ردود فعل السلطات الفرنسية في عهد الجمهورية الرابعة على قيام ثورة أول نوفمبر 1954
مقـدمــة
لقد جاءت ثورة أول نوفمبر 1954 بمثابة مفاجأة تامة بالنسبة للسلطات الفرنسية لأنه تم الإعداد لها في سرية كبيرة. والدليل على هذه الحقيقة أن الشرطة الفرنسية قد قامت في الأسبوع الأول من نوفمبر بإلقاء القبض على المناضلين في حزب مصالي الحاج أمثال مولاي مرباح والمناضلين في حركة أنصار الحريات الديمقراطية أمثال بن يوسف بن خدة وكيوان واعتبرتهم بمثابة قادة للحركة الثورية في أول نوفمبر 1954، في حين تبين فيما بعد، من خلال محاكمتهم في عام 1955، أنه لا علاقة لهم بتنظيم ثورة أول نوفمبـر.
وقد اعترف بهذه الحقيقة زعيم المركزين بن يوسف بن خدة الذي قال بأن السلطات الفرنسية، قد ألقت القبض عليه وبقية زملائه في بداية نوفمبر 1954 وبقوا رهن الإعتقال لغاية ماي 1955، وأثناء محاكمتهم ” لاحظت المحكمة أن اللجنة المركزية لم يكن لها ضلع في إعلان الكفاح المسلح “(1).
وفي مقال له بتاريخ 2 نوفمبر 1954، نشر بجريدة ” لاديبيش اليومية “، أعلن هنري بورجو، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، أنه ينبغي ” دفن التمرد أين يولد، وينبغي البحث عن زعماء العصابات وإلحاق الهزيمة بهم وأن هؤلاء الزعماء معروفون ومنظمتهم ينبغي أن تمحى من الخريطة “(1). أما ممثل وهران في الجمعية الفرنسية، فرنسوا كويليسي، فقد اتهم الحكومة الفرنسية بالضعف، وتبين هذا حسب رأيه، في موقف حكومة منديس فرانس من القضية التونسية والقضية المغربية حيث تفاوضت مع الوطنيين ومنحتهم الإستقلال الداخلي. وأشار هذا النائب إل أن التفاوض مع الوطنيين في شمال إفريقيا قد أعطى انطباعا للجزائريين أن الإرهاب يجلب الفوائد. وأكد أن ضعف الحكومة سوف ينتج عنه تخريب الجزائـر(2).
وفي يوم 5 نوفمبر 1954 أعلن وزير الداخلية الفرنسية ، فرانسوا متيران، أمام لجنة الشؤون الداخلية بالبرلمان الفرنسي ” بأنه لا مجال لأي شيء سوى الحرب ” ثم أضاف قائلا: ” إن الجزائر هي فرنسا وهذه الأخيرة لا يمكن أن تعترف بأية سلطة غير سلطتهـا”(3).
أما رئيس الحكومة الفرنسية منديس فرانس فقد أعلن أمام الجمعية الوطنية الفرنسية يوم 12 نوفمبر 1954، أثناء مناقشة القضية الجزائرية، بأن فرنسا سوف لن تتفاوض مع أي طرف وأنها سوف تسعى للمحافظة على وحدتها الوطنية وسيادتها. وأكد أن مقاطعات الجزائر تعتبر جزءا من فرنسا، وعندها تمثيل في البرلمان الفرنسي، ولا يمكن التفكير في فصل الجزائر عن فرنسا. وليتأكد الجميع، حسبما قال رئيس الحكومة الفرنسية، أنه لا يوجد برلمان أو حكومة فرنسية تقبل مبدأ فصل الجزائر عن فرنسا والتحلي عن الجزائر(4). وبتمسكه بالجزائر الفرنسية والدفاع عنها حتى النهاية، نالت حكومة منديس ثقة أعضاء البرلمان الفرنسي يوم 12 نوفمبر 1954
بـ 296 صوتا ضد 265 صوتـا.
أما المقيم العام بالجزائر ” روجي ليونار ” فقد وصف الثورة بأنها عبارة عن تمرد بعض الأعراش، وأن المتمردين عبارة عن مجموعة من اليساريين ينتمون إلى الشيوعية العالمية، والقاهرة هي التي تحرضهم على القيام بأعمال تخريبية. وفي مؤتمر صحفي بتاريخ 2 نوفمبر 1954 قال : ” إن السكان الذين يبرهنون حاليا، في جميع الأوساط، على هدوء كبير ورباطة جأش يستطيعون أن يطمئنوا بأننا سنتخذ جميع التدابير اللازمة لضمان أمنهم، وقمع التصرفات الإجرامية المرتكبة “. وأكد ” ليونار ” أن المتمردين الذين يحصلون على دعم من الخارج يأملون أن تساعدهم العمليات التي قاموا بها في أول نوفمبر 1954 على عرض قضية الجزائر على هيئة الأمم المتحدة قريبا. وأشار إلى أن المتمردون لن ينجحوا لأن ملف الجزائر أبيض، فارغ، لا مظالم فيه ولا شكـاوي “(1).
وباختصار، فإن رد فعل جميع المسؤولين الفرنسيين يتمثل في استعمال القوة لقمع الثائرين وإلقاء القبض على جميع المناضلين أينما كانوا. ففي نهاية نوفمبر 1954، تمكنت قوات الشرطة الفرنسية من سجن 750 مناضل، وفي نهاية سنة 1954 بلغ عدد المسجونين 2000 مناضـل(2).
وتحقيقا لرغبات ” رؤساء بلديات القطر الجزائري ” القوية التي طلبت من الحاكم العام في الجزائر أن يعمل بسرعة على خنق التمرد قبل استفحاله، فالخنق ثم الخنق، قام الجنرال ” شاريير Paul Charrière ” قائد القوات الفرنسية في الجزائر والتي كان يبلغ عددها 57.000 جندي وضابط، بتوجيه هذه القوات إلى منطقة الأوراس لدفن التمرد أين ولد. وقد أشرف على هذه العمليات العسكرية قائد ناحية قسطينة الجنرال ” سبيلمان Spillmann ” (58 سنة آنذاك) الذي إلتزم بسحق المتمردين في وقت قصير جدا. وبالفعل فقد قام الجيش الفرنسي بتقتيل أبناء منطقة الأوراس بعد عمليات تمشيط دقيقة. وقد أعطى هذا الجنرال تعليمات لجنوده بعدم إعتقال أي متمرد يقع في أيديهم بل ينبغي قتله لأن الجيش لا يريد فتح سجون للمتمردين. وعليه، فإن التصفية الجسدية لكل متمرد هي الأسلوب الفعال لردع السكان ومنعهم من تقديم أي دعم أو مساعدة للثـوار.
إلا إن المشكل الذي جابهه الجيش الفرنسي هو أن جبهة جديدة قد تم فتحها ببلاد القبائل الكبرى إبتداء من جانفي 1955، ثم فتحت جبهة ثالثة قوية بشمال قسنطينة إبتداء من يوم 20 أوت 1955. وفي أواخر 1955 وصل السلاح إلى ناحية وهران، فتم تصعيد العمليات العسكرية ضد قوات الإحتلال الفرنسي في جميع أنحا البلاد. وفي شهر مارس من عام 1955 إتضح أن عمليات القمع وحرق القرى في الأوراس والقبائل الكبرى غير مجدية، وآنذاك قررت فرنسا إستبدال الجنرال ” سبيلمان ” الذي فشل في تهدئة الأوضاع ودفن التمرد أين ولد وتعويضه بالجنرال ” ألارد Allard “.
وعندما أدرك المسؤولون الفرنسيون أن سياسة القمع غير مجدية وأن السكان يتعاونون مع الثوار، قرروا إنتهاج سياسة جديدة تتمثل في إدخال إصلاحات سياسية وإدارية في الجزائر، وفي نفس الوقت يقومون بتوجيه ضربات قوية للثوار أينما كانوا وهذا بقصد ترضية العسكريين الذين كانوا يعتقدون أن استعمال القوة ضد الثوار بدون قيود، هو الأسلوب الفعال لسحق الثائرين. وهكذا قام ” فرنسوا متيران ” وزير الداخلية الفرنسي بتقديم مشروع إصلاحات سياسية وإدارية إلى مجلس الوزراء الفرنسي
بتاريخ 5 جانفي 1955 يتمثل في إنشاء المدرسة الوطنية للإدارة في الجزائر بقصد تكوين فئة من المسؤولين الجزائريين وتعيينهم في مناصب عليا في جهاز الوظيف العمومي. كما اقترح وزير الداخلية في برنامجه دمج رجال الشرطة في الجزائر في نظام فرنسا بباريس وذلك بقصد إخضاع قوات الأمن في الجزائر إلى مراقبة مستمرة من طرف وزارة الداخلية الفرنسية وذلك بعد أن ثبت أن هناك مبالغات وتجاوزات في استعمال العنف والتعذيب في الجزائر. واقترح وزير الداخلية الفرنسية إلغاء نظام البلديات المختلطة وذلك بقصد توحيد النظام وتطبيق قانون واحد على الجميع، مثلما هو الحال في فرنسـا(1).
