسا بالمال والسلاح وإضعاف الجيش الفرنسي بقطع المساعدات المالية والحربية، وبذلك تضطر الحكومة الفرنسية إلى التفاوض مع جبهة التحرير الوطني، وهذا ما حصل حيث خفضت الحكومة الفدرالية الأمريكية مساعداتها المالية والعسكرية إلى حكومة الجنرال ديغول بحيث أنه وجد نفسه في ضائقة مالية وخزينة فرنسا فارغة ولا يمكنه مواصلة الحرب التي كانت فرنسا أكثر من 2 مليار دولار أمريكي في الشهر.
مشكلة توحيد الجيش وجلب السلاح
إن أكبر مشكلة كانت تعاني منها الحكومة المؤقتة هي عدم قدرتها على جلب السلاح وإيصاله إلى المجاهدين في الداخل، بالإضافة إلى توحيد الجيش. ولحل الإشكال الموجود في تزويد المجاهدين بالسلاح والاعتماد على قيادة عسكرية موحدة، اجتمع أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية في طرابلس في الفترة الممتدة من 16 ديسمبر 1959 إلى 18 جانفي 1960 واتخذوا قرارات حاسمة في هذا الموضوع. وبعد 33 يوم من النقاش والحوار، تقرر العمل في إطار جماعي وتقليص نفوذ الشخصيات العسكرية القوية داخل الحكومة المؤقتة. وعليه، فقد تقرر تغيير موقع كريم بلقاسم في الحكومة المؤقتة الجديدة بحيث أصبح وزيرا للخارجية ومنصبه السابق الذي كان يشتغل فيه وزير القوات المسلحة تم إلغاؤه وحل محله أو تعويضه بـ ” لجنة وزارية للحرب “.
وباختصار شديد، فإن اللجنة كانت تتشكل من كريم بلقاسم، عبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال، واستطاع بوصوف أن يعين العقيد هواري بومدين رئيسا للأركان العامة. أما محمد السعيد الذي كان يشترك مع بومدين في قيادة الأركان فقد تقرر تعيينه وزيرا للدولة. وباعتباره قائدا للأركان، قام هواري بومدين بتعيين القادة العسكريين المقربين إليه أمثال علي منجلي وقايد أحمد، وكانت هذه الخطوة الأولى لإحلال القادة العسكريين محل القادة “التاريخيين” الذين سيطروا على الوضع منذ أول نوفمبر 1954.
الشيء المهم في الموضوع، أن الحكومة المؤقتة التي كانت موجودة بالخارج لم تعد تملك أية قوة عسكرية تعول عليها للسيطرة على الوضع بالحدود، ولهذا أصبحت تستعين بحكومتي تونس والمغرب لإلقاء القبض على كل من لا يمتثل لأوامرها. واعترف علي منجلي في إحدى المرات أن كريم بلقاسم كان يتواصل مع السلطات التونسية لإلقاء القبض على المسؤولين في قيادة الأركان. وقد قال كريم بلقاسم: ” لم يبق التسعة التاريخيين سواي، فالمفروض أن أكون المسؤول الأول لأن في ذلك ضمانة للثورة “.[10]
ولعل المشكل العويص الذي واجه قيادة الأركان التي استطاعت أن تخلق الانضباط في صفوف الجيش وتوحيده، أنها لم تكن قادرة على أداء مهامها ولا تحصل على الدعم المالي والتموين بالسلاح بدون إظهار الطاعة والولاء للمسؤولين العسكريين في الحكومة المؤقتة. ثم إن الشيء الذي زاد الطين بلة هو إعطاء الأوامر لجيش الحدود وقادته بالدخول إلى الأراضي الجزائرية قبل 31 مارس 1961. والسؤال المطروح هنا: كيف يمكن لأفراد جيش الحدود أن يجتزوا الحدود لأنه يوجد خط موريس المكهرب، والوصول إلى داخل الجزائر بسلام أو بنجاح غير مضمون.
المسار الدبلوماسي للمفاوضات الجزائرية الفرنسية
إنه لمن الواضح أن الحرب بين الجزائر وفرنسا منذ أول نوفمبر 1954 إلى غاية عام 1962 لم تكن متكافئة وأن الدبلوماسية هي البديل للحرب. بفضل المقاومة الجزائرية سقطت الجمهورية الرابعة في عام 1958، والإتيان بالجمهورية الخامسة التي فشلت هي الأخرى في إحراز أي انتصار عسكري على المقاومة الشعبية في الجزائر. لقد حاول الجنرال ديغول أن يخمد الثورة ويظهر براعته في خنق الثورة الجزائرية وإعادة ترجيح الكفة لصالح المستوطنين الأروبيين ولصالح الجيش الفرنسي الذي كان يحمي غلاه النظام الكولونيالي المفروض على الجزائريين منذ 1830.
