سعدي بزيان: الرجل البارع في الكتابة والتحليل
مكانة الأستاذ سعدي بزيان في تاريخ الصحافة الجزائرية ناصعة وبارزة. إنه لمن عجيب الصدف أن يكون الأستاذ سعدي قد ولد سنة 1931 بقرية غوفي، قرب غسيرة، بولاية باتنة، وهو العام الذي برزت فيه إلى الوجود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وفي معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة زاول الأستاذ سعدي بزيان تعلمه الأساسي، قبل أن ينتقل إلى جامع الزيتونة، ثم إلى الضفة الغربية في فلسطين ودمشق لاحقا لمواصلة دراسته الثانوية. وفي عام 1982 انضم إلى الهيئة العلمية للمعهد الإسلامي ومسجد جامع باريس ليواصل عطاءه العلمي مع أحد مشائخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين البارزين وهو الشيخ عباس بن الشيخ الحسين (1989-1982)، الذي أضفى على المسجد هيبة علمية لا مثيل لها. وبعد أن استراح من عمله في جريدة الشعب حديثا، واصل الكتابة في جريدة البصائر التي تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ مدة طويلة. وعليه، فإن الأستاذ سعدي بزيان، باديسي لحما ودما، ومن قال أنه حاد عن أصله فقد كذب.
وفي رأيي الشخصي، أن من لم يعرف الأستاذ سعدي بزيان عن قرب لا يمكنه أن يصدر حكما عادلا في حقه. لو نظرت إلى تواضعه وعزته بنفسه وإلمامه بكل صغيرة وكبيرة في كل شيء تناقشه فيه، فإنك ستصاب بالحيرة والذهول. إذا كان كل إناء يرشح بما فيه، فإن رأس سعدي بزيان ممتلئ عن آخره برصيد معرفي لا يقدر بثمن، وغزارة سيل وديان من ذلك الرأس الأصلع، ممكن أن تجرف الأشجار والأعشاب المتحجرة بأي نهر صغير.
لقد كنت أسمع عنه كثيرا عندما كان يزاول دراسته بالأردن وسوريا والعراق وكنت أعتبره طالبا جزائريا عاديا، إلى أن التقيت به في فرنسا واطلعت على مقال له في مجلة ” آفاق عربية” عن كتابي: العمال الجزائريون في فرنسا، وهي مجلة تصدرها الودادية الجزائرية بفرنسا. وحسب اعتقادي أن المرحوم الشريف سيسبان هو الذي كان يشرف فيها. ومن خلال قراءتي الدقيقة لمراجعة الكتاب، اكتشفت أن الكاتب سعدي بزيان، متخصص في قضايا العمال المهاجرين، وأنه يكاد يكون أنسكلوبيديا متحركة في قضايا العمال المهاجرين.
في بداية الثمانينات من القرن العشرين اكتشفت وعرفت سعدي بزيان على حقيقته. فقد كان يكتب بانتظام في جريد الشعب الجزائرية وأبان عن اهتمامه الكبير بالجاليات الإسلامية في أوروبا وتفاقم الأوضاع في فرنسا حيث اشتد الصراع بين قادة الجاليات المغربية والجزائرية والتركية وطرح بذكاء التهور والطيش وهواجس الجاليات الإسلامية في أوروبا وتطلع قادة الإسلاميين للوصول إلى السلطة أو الحكم في بلدانهم المغاربية والتركية. وقد استنتجت من تحاليل سعدي بزيان أن المقيمين الإسلاميين في أوروبا الذين كانوا ينعمون بالبحبوحة الاقتصادية والصحية والأمنية في أوروبا لم يكونوا يدركون أن الجماعات الإسلامية كانت تقودهم إلى الهاية وأن التطرف الإسلامي في غير بلدانهم الأصلية سيعود عليهم بالوبال. وحسب تحليل سعدي بزيان، فإن المجتمعات الأروبية لن تقبل بخوض حروب وصراعات دموية ضد الحكومات الوطنية انطلاقا من أوروبا. واستخلصت من مقالات هذا الصحفي الذكي أن للتسامح الأروبي حدود وأن الجماعات اليمنية المتطرفة ستستغل هفوات الإسلاميين وتستولي على السلطة إذا لم تقم الحكومات الأروبية اليسارية بإيقافهم عند حدهم واندماجهم في المجتمعات التي يحصلون فيها على خبزهم وتزويد عائلاتهم في وطنهم بالأموال اللازمة لتغذية أولادهم. لقد استغربت من تمتع سعدي بزيان المسمى بالغوفي، نسبة إلى قرية في نواحي غسيرة (ولاية باتنة) بمستواه الراقي في تحليل أهداف الجماعات الإسلامية في أوروبا، بالإضافة إلى إسهامه في بلورة فكرة التعذيب والتنكيل بالمواطنين الجزائريين في داخل وخارج بلدهم خلال الحروب الكولونيالية. كم من مرة تساءلت في نفسي إذا كان هذا الشخص يملك شهادات جامعية عالية أهلته للكتابة ومعالجة هذه القضايا بأسلوب رائع ومنهجية في غاية الدقة والصواب. وبصفتي أستاذ في الجامعات الجزائرية والأجنبية فإنني أعرف أساتذة لم يحالفهم الحظ لكي يبهروني بكتاباتهم السطحية مثلما أبهرني هذا الكاتب العصامي بكتبه التي تجاوز عددها 17 كتابا وما يزيد عن 100 مقال اطلعت على معظمها وليس كلها.
وبعد تفكير وتمحيص في الموضوع، اكتشفت أن سعدي بزيان، يتمتع بمميزات القراءة والمطالعة وأنه يملك رصيدا من المعرفة يكفيه لكتابة أبحاث ذات مصداقية، وهو في غنى عن الشهادات الشكلية التي تعلق على الحيطان للتباهي بها لا غير.
ولكي أثبت صحة مهارته في الكتابة وقدرته على التعبير وتبليغ المعلومات للطلبة، استدعيته ذات مرة إلى ملتقى أكاديمي أقوم بتدريسه منذ عشرات السنين في جامعة الجزائر وذلك بقصد إثراء الملتقى وتمكين الطلبة من الإلمام بحقائق مفيدة لهم في مجال الفكر الإسلامي والعمال المهاجرون في أوروبا بصفة عامة. وللتاريخ أقول بأن الطلبة قد انبهروا بمؤلفاته وبالكتب التي قرأها في مواضيع تعذيب المواطنين الجزائريين. إنني أنا الآخر أعترف بأنني، شعرت أنه عبارة عن موسوعة علمية، ولولا ضيق الوقت لمكثنا في القاعة إلى منتصف الليل. ومنذ ذلك اليوم، خرجت بقناعة أن الشهادات الشكلية لا تساوي شيئا أمام حب أي شخص لمهنة معينة وتخصص في موضوع يعشقه الإنسان ويبدع فيه.
إن سعدي بزيان، أنعم الله عليه بحب مهنة الصحافة فتعلق بها وأبدع في الكتابة والتعبير عن ما يدور بخاطره بدقة ومهارة فائقة. للأسف نحن في العلوم الاجتماعية لا نملك براءة الاختراع، ولو كنا في العلوم الدقيقة لأعطيناه براءة الاختراع أو الملكية الفكرية في التأليف وكتابة البحوث العلمية التي يستفيد منها المجتمع. إنه قدوة للباحث والمفكر العصامي الذي سخر قلمه ووقته لخدمة مجتمعه، مثلما فعل أحد أبناء منطقته الشيخ الغسيري، رحمه الله وطيب مثواه.
الأستاذ عمار بوحوش
الجزائر يوم 28/08/2021