وفي نفس الإطار، قرر منديس فرانس، رئيس الحكومة الفرنسية بتغيير الحاكم العام ” روجي ليونارد ” وإستدعاءه إلى باريس لكي يتولى منصب مدير عام مجلس المحاسبة، واستقر رأيه على تعيين حاكم عام جديد، يتميز بالأفكار الليبرالية،
أو اليسارية وقوة الشخصية والتجربة في ميدان المقاومة المسلحة، وله إلمام كبير باستراتيجية العمل الإرهابي. هذه المقاييس تتوفر في (جاك سوستيل) الذي ينتمي إلى حزب ديغول الليبرالي وعمره لا يتجاوز 43 سنة في سنة 1955، وعنده تجربة في المقاومة الفرنسية ضد النازية، وكان يقوم بالأعمال الإرهابية ضد الألمان، وله شخصية متميزة بحيث يقوم بمبادرات ويدخل في مفاوضات مع الثوار بطريقة سرية ولا ينتظر التعليمات من الحكومـة(1).
وعندما عرض رئيس الحكومة المنصب على سوستيل، قام هذا الأخير، بإستشارة ديغول في الموضوع، فرحب الجنرال بالفكرة وتساءل : لماذا لا ؟ وأثناء إستقبال سوستيل من طرف ” منديس فرانس ” قال له رئيس الحكومة الفرنسية : ” إنك تحتاج إلى شجاعة لكي تواجه الإقطاعيين وأصحاب النفوذ والمال والكبار بالجزائر العاصمة الذين تعودوا حتى الآن على إصدار مراسيم نزول المطر وبروز الشمس … إن مهمتك ستكون صعبة “(2). ثم طلب منديس فرانس من سوستيل أن يعمل على تطبيق الإصلاحات الجديدة التي تهدف إلى إزالة الهم والغم عن الجزائريين الذين يتعرضون لبطالة مجحفة وشعور بالظلم من السلطات المحلية هنـاك.
لكن إقدام منديس فرانس على تقديم إصلاحات سياسية وتغيير الأوضاع المزرية خلق جوا مشحونا في الجزائر العاصمة وفي البرلمان الفرنسي حيث قاد الحملة ضد الإصلاحات السياسية ” روني مايير ” نائب قسنطينة، واتهم الأوروبيون
” منديس فرانس ” بتعيين يساري يهودي إسمه الحقيقي بن ساسون والمعروف
بـ ” جاك سوستيل ” !!! كما إتهموا رئيس الحكومة بأنه ينوي التفاوض مع الثوار الجزائريين مثلما تفاوض مع التونسيين والمغاربة. وحاول رئيس الحكومة أن يدافع عن سياسته في الجزائر بقوله : ” في شمال إفريقيا ينبغي الإختيار بين سياسة المصالحة أو سياسة القمع واستعمال القوة وما يترتب عنها من عواقب وخيمة ومرعبة(1). وفي يوم 06 فيفري 1955 إنهزمت حكومة “منديس فرانس ” في البرلمان الفرنسي
بـ 319 صوت ضد 273 صوت وانتصر عليه الأوروبيون الذين كانوا يعارضون أي تغيير سياسي في الجزائر يمس مصالحهم ويخلق المساواة بينهم وبين المسلميـن.
وبسقوط حكومة ” منديس فرانس ” إختفى مشروع الإصلاحات السياسية في الجزائر وحل محله مشروع يميني من أيحاء النواب الذين يمثلون مصالح الأوربيين في الجزائر. ونظرا للفراغ السياسي الذي حدث في الجزائر بعد إستدعاء ليونار
يوم 12 فيفري 1955، فقد جاء ” سوستيل ” إلى الجزائر يوم 15 فيفري 1955 بعد أن طمأنه صديقه القديم ” بورجيس مونري ” الوزير الجديد للداخلية في حكومة
” إدقارفور ” اليمينية بأن منصبه في الجزائر مضمون ولا يوجد أي إشكال في الموضوع. وقد جاء الحاكم العام الجديد إلى الجزائر في لباس مدني واستلم مهامه بدون استقبال أو حفل رسمي. وفي البداية رفض الأوربيون التعامل معه على أساس أنه رجل ” منديس فرانس ” المغضوب عليـه.
وبالفعل فقد أراد ” سوستيل ” أن يكون رجل الإصلاحات السياسية وإنتهاج سياسة جديدة يمكن أن يطلق عليها سياسة الإندماج ” لأنه لا يمكن الإستمرار في سياسة حرمان الجزائريين من الحقوق السياسية بعد تمردهم على فرنسا، ولا يمكن تشجيع أبناء الوطن على الإنفصال عن فرنسا “. وتحقيقا لهذا الهدف، قام بتعيين وجوه جديدة معروفة بالإعتدال والتفتح على قضايا أبناء الجزائر. فقام بتعيين ” جاك جويلي Jacques Juillet ” رئيسا لديوانه المدني، وهو شخصية يسارية كان واليا ومقربا من
” منديس فرانس “. واختار أيضا ” الرائد فانسان مونتوي Le Commandant Vincet Monteil ” رئيسا لديوانه العسكري، وهو مدير سابق لشؤون الأهالي بالمغرب، والذي يجيد اللغة العربية ولهجات جزائرية أخـرى.
وفي واقع الأمر، كان هذا الخبير رئيس ديوانه العسكري مكلفا بالإتصال بالقادة الجزائريين والتفاوض معهم. وهو الذي استجوب مصطفى بن بولعيد عند إلقاء القبض عليه في تونس في فيفري 1955 واتصل بالسيد علي زعموم (من الولاية الثالثة) والشيخ خير الدين (من جمعية العلماء) والحاج شرشالي (من المركزيين) وأحمد فرنسيس (من حزب البيان) وحاول جس النبض معهم والدخول في مفاوضات لإنهاء الحرب الدائرة رحاها بالجزائر. وتأكيدا على حسن نواياه توسط لدى الحكومة الفرنسية في شهر ماي من عام 1955، لإطلاق سراح المسجونين الجزائريين (أمثال بن يوسف بن خدة وكيوان)(1) . ثم انضمت إلى نواة سوستيل الكاتبة الفرنسية المشهورة والمعروفة بأفكارها اليسارية “جيرمين تيون Germaine Tillion ” وذلك في شهر مارس من عام 1955. وقد أسندت إليها مهمة بناء المراكز الإجتماعية وتقديم المساعدات الإقتصادية للسكان المسلمين حتى ينسلخوا عن أبنا جلدتهم ويحجموا عن دعم ثوارهـم.
وفي الحقيقة أن سياسة الإندماج التي أراد سوستيل أن ينتهجها في الجزائر قد ولدت ميتة في سنة 1955. ظهر هذا الإتجاه بوضوح في خطابه أمام المجلس الجزائري يوم 23 فبراير سنة 1955 حين أعلن أنه ينوي تطبيق قانون 1947 الذي ينص على التفريق بين الأوربيين والمسلمين وكل فئة تنتخب وهي منفصلة عن الأخرى، والأوربيون الذين لايتجاوز عددهم 1.000.000 نسمة عندهم نفس العدد من الممثلين للمسلمين الذين يتجاوز عددهم 8.000.000 نسمة في سنة 1954. وأكثر من ذلك أكد ” سوستيل ” في خطابه أن الجزائر جزء من فرنسا ولا يمكن أن تنفصل عن هذه الأخيرة(2). وطبعا، فإن مضمون هذا الخطاب يتناقض مع مبدأ سياسة الإندماج التي كان ينوي إنتهاجها في الجزائر لأن الإندماج يعني في واقع الأمر عدم التفرقة بين السكان وعدم وجود تفرقة دينية أو عرقية، والجميع يصوتون في صندوق واحد للإقتراع وليس في صندوقين مختلفين للإقتراع، واحد خاص بالأوروبيين وآخر خاص بالمسلمين.
لكن الضربة القاضية لسياسة الإندماج جاءت يوم 3 أفريل 1955 وذلك يوم تقرر إصدار قانون الطوارئ، ذلك القانون المشؤوم الذي أعطى للشرطة الحق في اعتقال أي شخص في أي وقت بدون الحصول على موافقة الجهات القضائية، وإقامة مناطق أمنية لإعتقال المواطنين وإبعادهم من ديارهم بقصد عزل الثوار، وإنشاء جهاز للشرطة الريفية المتنقلة، وتحديد إقامة الأشخاص وعدم السماح لهم بالتنقل إلا بعد الحصول على إذن من السلطات الأمنية. وفي نفس الإطار تقرر يوم 23 أفريل 1955 أن يصدر وزير العدل الفرنسي مرسوما يقضي بالسماح للمحاكم العسكرية أن تنظر في قضايا الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم منذ يوم 30 أكتوبر 1954. وهذا معناه في الحقيقة محاكمة مئات الآلاف من السياسيين وتسليط أشد العقوبات عليهم لأسباب سياسية. وباختصار، فإن قانون حالة الطوارئ هو في واقع الأمر، نقل السلطة من الجهات القضائية والإدارية إلى الجيش الذي أصبح هو السلطة الفعلية في البـلاد(1).