المهم أنه منذ يوم 16 سبتمبر 1959، وهو اليوم الذي أعلن فيه الجنرال ديغول عن تقرير المصير في الجزائر. وابتداء من أول فبراير 1960 بدأ ديغول يعمل بكل قوة لإبعاد القادة العسكريين الفرنسيين عن المستوطنين الأروبيين وخاصة القادة العسكريين الذين كانوا متعاطفين مع زعماء الجالية الأروبية بالجزائر. ولعل أكبر ضربة وجهها ديغول للجيش هي إلغاء دور الطابور الخامس (المخابرات) وعدم السماح للجيش بالسيطرة على السكان المسلمين لأن الطابور الخامس كان يستعمل من طرف الأروبيين لمعاداة الثوار الجزائريين. وفي يوم 4 فبراير 1960 اتخذ ديغول قرارا حاسما يتمثل في نزع السلطات المعطاة للجيش لكي يحل محل الشرطة في القيام بعمليات التعذيب وإلقاء القبض على الجزائريين بدون مراقبة قضائية، وأعاد تلك السلطات الأمنية إلى رجال الشرطة الذين يعملون ويخضعون لسلطة الدولة. وفي يوم 11 ديسمبر 1960 حاول المستوطنون الأروبيون القيام بمظاهرات ضد سياسة ديغول وإظهار معارضتهم لسياسة ديغول التي تسمى بـ ” الجزائر للجزائريين “ ولكن ديغول ومن ورائه جبهة التحرير الوطني الجزائرية، أفسحوا المجال للمتظاهرين الجزائريين أن يتظاهروا بطريقة سلمية ويكتسحوا الأوروبيين ويقهروهم في الجزائر العاصمة. وبذلك، تحطمت آمال الأوربيين وانهارت قواهم، وتحولوا إلى عصابات تغتال السكان الفرنسيين والجزائريين الذين لم يرتكبوا أية جريمة.
وفي يوم 14 يونية (جوان) 1960 أعلن ديغول عن رغبة حكومته لاستقبال وفد من الحكومة المؤقتة وإجراء مفاوضات معها بقصد تحديد سياسة تقدير المصير المقبولة للطرفين. لكن بعد إرسال محمد الصديق بن يحي والسيد أحمد بومنجل مسؤول الإعلام في الحكومة المؤقتة إلى فرنسا، والتقاءهما بوفد فرنسي يقوده روجي موريس Roger Moris المكلف بالشؤون الجزائرية في قصر الإليزي والعقيد ماثون (Mathon)، تبين أن الوفد الفرنسي كان يسعى بالدرجة الأولى إلى التفاوض من أجل وقف إطلاق النار وإجبار جيش التحرير على تسليم سلاحه. كما أن فرنسا في تلك المفاوضات التي ابتدأت بمدينة مولن Mulen يوم 25/06/1960 واستمرت لغاية يوم 29/06/1960، فرضت حصارا إعلاميا وحرمت الوفد الجزائري من إجراء أي اتصال مع الصحافة.
وبفضل وساطة سويسرية، جاء جورج بومبيدو إلى مدينة لوسيرن Lucerne ليلتقي بالوفد الجزائري المتكون من أحمد بومنجل المحامي المشهور في القانون ومدير الإعلام في الحكومة المؤقتة، وكذلك الطيب بولحروف ممثل الجزائر في روما، واستمرت المفاوضات لغاية 15/03/1961، واختلف الوفدان على جدول الأعمال والشروط التعجيزية للحكومة الفرنسية.
وفي يوم 18 مارس 1962 توصل الجانب الفرنسي والجانب الجزائري إلى اتفاق نهائي يقضي بوقف إطلاق النار يوم 19 مارس 1962، ثم أفرجت فرنسا عن الزعماء الخمسة المسجونين لديها والذين توجهوا إلى المغرب من سويسرا وذلك في طارة أمريكية مؤجرة من طرف ملك المغرب.
وجرت الانتخابات الخاصة بتقرير المصير يوم 3 جويلية 1962 حيث أدلى 6 ملايين ناخب جزائري بأصواتهم، عبروا من خلالها عن رغبتهم في حصول الجزائر على الاستقلال التام بدون الارتباط بأي شكل من اشكال التعاون مع فرنسا.