وبانتقال السلطة إلى يد العسكريين في شهر أفريل من عام 1955، وجد
” سوستيل ” نفسه معزولا، وتخلى عنه رجاله الذين كانوا حوله. فقد استقالت “جيرمان تيون” من منصبها يوم 30 ماي 1955، ثم جاء دور ” فينسان مونتاي ” يوم 24 جوان 1955، تلاه في الإستقالة ” جاك جويلي ” وهؤلاء هم النواة الأساسية التي اختارها “سوستيل ” لمساعدته على إدارة الجزائر منذ قدومه إلى الجزائر في يوم 15 فيفري 1955. وقد استقال هؤلاء بسبب القمع المسلط على السكان المسلمين واليساريين الفرنسيين الذين تعاطفوا مع الثورة الجزائرية. وفي يوم 26 سبتمبر 1955 أعلن 61 نائبا في المجلس الجزائري معارضتهم الشديدة لسياسة الإندماج التي تقوم على أساس القمع الأعمى والإعتقالات الجماعية وتطبيق سياسة بالية أكل عليها الدهر وشرب، ولم تعد ذات مصداقية، وطالبوا بالتخلي عن سياسة الإندماج وانتهاج سياسة إقامة دولة جزائرية، تشكل نظاما سياسيا فدراليا مع فرنسا. وكان جواب ” سوستيل ” هو تعليق أشغال دورة المجلس الجزائري، وتوقيف أعضائه عن العمل(2). ثم جاءت ضربة أخرى مؤلمة لسياسة الإندماج يوم 5 أكتوبر 1955 من رئيس بلدية الجزائر
” جاك شوفالي ” الذي أعلن في تصريح لجريدة ” لوموند ” أن سياسة الإندماج قد تجاوزها الوقت ولم تعد ملائمة للجزائر، وأنه يفضل سياسة جديدة تتمثل في إقامة دولة جزائرية في نظام فدرالي مع فرنسا. وكان هذا التصريح بمثابة طعنة قاتلة لسياسة
” سوستيل ” المنبوذة من طرف المسلمين واليساريين الفرنسيين في الجزائـر(1).
ثم إن سياسة الإندماج التي حاول سوستيل تطبيقها في الجزائر اصطدمت بأرض الواقع في فرنسا وفي الجزائر وتحولت إلى جثة هامدة لأن السياسيين في فرنسا رفضوا فكرة دمج الجزائر في فرنسا لسبب بسيط وهو أن الإندماج يعني إعطاء حق التمثيل السياسي في البرلمان الفرنسي لـ 8 ملايين مسلم، وهذا يعني خلق قوة سياسية إسلامية داخل السلطة التشريعية في فرنسا ذاتها، وفرض قيمهم ونفوذهم على الفرنسيين. ثم إن الأوروبيين في الجزائر وقفوا ضد سياسة الإندماج لأنها تعني المساواة بينهم وبين المسلمين وزوال الإمتيازات التي يتمتعون بها منذ أيام الإحتلال الفرنسي للجزائر. ولهذا وجدت حكومة ” أدقارفور ” نفسها غير قادرة على إتخاذ أي قرار سواء بانتهاج سياسة الإدماج التي تنعكس سلبا على التمثيل السياسي بفرنسا أو بانتهاج سياسة التعاون مع السكان المسلمين لأن ذلك يعني تصويت الأوروبيين في البرلمان ضد حكومته والإطاحة بها. وقد اعترف ” سوستيل ” حين قابل منديس فرانس ذات مرة في سنة 1955، وقال له : ” إنني أشعر بوهن في العزيمة… فالحكومة ضدي … وكل الجهات ضدي “(2).
لكن الشيء الذي لا جدال فيه أن الضربة القاضية لسياسة الإندماج جاءت من القائد المحنك زيغود يوسف يوم 20 أوت 1955 وذلك حين قام بتنظيم هجومات 20 أوت حيث قام بتوسيع رقعة الحرب واستعمال العنف والقتل ضد السكان الأوروبيين المدنيين وذلك إجابة على سياسة القمع المسلطة على المسلمين من طرف السلطات العسكرية في الجزائر. وبهذا الأسلوب الجديد للحرب أثبت زيغود يوسف للقادة العسكريين وخاصة الجنرال الذي جاء من المغرب الأقصى لتطبيق سياسة التهدئة في الأوراس واستعان برجاله المدربين في المغرب لاحتواء الثوار وعزلهم عن السكان وخنق التمرد أين ولد، بأن الثوار سيقتلون كل جزائري متعاون مع الفرنسيين وبأنهم لن يهاجموا الثكنات وإنما يهاجمون الأوربيين والخونة أينما وجدوا، وأنه يستحيل على الجيش الفرنسي أن يحمي كل أوربي وكل جزائري خائن يتعاون مع قوات الإحتلال. وقد اعترف أحد الضباط لقائد القوات الجوية الفرنسية في سنة 1958 الجنرال ” بيير كلوسترمان Pièrre Clostermann ” بأن شن هجومات جوية على القرى يوجع القلب. وبما أنه من الصعب الدفاع عن جميع القرى ” فإنني مجبر على تهديم المشتى أوالقرية التي لا أستطيع الدفاع عنها لأن واجبي الأول هو حماية الجنود الذين يوجدون تحت قيادتي “(1) ولعل الشي الذي أزعج الضباط الفرنسيين و” جاك سوستيل ” بصفة خاصة هو أن قادة الثورة الجزائرية لم يكتفوا بمعاقبة كل جزائري يتعاون مع قوات الإحتلال وبالتالي حرمان المسؤولين الفرنسيين من الحصول على معلومات ثمينة عن تحركات الثوار، بل عمدوا إلى تنظيم مقاطعة الأوروبيين وعدم شراء الدخان والسجائر، وبذلك حرموا الأوروبيين من الحصول على الأرباح الطائلة التي كانوا يحصلون عليها من التجارة في السجائر، وبيع الخمـور(2).
ولا يفوتنا أن نشير هنا كذلك إلى أن الإنتقاد الشديد الذي وجهه ” ألبير كامو ” إلى السلطات الفرنسية على إغتيال الأبرياء من المسلمين قد كان له صداه يوم
12 ديسمبر 1955. وقد كانت دعوة ” كامو ” إلى هدنة مدنية عبارة عن طعنة موجهة لسياسة فرنسا في الجزائر وخاصة أنه كان على علاقة وثيقة بالمناضلين عمار أوزقان ومحمد لبجاوي وهما من الشيوعيين المؤيدين للثورة وجبهة التحرير الوطني الجزائـري.
وباختصار، فإن ” سوستيل ” قد تراجع عن سياسة الإندماج بعد هجومات
20 أوت 1955 وانضم بصفة علنية إلى صف المستوطنين الأوروبيين وقوات الجيش الفرنسي حيث أصبح همه الوحيد هو إعادة الأمن إلى نصابه بأية صفة كانت، وفرض إرادة فرنسا على الثائرين الجزائريين وإخضاعهم بالقوة للسلطات الفرنسية. ولتحقيق هذا الهدف قام بتعزيز قوات الجيش في الجزائر إلى درجة أن جيش الإحتلال قد ارتفع عدده خلال سنة 1955 إلى 190.000 جندي وضابط بعد أن كان العدد في بداية السنة لا يتجاوز 8000 جندي وضابـط(3).
وفي 26 سبتمبر 1955، قام “سوستيل” بمحاولة يائسة لإنشاء مناطق محروسة من طرف الجنود لتجميع سكان الريف، أطلق عليهم إسم ” أقسام العمل المتخصص S.A.S ” وخصص لهذه المناطق الأمنية 1400 ضابط في المخابرات بقصد جمع المعلومات عن الثورة وعزل السكان عن الثائرين(1). وتتكون هذه المراكز الأمنية التي يبلغ عددها 400 مركز، من 1500 إلى 20.000 شخص، وتسعى في الظاهر إلى توفير التعليم والغذاء والعمل للسكان المعزولين عن الثوار. لكن هذا المشروع باء بالفشل لأن تلك المراكز كانت عبارة عن سجون لا يخرج منها أي شخص إلا برخصة من السلطات العسكرية. ولم يقبل بالبقاء فيها سوى الصبيان والنساء والشيوخ الذين ليس في إمكانهم الإلتحاق بالثوار في الجبـال.
وانهارت سياسة سوستيل في الجزائر يوم قرر ” إدقار فور ” إجراء إنتخابات تشريعية في بداية 1956. وقد عارض ” سوستيل ” هذا القرار لأن ذلك يعني إنتقام المسلمين من سياسته والتصويت على قائمة الوطنيين الذين يؤيدون جبهة التحرير الوطني. لكن الإنتخابات التي جرت يوم 2 جانفي 1956 بفرنسا جاءت بنتائج مخيبة لآمال ” إدقار فور” و”سوستيل “. فقد نجح الحزب الشيوعي الفرنسي في الحصول على 52 مقعد، ونجح حزب اليمين المتطرف الذي يقوده ” بيير بوجاد Pièrre Poujade ” بحصوله على 52 مقعد آخر في البرلمان الجديد. وبذلك استطاع الحزب الإشتراكي بقيادة ” غي مولي ” أن يشكل حكومة جديدة في شهر جانفي 1956 وانسحب
” إدقار فور ” وترك السلطة لـ ” غي مولي ” الذي كان أول قرار اتخذه هو عزل سوستيل من منصبه وتعيين الجنرال ” كاترو ” في منصب الحاكم العام الجزائري. وفي يوم 2 فيفري 1956 رحل ” سوستيل ” عن الجزائر وعاد إلى فرنسا، وترك الأوروبيين في الجزائر يتحسرون على ذهابه ونظموا له وداعا لا مثيل له في التاريخ بعد أن كانوا قد رفضوا استقباله يوم قدومه إلى الجزائر يوم 15 فيفـري 1955.
الجيش والأوروبيون يتمردون على حكومة فرنـسا
لقد أظهرت نتائج الإنتخابات التشريعية في فرنسا يوم 2 جانفي 1956 أن الرأي العام الفرنسي منقسم بين مؤيد لليمين الذي يرغب في إبقاء الجزائر فرنسية وإلحاق هزيمة بجيش التحرير الوطني الجزائري عن طريق منح سلطات مطلقة للجيش الفرنسي في الجزائر وعدم التفاوض مع جبهة التحرير الوطني الجزائري إلا بعد رفعها للعلم الأبيض، وبين مؤيدين للتفاوض مع الجزائريين وإنهاء الحرب الجزائرية المنهكة للإقتصاد الفرنسي. وبتعيين ” غي مولي ” رئيسا للحكومة الفرنسية في جانفي 1956 (وهو زعيم الحزب الإشتراكي) ساد فرنسا والجزائر شعور عام بأن غي مولي سوف ينتهج سياسة مصالحة ومفاهمة بين الأوروبيين والمسلمين في الجزائر، وخاصة أنه كان مساء من سياسة الإندماج التي انتهجها ” سوستيل ” واعتبرها فاشلة إلى درجة أنه قام بتنحيته بمجرد تعيينه على رئاسة الحكومة. وبالفعل، فقد بادر بتعيين الجنرال
” كاترو ” المعروف بنزاهته واعتداله، كحاكم عام للجزائر وذلك بقصد التخلص من كابوس الحرب الجزائرية التي وصفها في حملته الإنتخابية بأنها حرب ” غبية ” وبدون مخرج(1).
لكن بمجرد أن تجرأ على القيام بأول زيارة رسمية له للجزائر يوم 6 فبراير 1956، واجهه الأوروبيون بمظاهرات عدائية ولطخوا ثيابه ووجهه بالطماطم والبيض واعتدوا على حرمة فرنسا التي كان يمثلها وينطق باسمها، غير موقفه واستسلم للأروبيين الذين أجبروه على الإستجابة لمطالبهم رغم أنفه وأنف فرنسا التي يتزعم حكومتها. وقد وصف بعض الكتاب الفرنسيين يوم 6 فبراير 1956 بأنه يعتبر يوم استسلام وانقلاب خطير في تاريخ حرب الجزائر وفرنسا(2). فبسرعة مذهلة قام بالتخلي عن فكرة تعيين ” كاترو ” الذي يعتبر شخصية مرموقة في فرنسا، وطلب من موظف بسيط يشتغل في الميدان النقابي وتسلق إلى الحزب الإشتراكي، أن يكون الوزير الجديد المقيم بالجزائر، وهو ” روبير لاكوست “. وهذا الأخير قام بجلب مجموعة من أصدقائه المقربين إليه وأعطاهم مناصب راقية أو سامية في الجزائر. وفي وقت قصير، صار ” لاكوست ” هو المتكلم باسم الأوروبيين في الجزائر والمدافع عن مصالحهم إلى درجة أنه قام بطرد اليساريين الفرنسيين الذين يتعاطفون مع الثورة الجزائريـة(1).
وباختصار شديد، فإن حكومة ” غي مولي ” الإشتراكية قد انقسمت على نفسها منذ البداية حيث كان هناك تيار قوي في الحكومة يطالب بتعزيز قوات الجيش وسحق المتمردين ويتكون من : ” لاكوست، بورجيس مونوري، ماكس لوجون ” ثم انضم إلى هذا الفريق “غي مولي ” بعد زيارة الإستسلام إلى الجزائر. وهناك فريق آخر صغير، كان يطالب بالحوار والمفاوضات مع الثوار ويتكون من ” منديس فرانس وقاسطون ديفير “. وفي يوم 23 ماي 1956 إستقال ” منديس فرانس ” من الحكومة بعد أن تأكد أن زمام الأمور قد فلتت من يد ” غي مولي ” وأن دعاة الحرب قد استولوا على السلطـة.
ولعل الشيء الذي زاد الطين بلة في عام 1956، أن أزمة السلطة داخل الحكومة قد دفعت بالجيش أن يتدخل في الشؤون السياسية ويعمل كوسيط بين السلطات السياسية في باريس وبين قادة الجالية الأوروبية في الجزائر الذين كانوا يهددون بالإنفصال عن فرنسا عن طريق الممثلين الأوروبيين في البرلمان الفرنسي. وهكذا وجد قادة الجيش أنفسهم يشتغلون بالسياسة ويلعبون دور الحكم والوسيط بين الحكومة المنقسمة على نفسها وبين الأوروبيين المتمردين عليها في الجزائر. وبصريح العبارة، فإن الجيش قد أصبح من الناحية الفعلية هو صاحب السلطة عندما أصبحت الحكومة غير قادرة على المحافظة على الوحدة الوطنية، وهو الذي يحميها من ضربات الثوار ويتوسط لدى الأوروبيين لكي لا يثوروا عليها ويطيحوا بـها(2).
واتضحت سياسة ” غي مولي ” الموالية للجيش والأوروبيين في يوم
6 فيفري 1956 حين ألقى خطابا في الجزائر العاصمة وطمأنهم فيه وقال لهم على الخصوص : ” إن الحكومة ستحارب وأن فرنسا ستناضل من أجل بقائها في الجزائر وأنها ستبقى هناك. إن الجزائر لا مستقبل لها بدون فرنسا “. ولم يكتفي ” غي مولي ” بالحرب في الجزائر، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير إذ أنه قرر في خريف 1956 أن ينقل حربه الجزائرية إلى مصر ” وأن يلحق هزيمة بجمال عبد الناصر الذي سمح للمناضلين الجزائريين أن يستعملوا ” صوت العرب ” وزودهم بالسلاح الضروري لتحرير وطنهم من هيمنة فرنسا والأوروبيين المتواجدين بالجزائـر(1).
ونتيجة لهذه السياسة غير الحازمة وتخوف قادة الجيش من خضوع فرنسا للضغوطات الدولية وخاصة الأمم المتحدة التي أصبحت تحرج فرنسا، قرر القادة العسكريون أن يتدخلوا في السياسة وينقذوا الجزائر ويحققوا انتصارا على جيش التحرير الوطني الجزائري. وقد كشف عن هذا الإتجاه الجديد جنرال في الجيش الفرنسي في عام 1956 حيث أكد أن الضباط كرهوا ولم تعد لديهم رغبة في رفع وتنكيس العلم الفرنسي طوال حياتهم، مرة في المغرب… ومرة أخرى في
تونس… وبالأمس في الهند الصينية… واليوم في الجزائر. وأضاف الجنرال قائلا للصحفي الذي استجوبه : ” إن رجال السياسة قد عبثوا في الهند الصينية… وفي المغرب… ولن يستطعون أن يعبثوا بنا في الجزائر. إنني أقسم بالله أن ذلك لن يحدث ويمكنك أن تطلع باريس على ذلك “(2). وكان لهذا الإنذار صداه حيث فهم ” غي مولي ” و” روبير لاكوست ” بأن الجيش لن يقبل بالهزيمة في آخر مستعمرة فرنسية بشمال إفريقيا وأن الجزائر تعتبر فرصة ثمينة لمحو عار الهزائم السابقة التي لحقت بالجيش الفرنسي. ولهذا استجاب ” لاكوست ” إلى طلب الجيش ومنح السلطة المطلقة للجنرال ” ماسـو “(3).
وبمقتضى مرسوم صدر في يوم 13 أفريل 1956، قرر وزير الدفاع
” بورجيس مونوري ” مضاعفة عدد القوات الفرنسية التي تشن الحرب على الثوار الجزائريين. فزيادة عن 200.000 جندي متواجد بالجزائر قام وزير الدفاع ونائبه
” ماكس لوجون ” المسؤول عن الشؤون العسكرية بالجزائر بإرسال 160.000 جندي جديد، ثم إستدعاء رجال الإحتياط، وتمديد الخدمة العسكرية بحيث بلغ عدد القوات الفرنسية المحاربة في الجزائر 450.000 جندي وضابط في نهاية 1956(1). كما قامت وزارة الدفاع الفرنسية بشراء وجلب أسلحة حديثة من الحلف الأطلسي كلفت الدولة الفرنسية أموالا طائلة إلى درجة أن وزارة المالية إضطرت للإقتراض من الداخل والخارج لتمويل الحرب الباهظة الثمن. وباسم هذا الجناح المؤيد للحرب والتجنيد العام من أجل سحق الثورة الجزائرية بسرعة فائقة، أعلن ” لاكوست ” أن الأمن والهدو سيعودان للجزائر في صيـف 1956(2).