خلاصة واستنتاجات
لقد تميزت الثورة الجزائرية (1954 – 1962) عن غيرها من الثورات التي حدثت في القرن العشرين. إنها ثورة فتحت الأبواب أمام جميع الجزائريين وأعطتهم الفرصة لكي ينالوا حقوقهم، وأزالت من أذهانهم عقدة العجز والتخوف من قوة استعمارية تملك أسلحة جهنمية. وعليه، فقد تميزت الثورة الجزائرية بميزات يمكن تلخيصها في أنها كانت:
- ثورة جماهيرية، لم يتحكم فيها زعيم واحد، وهي تختلف عن الثورات الصينية واليوغسلافية والسوفياتية والكوبية التي كان يتم توجيهها من طرف قيادات حزبية ذات ايديولوجية يغلب على قيادتها الطابع الفردي.
- ثورة ذات عقيدة إسلامية، فالإسلام كان عامل وحدة وجلب عقيدة ساهمت في توحيد السلوك والاتجاهات.
- ثورة قامت على أساس قيادة جماعية، إن انضمام الأفراد بطريقة عفوية إلى جبهة التحرير، وهي حركة ثورية تجسم آمال الجماهير وتعتمد على العمل الجماعي.
- ثورة قادتها عناصر وطنية تنتمي إلى العمال والفلاحين، ولا تنتمي إلى نخبة المثقفين أو البورجوازيين الثائرين على الفساد السياسي للبورجوازية الوطنية.
- ثورة ضد الاحتلال الأجنبي المغتصب لأراضي الشعب الجزائري، لأن الجزائر كانت تعتبر جزء لا يتجزأ من أراضيها. إنها ثورة حررت البلاد من محتلين أجانب قدموا من أوروبا لتسليط القمع والإرهاب على جميع الجزائريين.
- ثورة جاءت لتعيد الاعتبار لكل الفئات الوطنية، بحيث تحصل كل فئة على نصيبها من اقتسام الثروة والنفوذ والحقوق القانونية.
- ثورة للتخلص من التبعية الأجنبية في الميدان السياسي والميدان الاقتصادي، إنها ثورة أطاحت بأصحاب رؤوس الأموال الأجانب الذين كان همهم الوحيد هو استعباد أبناء البلد الأصليين.
- ثورة قامت على أساس وجود سلطة مركزية منضبطة، إن ثروة الجزائر سادها الانضباط وعدم الخروج عن طاعة قياداتهم الجماعية.
- ثورة ضد التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية لكل بلد، بحيث أن كل بلد يحصل على حرية أبنائه الذين يتقاسمون الثروات الموجودة بوطنهم.
- ثورة تقيم علاقات اجتماعية جديدة، خالية من الاستعباد وفرض الهيمنة الخارجية على شعبها.
- ثورة قامت على وحدة الصف، وعدم السماح للإيديولوجيات الأجنبية أن تتسرب إليها وتؤثر في مسارها. وباختصار شديد، لقد برهن الجزائريون من خلال تحليهم بالصبر، ووجود عزيمة قوية لا توهن، عن أصالتهم الثورية الإسلامية العربية، وبأنهم كان عندهم إيمان قوي بعدالة مطالبهم، وإيمان قوي يحركه الشعور بالظلم.
عمار بوحوش، مفكر وباحث جزائري،
متخصص في التاريخ السياسي للجزائر
** عمار بوحوش، باحث في التاريخ السياسي للجزائر.
[1] عمار بوحوش، التاريخ السياسي للجزائر، من البداية ولغاية 1962، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997، ص 157.
[2] نفس المصدر الآنف الذكر، ص 198.
[3] محمد الطيب العلوي، مظاهر المقاومة الجزائرية: 1830-1954، الجزائر: منشورات المتحف الوطني للمجاهد، 1994، ص 89.
[4] Charles-Robert Ageron, Histoire de l’Algérie contemporaine, Paris : P.U.F, 1964, P 352.
[5] صالح بلحاج، تاريخ الثورة الجزائرية: صانعو أول نوفمبر 1954، الجزائر: دار الكتاب الحديث، 2010، ص 136.
[6] محمد بوضياف في حديث مع محمد عباس، المنشور في جريدة الشعب بتاريخ 16 و17 نوفمبر 1988.
[7] زهير إحدادان، ” دعاية جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة التحريرية “، الإعلام ومهامه أثناء الثورة، الجزائر: منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة نوفمبر 1954، 1998، ص 35.
[8] مذكرات لخضر بن طوبال نشرها الباحث دحو جربال في نوفمبر 2021 تحت عنوان: لخضر بن طوبال: مذكرات من الداخل. باتنة، الجزائر: دار الشهاب، 2021، s379 صفحة.
وبالفرنسية:
Daho Djerbal, Lakhdar Bentobal, Mémoire de l’intérieur. Batna, Chihab éditions 2021, 379 pages.
[9] Alister Horn, A savage war of peace: Algeria, 1954-1962, London: Mc Milan, 1977, p 315.
[10] العقيد علي منجلي في حديث صحفي مع محمد عباس منشور بجريدة الشعب يومي 27 و28 جويلية 1985.