وفي يوم 7 جانفي 1957 وافق ” لاكوست ” على إمضاء أمر يسمح للجنرال
” ماسو ” أن يتخلى والي الجزائر العاصمة عن جميع صلاحيات الشرطة إلى رجال الجيش وذلك بقصد ربح معركة الجزائر العاصمة والتغلب على جبهة التحرير التي فتحت جبهة جديدة مع الجيش حيث صعدت الحرب والمواجهة عن طريق القيام بالعمليات الفدائية في المدن الكبرى. وكان المسؤول رقم واحد عن هذه العمليات في الجزائر العاصمة هو العربي بن مهيدي، الذي اعتمد على ياسف سعدي وجميلة بوحيرد وحسيبة بن بوعلي وغيرهم من الفدائيين والفدائيات الذين أدخلوا الرعب في نفوس الأوروبيين بالجزائر العاصمـة.
وكشفت قيادة الجيش الفرنسي عن عضلاتها القوية في شهر أكتوبر من عام 1956 وأثبتت لـ ” غي مولي ” و” لاكوست ” أن المخابرات العسكرية هي التي تقرر بمفردها ما تراه مناسبا وذلك بدون استشارة رئيس الحكومة أو الوزير المقيم بالجزائر. فبعد أن ظهرت بعض الشائعات عن وجود اتصالات بين الحكومة الفرنسية من جهة، وجبهة التحرير الوطني الجزائري والحكومة المغربية والحكومة التونسية من جهة ثانية، واتفقت هذه الأطراف على عقد مؤتمر قمة مغاربي في أكتوبر 1956 بتونس، قامت المخابرات العسكرية الفرنسية بقرصنة جوية واختطفت بعض زعماء جبهة التحرير الوطني الجزائري وذلك بإعطاء الأوامر باسم وزارة الدفاع الفرنسية إلى قائد الطائرة المغربية بالهبوط في مطار الجزائر بدلا من النزول في مطار تونس. واعتقد رجال المخابرات العسكرية الفرنسية أنه بإلقاء القبض على بعض زعماء جبهة التحرير الوطني الجزائري أمثال : أحمد بن بلة ومحمد خيضر، حسين آيت أحمد، ومحمد بوضياف، قد وضعوا حدا للثورة الجزائرية. وقد اعترف ” لاكوست ” و” غي مولي ” أنهما لم يكونا على علم بخطة القرصنة الجوية وإجبار الطائرة المغربية على الهبوط في مطار الجزائر، بعد الأوامر التي أعطاها ” ماكس لوجون ” لقائد الطائرة الفرنسي
” جيليي ” باسم وزارة الدفاع وبدون إستشارة رئيس الحكومة. واعترف
“غي مولي ” بأنه غضب عندما سمع بخبر إلقاء القبض على زعماء الجبهة وأنه لم يستطع أن يستنكر هذه القرصنة لأن الحكومة كانت تسقط في تلك الليلة. أما
” لاكوست ” فقال أن الإستنكار يعني إنفجار الجزائر العاصمة(1).
بالإضافة إلى تصميم القادة العسكريين على تقوية الجيش وراتفاع عدد القوات المسلحة في الجزائر من 80.000 في جانفي 1955 إلى 325.000 في شهر جويلية 1956 ثم إلى 400.000 في شهر ديسمبر من تلك السنة(2)، فقد أقدمت حكومة
” غي مولي ” في شهر أوت 1956 على إقامة الأسلاك الشائكة المكهربة على الحدود المغربية – الجزائرية وذلك بقصد منع الثوار من جلب السلاح من الخارج. كما فعلت وزارة الدفاع الفرنسية نفس الشيء بالنسبة للحدود التونسية – الجزائرية، إبتداء من صيف 1957 والذي أصبح يعرف باسم ” خط موريس ” الذي كان وزير للدفاع في
سنة 1957. وتسببت هذه الخطوط الكهربائية على حدود الجزائر مع المغرب وتونس، في خسائر بشرية هامة في صفوف أعضاء جيش التحرير، قال عنها عمر أوعمران رئيس مصلحة التموين بالسلاح في جيش التحرير الوطني الجزائري بأنها بلغت
6.000 شهيد خلال شهور معدودة. لكن هذه الأسلاك الشائكة والمكلفة لوزارة الدفاع الفرنسية لم ينتج عنها خنق الثورة الجزائرية والقضاء عليها، مثلما خطط لذلك جنرالات فرنسـا.
وبالنسبة للإصلاحات التي إقترحتها حكومة ” غي مولي ” على الثوار الجزائريين فإنها كانت غامضة وغير جدية. فقد اعتمد على وزيره المكلف بالشؤون الجزائرية ” روبير لاكوست ” الذي أصبح يتمتع بصلاحيات كبيرة إذا نحن قارناه بآخر حاكم عام للجزائر ” جاء سوستيل “. وحسب النصوص التشريعية لـ ” السلطات الخاصة ” التي أقرها البرلمان الفرنسي يوم 12 مارس 1956 بـ 455 صوت ضد 76، فقد أصبح من حق حكومة ” غي مولي ” أن تسير الجزائر بمراسيم حكومية وذلك في ميادين إستصلاح الأراضي، التوسع الإقتصادي، والقروض الزراعية، التوظيف، الرواتب، التصنيع وإعادة تنظيم هياكل المصالح الحكومية. كما وافق البرلمان على تطبيق القوانين الجاري بها العمل في فرنسا على الجزائر وتعديلها إذا إقتضى الأمر(1).
وفي إطار هذه القوانين قررت حكومة ” غي مولي ” إلغاء المجلس الجزائري يوم 11 أفريل 1956 بعد إستقالة معظم النواب الجزائريين به وإلتحاق البعض منهم بالثورة الجزائرية كما قررت حكومة ” غي مولي ” أن تنتهج سياسة جديدة في الجزائر تقوم على ثلاثة محاور رئيسية هي :
1) وقف إطلاق النار.
2) إجراء إنتخابات في نظام موحد للمسلمين والأوروبيين في مرحلة لاحقة لوقف إطلاق النار.
3) إجراء مفاوضات مع المنتخبين الجدد لتجديد نظام الحكم في الجزائر(2).
وكان جواب الأوروبيين في الجزائر هو الرفض القاطع لأي نظام إنتخابي يقوم على أساس المساواة مع المسلمين لأن ذلك يعني سيطرة أبناء البلد الأصليين على جميع المؤسسات المنتخبة. وبالنسبة لجبهة التحرير فقد رفضت مشروع ” غي مولي ” وطالبت أن تعترف حكومة ” غي مولي ” بالحكومة الجزائرية قبل وقف إطلاق النار، وأن تقبل بمبدأ أن الحكومة الجزائرية المعترف بها هي التي تنظم الإنتخابات لتقرير مصير الشعب الجزائري في المستقبل(3).
وبذلك فشل مشروع الإصلاحات السياسية الذي اقترحته حكومة ” غي مولي ” الإشتراكية لأن الأوروبيين رفضوه والمسلمين اعتبروه لاغيا لأنه لا يستجيب لطموحاتهم ورغبتهم في الحصول على الإستقلال التام لبلدهم.
وقد اشتهرت سياسة الإشتراكيين الإصلاحية في الجزائر بالقوانين أو المراسيم التنفيذية المعروفة بإسم ” La Loi Cadre ” وحسب هذا القانون الذي دامت مناقشته في البرلمان الفرنسي شهرا، فإن ” لاكوست ” كان يدافع عن فكرة إقامة نظام سياسي جديد في الجزائر يكون كالتالي :
1- نظام إنتخابي موحد يتضمن حماية حقوق الأقليات.
2- قيام فرنسا بدور الوسيط أو الحكم بين الأوروبيين والمسلمين.
3- تقسيم الجزائر إلى عدة مناطق تتمتع بالحكم المحلي، وكلها تخضع لمجلس فدرالي وسلطة تنفيذية تشتغل تحت سيادة فرنسا التي تبقى مسؤولة عن قضايا الأمن والدفاع والدبلوماسية(1).
وقد تحولت هذه الإقتراحات لإنشاء بلقان جديد وتقسيمات سياسية للجزائر إلى قوانين مائعة وخالية من أي محتوى حقيقي للقانون المقترح في البداية وذلك بسبب معارضة ” جاك سوستيل ” و” أندري موريس ” وزير الدفاع في حكومة ” بورجيس منوري ” و” بيير بوجاد ” زعيم حزب اليمين المتطرف الذي كان يمثل التجار. وبعد تغيير محتوى قوانين الإصلاحات السياسية تمكنت حكومة ” لاغايار ” يوم 29 نوفمبر 1957 من الحصول على موافقة البرلمان الفرنسي عليها بـ 269 صوت ضد 200 صوت، وتم نشرها في الجريدة الرسمية بتاريخ 5 فبراير 1958. لكنها تحولت في الحقيقة من ” Loi Cadre ” إلى ” Loi Cadavre “(2). وحسب آراء رجال الخبراء في الشؤون السياسية الفرنسية، فإن هذا القانون الخاص بالإصلاحات السياسية الذي قدمه ” لاكوست ” قد جاء لترضية الأحزاب السياسية وليس لحل مشكل الحرب في الجزائر، لأن الحكومة الفرنسية قد إلتجأت إلى استعمال القوة للقضاء على الثورة الجزائرية بأية طريقة كانت(1).
ولعل الشيء العجيب والغريب أن رئيس الحكومة الفرنسية، من فيفري 1956 إلى غاية جوان 1957 ” غي مولي “، قد حاول أن ينتهج سياسة العنف ضد الثوار الجزائريين والتفاوض معهم في آن واحد. وهذا الموقف يعكس الإنقسام الموجود في الحزب الإشتراكي الفرنسي حيث تبين في مؤتمر الحزب المنعقد بمدينة ” ليل ” الفرنسية في الفترة الممتدة من 29 جوان إلى غاية 3 جويلية 1956، أن الجناح اليساري في الحزب كان يطالب بإنهاء الحرب في الجزائر عن طريق التفاوض مع جبهة التحرير الوطني الجزائري، في حين كان الجناح اليميني يطالب بإستعمال القمع والإضطهاد للقضاء على الثورة الجزائرية. واستجابة لرغبات اليساريين في الحزب الإشتراكي قام ” غي مولي ” بإرسال وفد من أعضاء حزبه إلى مدينة روما لإجراء اتصالات سرية مع وفد من جبهة التحرير الوطني الجزائري.
وقد مثل فرنسا في هذا اللقاء الذي جرى بمدينة روما في الفترة الممتدة
من 1 إلى غاية 5 سبتمبر 1956 ” بيير كوما Pierre Commin ” رئيس الوفد، وزميله ” بيير هيربو Pierre Herbaut ” وكلاهما نائب رئيس الحزب الإشتراكي الفرنسي. أما الوفد الجزائري فقد كان يقوده محمد خيضر ومحمد يزيد، وعبد الرحمن كيوان. وقد اقترح الوفد الفرنسي على الوفد الجزائري أن تحصل الجزائر على استقلال داخلي، وتكون لها حكومة ومجلس نيابي لتسيير الشؤون الجزائرية. لكن وفد جبهة التحرير الوطني الجزائري أجاب بأن أي قانون يتعلق بالجزائر ينبغي أن يكون هو نتيجة مفاوضات بين جبهة التحرير وفرنسا. وطالب الوفد الجزائري من الوفد الفرنسي تقديم ضمانات سياسية للجزائريين مقابل قبولهم لوقف إطلاق النار. واقترح الجزائريون على فرنسا إنشاء حكومة إنتقالية في الجزائر تشرف على تسيير البلاد وتنظيم الإنتخابات الخاصة بالإستفتاء. وافترق الوفدان بقصد مشاورة كبار المسؤولين في قيادة كل بلد، على أن يلتقيا من جديد يوم 22 سبتمبر 1956 بمدينة بلغراد عاصمة يوغوسلافيا. وفي اجتماع بلغراد تغيرت تشكيلة الوفد الجزائري حيث أصبح يقوده الدكتور الأمين دباغين ويشارك فيه محمد خيضر. أما الوفد الفرنسي فكان يقوده دائما ” بيير هيربو ” نائب رئيس الحزب الإشتراكي الفرنسي. وفي هذه المرة لم تدم المفاوضات طويلا حيث أدرك أعضاء الوفد الجزائري أن ” غي مولي ” يستعمل هذه الإتصالات كدعاية لتضليل الرأي العام. وفي واقع الأمر، كان مصمما على إنتهاج سياسة تقوم على العنف وإستعمال القوة للقضاء على الثورة الجزائرية. ولذلك إقترح الوفد الجزائري على الوفد الفرنسي، التفاوض بشأن إستقلال الجزائر أو التوقف عن هذه الإتصالات والمناورات المضللة للرأي العام في داخل فرنسا وخارجها(1).
وبإختصار، فإن حكومة ” غي مولي ” قد اعتمدت على تأييد الأحزاب اليمينية لكي تبقى في السلطة وتحصل على الثقة في البرلمان. وقد حاول قادة الحزب الإشتراكي أن يحافظوا على التوازن بين سلطة الجيش والأوروبيين في الجزائر وسلطة باريس في فرنسا وذلك بقصد تجنب الحرب الأهلية وقيام صراع دموي بين المؤيدين لبقاء الجزائر فرنسية والمعارضين للحرب في الجزائر. لكن في يوم 21 ماي 1957 سقطت حكومة ” غي مولي ” بـ 250 ضد 213 صوت وذلك نتيجة لتخلي الأحزاب اليمينة عن حكومة الإشتراكيين بدعوى أن حكومة ” غي مولي ” تنتهج سياسة مالية منهكة للإقتصاد الفرنسي الذي كان يعاني من التكاليف الباهظة لحرب الجزائر. وكما هو معلوم، فإن الحكومة الفرنسية إضطرت إلى رفع أسعار البترول والطوابع البريدية وفرض ضرائب جديدة على الشعب وذلك لتغطية تكاليف الحرب الجزائرية التي بلغت 324 مليار فرنك قديم في ميزانية 1956(2). وبعبارة أخرى، فإن اليمينيين كانوا يصرون على مواصلة الحرب في الجزائر وقمع السكان المسلمين لكن بدون دفع تكاليف تلك الحرب وتغطية العجز الموجود في الميزانية والذي كان يقدر بـ 320 مليار فرنك فرنسي قديم.
إنهيار نظام الحكم في فرنسا بسبب حرب الجزائر
بعد إنهيار حكومة ” غي مولي ” جاءت حكومة ” بورجيس مونوري ” التي هي عبارة عن استمرارية للحكومة السابقة. والتغيير الأساسي الذي حصل هو إنتقال
” بورجيس مونوري ” من وزارة الدفاع إلى رئاسة الحكومة وتعيين ” أندري موريس ” وزيرا للدفاع. أما ” لاكوست ” فقد حافظ على منصبه كوزير مكلف بالشؤون الجزائرية في الحكومة الفرنسية. وكما هو معروف، فإن هذه الشخصيات الثلاثة هي التي تمثل الإتجاهات المؤيدة للأوروبيين في الجزائر، وهي التي كانت تتزعم فكرة بقاء الجزائر فرنسية. ومنذ البداية إلتزمت حكومة ” بورجيس مونوري ” بعدم التفاوض مع جبهة التحرير، وتعهدت بالقضاء على الثوار الذين يهددون وحدة فرنسا وفصل الجزائر عنها. كما قررت حكومة ” مونوري ” تدعيم عملية وضع الأسلاك على الحدود وعزل الثوار في الداخل عن قادتهم في الخارج. ووعدت هذه الحكومة اليمينية الأوروبيين في لجزائر بعدم قيام سلطة تشريعية تكون فيها الأغلبية للمسلمين(1). وبناءا على هذه التعهدات، نالت حكومة ” بورجيس مونوري ” ثقة البرلمان الفرنسي يوم 12 جوان 1957، 240 ضد 194 صوت(2).
لكن هذه الحكومة اليمينية التي كانت تعمل بقصد إدخال إصلاحات سياسية تستجيب لرغبات الأوروبيين، سقطت يوم 30 سبتمبر 1957 بمجرد أنها اقترحت على الأوروبيين تغيير نظام الحكم في الجزائر وإقامة برلمان محلي في الجزائر يعمل في إطار السيادة الفرنسية وذلك بأغلبية 279 ضد 253 صوت. وقد ساهم في الإطاحة بحكومة ” السيد جاك سوستيل ” النائب الديغولي في البرلمان الفرنسي الذي اعتبر قوانين الإصلاح السياسي في الجزائر ” La Loi Cadre ” مجحفة بحقوق الأوروبيين وتمنح للمسلمين حق المساواة في التصويت والتمثيل في البرلمان المحلي المقترح على الجزائر. كما أن الشيوعيين صوتوا ضد الحكومة لأن الإصلاحات السياسية تافهة وبالية ولا تستجيب لرغبات الثوار الجزائريين. ويعتبر بعض الكتاب هذا التصويت ضد الإصلاحات السياسية في الجزائر بمثابة الفرصة الأخيرة لحل المشكل الجزائري في إطار مؤسسات الدولة الفرنسية(1).
ونتيجة لوقوف الأوروبيين في الجزائر ضد حكومة باريس والقيام بمظاهرات صاخبة ضدها بسبب الإصلاحات السياسية المقترحة للجزائر، وسقوط الحكومة يوم 30 سبتمبر 1957، بقيت فرنسا بدون حكومة لمدة 35 يوم. وفي نهاية الأمر، تقرر أن تشكل آخر حكومة في الجمهورية الفرنسية الرابعة يوم 5 نوفمبر 1957 بقيادة وزير المالية في حكومة ” بورجيس مونوري “. وفي هذا الوقت بالذات، أي وقت إزدياد نفوذ قادة الجيش، وقادة الأوروبيين في الجزائر، حاول قادة الأحزاب السياسية التفاهم فيما بينهم وتشكيل حكومة جديدة برئاسة ” فليكس غايار ” وإعطائها صلاحيات واسعة للقيام بأعمال سياسة تحقق مطامح الأوروبيين والقوة الثالثة في الجزائر، أي الموالين لفرنسا. وهكذا نالت حكومة ” لاغايار ” ثقة النواب الفرنسيين. بـ 337 ضد 173 صوتا(2). وفي يوم 29 نوفمبر 1957، وافق أعضاء البرلمان الفرنسي على قانون الإصلاحات السياسية في الجزائر بأغلبية 269 ضد 200 صوتا. ولكن هذا القانون لم يطبق ولم يكن هناك أي إنسان مقتنع بمحتواه. فالأوروبيون حقدوا على ” روبير لاكوست ” وتحركوا للعمل ضده والإطاحة بالجمهورية الفرنسية الرابعة لأن القانون ” La Loi Cadre ” سمح للمسلمين أن يحصلوا على المساواة في التمثيل النيابي مع الأوروبيين، وقادة جبهة التحرير رفضوه لأنه ينص على بقاء الجزائر خاضعة لفرنسا ولا يتطرق إلى قضية إستقلال البلاد وإنفصالها عن فرنسا.
لكن حكومة ” لاغايار ” في واقع الأمر، لم تحقد عليها الجالية الأوروبية في الجزائر فقط، بل واجهت تمرد قادة الجيش الذين أرادوا أن يربحوا الحرب عن طريق التوسع فيها إلى تونس وإجبار دول المغرب العربي على طرد الثوار الجزائريين من الحدود أو التعرض لهجومات متوالية من القوات الفرنسية على أراضي تونس والمغرب. وبدون الحصول على موافقة الحكومة الفرنسية، قام الجيش الفرنسي يوم 8 فيفري 1958 بشن هجوم جوي على ساقية سيدي يوسف التونسية نتج عنه وفاة ما لا يقل عن 75 شخص وإصابة 100 شخص آخر بجروح. وكان القصد من هذا الهجوم على المدنيين الجزائريين والتونسيين في داخل تونس هو تخويف تونس وإنذارها بالدخول إلى أراضيها ومتابعة الثوار الجزائريين الذين يلجؤون إلى هذا البلد الشقيق. وفي يوم 11 فيفري 1958 أعلن ” كريستيان بينو ” وزير خارجية فرنسا أن شن هجوم على أراضي تونس من طرف الجيش الفرنسي يعتبر غلطة مؤسفة وأن الحكومة الفرنسية لم توافق عليها(1). لكن خوفا من إستيلاء الجيش على السلطة وعزل الحكومة، قبل ” لاغايار ” تحمل مسؤولية الإعتداء على تونس. ونتيجة لهذا الإعتداء على بلاده، قام الرئيس الحبيب بورقيبة، رئيس الجمهورية التونسية بطلب السلاح من الولايات المتحدة وبريطانيا للدفاع عن سيادة بلاده أو التوجه إلى الكتلة الإشتراكية للحصول على السلاح من هناك. وكان هدفه الأساسي هو تدخل الولايات المتحدة وبريطانيا والأمم المتحدة بقصد تدويل القضية الجزائرية وإنهاء الحرب التي تدور رحاها بهذا البلد المجاور لتونس. وبالفعل، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا يوم 17 فيفري 1958، عن استعدادهما للتوسط بين تونس وفرنسا وإنهاء الخلافات القائمة بين البلدين، وتزويد تونس بالسلاح الضروري للدفاع عن سيادتها. واغتاض النواب الفرنسيون وقادة الجيش الفرنسي والأوروبيون في الجزائر من هذه الوساطة الإنجلوساكسونية واتهموا ” لاغايار ” بالضعف وبأنه عميل للأمريكيين. وتساءل ” جاك سوستيل ” النائب الديغولي الذي يمثل مدينة ” ليون ” الفرنسية إذا كان القرار الفرنسي يصنع في باريس أم في واشنطن. وكانت النتيجة هي سقوط حكومة ” لاغايار ” يوم 15 أفريل 1958 بـ 321 ضد 255 صوت(2). وكانت هذه الحكومة هي آخر حكومة فرنسية في عهد الجمهورية الرابعة حيث فشل عدة قادة في تشكيل حكومة جديدة، منهم ” بيير فليملان ” الذي قام بآخر محاولة يوم 8 ماي 1958، ولكنه لم ينجح في تقديم أعضاء حكومته للبرلمان الفرنسي يوم 13 ماي 1958، حيث أن ” لاكوست ” قد هرب من الجزائر إلى فرنسا يوم 10 ماي 1958 بعد أن قرر حزبه (الإشتراكي) عدم المشاركة في حكومة ” فليملان ” المزمع تشكيلها، وأصبحت الجزائر تعيش في فراغ سياسي بعد إنسحاب ” لاكوست ” من الجزائر. وبسرعة فائقة تطورت الأحداث في الجزائر، وتشكلت لجنة الأمن الوطني من الأوروبيين المناهضين لأية حكومة يرأسها ” فليملان”. وتزعم هذه اللجنة المتمردة على الحكومة الفرنسية الجنرال ” ماسو ” الذي بعث ببرقية مستعجلة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية ” روني كوتي ” يطلب فيها تشكيل لجنة للأمن العمومي في باريس بدلا من تشكيل حكومة فرنسية. ثم تسرب الديغوليون إلى لجنة الخلاص الوطني في الجزائر وأقنعوا قادة الجيش بإستدعاء ” ديغول ” إلى الحكم لكي يقود البلاد من الفوضى. وهكذا أصبح في يوم 14 ماي 1958 حكومة في باريس يرأسها ” فليملان ” بعد أن نال ثقة البرلمان بـ 462 ضد 112 صوت يوم 16 ماي 1958، وسلطة أخرى في الجزائر يتزعمها الجنرال ” ماسو “. وفي 17 ماي 1958 وصل ” سوستيل ” إلى الجزائر وبدأ يخطط بالتعاون مع الجنرال ” سالان ” لعودة ديغول إلى الحكم بالقوة وعدم التفاوض مع الحكومة بقصد إقناع رئيسها بالتنازل عن السلطة لديغول. وتوسط ” غي مولي ” بين الحكومة والجنرال ” ديغول ” بحيث لا يقوم الجيش بهجوم مفاجئ على فرنسا ويستولي على السلطة بالقوة. وفي مؤتمر صحفي للجنرال ” ديغول ” يوم 19 ماي 1958 أعلن هذا الأخير عن تشكراته للجيش الذي حافظ على الأمن في الجزائر واستعداده لإنقاذ فرنسا من الأزمة التي تتخبط فيها إذا كان الشعب يرغب في ذلك وأعطيت له صلاحيات خاصة. وفي يوم 23 ماي استولى العسكريون على السلطة في جزيرة ” كوريسكا ” وهددوا الحكومة بالإستيلاء على فرنسا ذاتها. وفي هذه الحالة، تأكد أعضاء الحكومة أن تسليم السلطة إلى الجنرال ديغول هو المخرج الوحيد للأزمة لأن العسكريين سيستولون على السلطة بالقوة يوم 27/05/1958 إذا لم يتم الحسم في هذه العملية بسرعة. ولهذا دخلوا في مفاوضات سرية مع ديغول بقصد إقناعه أن يستنكر فكرة العنف واستعمال القوة من طرف المسؤولين في الجيش الذين تمردوا على حكومتهم. ولكنه رفض. وعندما تأكد الجنرال أن العسكريين قد قرروا الإطاحة بالحكومة الفرنسية بالقوة يوم 28 ماي 1958، آنذاك أصدر بيانا قال فيه بأنه بدأ يجري الإتصالات لتكوين حكومة جمهورية، وأنه لا يوافق على استعمال القوة الذي ينتج عنه عواقب خطيرة، وبأنه يتوقع من وحدات الجيش في الجزائر أن تبقى تعمل تحت أوامر قادتها الذين يثق فيهم وسيتصل بهم عن قريب. واستاء ” فليملان ” ومعه أعضاء البرلمان من بيان ديغول الذي أعلن فيه أنه بدأ إجراء الإتصالات لتشكيل الحكومة مع أن ” فليملان ” لم يعده بالتخلي عن السلطة لصالح
” ديغول “. وفي اجتماع قصير لمجلس الوزراء برئاسة ” فليملان ” يوم 28 ماي 1958، اعترف ” فليملان ” بأنه من المستحيل تجنب حرب أهلية وأن الحل الوحيد هو تسليم السلطة إلى الجنرال ديغول بطريقة قانونية مثلما يطالب ديغول. وهكذا قدم إلى رئيس الجمهورية استقالة حكومته، مع بقائها في الحكم إلى غاية الإتفاق على تسليم زمام القيادة الشرعية إلى ” ديغول “. وفي الحين قبل ” روني كوتي ” الإستقالة. ولكنه تسلم أيضا برقية من الجزائر العاصمة أخبره فيها قادة الجيش بأنهم أجلوا هجومهم على باريس إلى غاية يوم 30 ماي 1958، وأن تسليم السلطة إلى ديغول هو الحل الوحيد المقبول للعسكريين. وبالفعل فقد وجد رئيس الجمهورية الرابعة ” روني كوتي ” نفسه مضطرا للإتصال في نفس اليوم برؤساء مؤسسات الدولة من سلطة تشريعية ومجلس الجمهورية وطلب منهم التفاوض مع ” ديغول ” بشأن تحويل السلطة إليه بطريقة شرعية. وعندما ارتفعت حدة النقاش بين المسؤولين في مؤسسات الدولة وخاصة
” لوتروكي ” رئيس البرلمان الذي رفض إعطاء صلاحيات خاصة للجنرال ” ديغول “، أطلعهم ” روني كوتي ” بأن عليهم الإختيار بين تعيين الجنرال ديغول كرئيس للحكومة وإعطائه صلاحيات خاصة، وبين استقالته من رئاسة الجمهورية. وأبدى مخاوفه من إندلاع حرب أهلية وقال بأنه لم يعد هناك مجال للنقاش.
وفي نهاية الأمر تدخل كوتي وطلب من ديغول أن يتولى رئاسة الحكومة بشرط أن يأتي إلى البرلمان ويقف أمام النواب ويوافقون على تعيينه رئيسا للحكومة، وتتأجل اجتماعات البرلمان لمدة 6 شهور، يتولى خلالها رئيس الحكومة سلطات خاصة لتسيير شؤون البلاد. وفي يوم فاتح يونيو (جوان) 1958 وافق البرلمان الفرنسي بأغلبية 329 ضد 224 صوت على تعيين ديغول رئيسا للحكومة الفرنسية وزعيما يجسد وحدة الأمة الفرنسية(1). وفي اليوم التالي، أي 2 يونية (جوان) 1958، وافق البرلمان الفرنسي بأغلبية 350 ضد 163 صوت على إلغاء وجوده، وإعطاء صلاحيات خاصة لرئيس الحكومة لكي يسير شؤون الدولة بدون أن يحاسبه البرلمان أو يناقشه فيما يفعل. وبذلك خضعت حكومة باريس لتهديدات الجيش بالتدخل في فرنسا وتخلت عن السلطة لقيادة الأوروبيين في الجزائر ولقيادة الديغوليين الذين شكلوا خلية عسكرية في الجيش منذ مارس 1958 بقيادة وزير الدفاع ووضعوا خطة لنقل السلطة إلى ” ديغول “.
ونستخلص من ما تقدم أن قادة الجيش قد قاموا بانقلاب وأطاحوا بالجمهورية الرابعة وذلك بالتعاون مع المتمردين الأوروبيين في الجزائر والديغوليين الذين ساهموا في تقويض نظام الحكم في فرنسا. وكان هدف الجالية الأوروبية من هذا الإنقلاب هو فرض نظام جديد يكفل لها الإحتفاظ بالمزايا التي تتمتع بها وأيجاد حكومة قوية تستطيع تحقيق غاية الأوروبيين، في حين كان هدف الديغوليين هو إعادة زعيمهم إلى الحكم. أما الجيش فقد كان يسعى إلى إعادة مجده وشرفه(2). وهكذا شعر الجيش بأنه قد عثر أخيرا على القائد العسكري الذي لن يطأطئ رأسه أمام مطالب جيش التحرير الجزائري. ويساعده في النهاية على إسكات المعارضين الفرنسيين لسياسة القمع في الجزائر. وبالنسبة للأحزاب السياسية، فإن معظم القادة السياسيين قد شعروا بالإرتياح لمجيء ” ديغول ” إذ أنه سيتمكن من أن يضع حدا للحرب الجزائرية، ثم يعود إلى الإعتزال في مسقط رأسه ويترك المجال من جديد مفتوحا للأحزاب السياسية التي ستتربع على كرسي الحكم من جديد. لكن الجنرال ” ديغول “، كما سيظهر فيما بعد خيب آمال المتنافسين على السلطة وسار في طريقه الخاص به وهو تكوين قوة ديغولية لتصفي حسابات المغالطين.(3)
(*) دراسة منشورة بمجلة العلوم السياسية والعلاقات الدولية، 1994، ص 5-25.
(1) بن يوسف بن خدة في حديث مع محمد عباس المنشور في جريدة الشعب بتاريخ 19-20 أوت 1958.
(1) Henri Bourgeaud, Sénateur dans La Dépêche Quotidienne du 2 November 1954.
(2) François Quilici, Le Monde du November 1954.
(3) Bernard Doz et Evelyne Lever, Histoire de l’Algérie : 1954-1962, Paris : Seuil 1982, p 62.
(4) Michel K. Clark, Algeria in Turmoil, New York : Praeger, 1960, pp 119-120.
(1) مولود قاسم نايت بلقاسم، ردود الفعل الأولية داخلا وخارجا على غرة نوفمبر 1954، قسنطينة : دار البعث، 1983، ص 88-89.
(2) Droz et Lever, Op.cit, p 62.
(1) Bernard Droz et Evelyne Lever, Histoire de la guerre d’Algérie : 1954-1962, Paris : Seuil, 1982, p 64.
(1) Alistair Horne, A. Savage War of Peace : Algeria : 1954-1962, London : Mc Millan, 1977, p. 105.
(2) Ibid, p 106.
(1) Droz et Lever, Op.cit, pp .66-67
(1) Horne, Op.cit, p 106.
(2) Droz et Lever, Op.cit, p. 69.
(1) Michael K. Clark, Algeria in Turmoil, New York, 1959, pp. 133-134.
(2) Ibid, pp. 140-147.
(1) Horne, Op.cit, p. 123.
(2) Ibid, p. 123.
(1) Horne, Op.cit, p. 117.
(2) Ibid, p. 114.
(3) Ibid, p. 112.
(1) Droz et Lever, Op.cit, p. 80.
(1) S.A.A.= Sections d’Action Spéciale.
(2) Droz et Lever, Op.cit, p. 87.
(1) Ibid, p. 89.
(2) Ibid, p. 97.
(1) Edward Behr, The Algeria Problem, New York : W.W. Norton and Company, 1962, pp. 142-143.
(2) Wszeverso W. Kulski, De Gaulle and The World, Syracuse: New York : Syracuse University Press, 1966, p. 330.
(3) Jseph Kraft, The Strugle for Algeria, Garden City, New York : Doubleday, 1961, p. 98.
(1) Jean-Marie Domenach, « The French Army in Polities », Foreign Affairs, (January) 1961, p. 189.
(2) Bernard Droz et Evelyne Lever, Histoire de la guerre d’Algérie : 1954-1962, Paris : Seuil, 1982, p. 95
(1) Horne, Op.cit, p. 157.
(2) Horne, Op.cit, p. 160.
(1) Philip Tripier, Autopsie de la guerre d’Algérie, Paris : Editions France-Empire, 1972, p. 151.
(2) Michael K. Clark, Algéria in Turmoil, Nw York : Praeger, 1960, p. 301.
(3) Tripier, Op.cit, p. 153.
(1) Roy C. Macridis and Bernard B. Brown, The De Gaulle Republic, Homewood, Illinois : The Dorsey Press, 1965, p. 55.
(2) Horne, Op.cit, p. 156.
(1) Macridis and Brown, Op.cit, p. 57.
(1) Ibid, p. 57.
(2) Tripier, Op.cit, pp. 151-152.
(1) Edgar Furniss, France Troubled Ally, New York : Praeger, 1960, p. 213.
(2)Horne, Op.cit, p. 240.
(1) Ahmed H. EL-Afandi « Roll Call Analysis of the input of Support : The Case of the Franch Political System under Stress, 1954-1962 » Ph. D. Dissertation, The University of Missouri at Columbia, 1970, p. 85.
(2) تعتبر هذه الأطروحة التي كتبها الدكتور أحمد الأفندي لنيل دكتوراه الدولة في العلوم السياسية من أحسن الأطروحات التي كتبت في الجامعات الأمريكية عن الجزائر وللأسف الشديد فإن هذا الإنتاج العلمي الرائع لم تتم ترجمته إلى اللغة العربية إلى الآن.
(1) Horne, Op.cit , p. 240.
(2) William G. Andrews, French Politics and Algeria, New York : Meredith Publishing Company, 1962, p. 160.
(1) John Steward Amber, Soldiers Against The State : The French Army in Politics, New York : Doubleday and Company, 1968, p. 243.
(2) Macridis and Brown, Op.cit, pp. 59-60.
(3) Macridis and Brown, Op.cit, pp. 95-98.