كيف بدأت قضية احتلال الجزائر
بقلم
فرنسيس غيلز
مراجعة وتلخيص: د. عمار بوحوش
في مطلع شهر جويلية من هذه السنة احتفلت الجزائر بالذكرى العاشرة للاستقلال، وكانت هذه فرصة لإظهار فرحة الجزائريين بنضالهم والترحم على أرواح الشهداء الذين فدوا وطنهم بدمهم في حين كانت هذه الذكرى بالنسبة للطرف الفرنسي مؤلمة وغير مشرفة لها. ولكن استعمالها لأسلوب الخداع والنفاق غداة احتلال الجزائر في سنة 1830. إن المغامرات والدسائس التي قام بها قادة فرنسا للاستيلاء على الجزائر كانت بمثابة دلائل قاطعة أنها ستسمم العلاقات الجزائرية الفرنسية.
كيف بدأت قضية احتلال الجزائر؟ كل ما هنالك أن الحكومة الفرنسية، آنذاك كانت مكروهة من طرف الشعب الفرنسي وكان الملك يخشى عدم حصوله على ثقة الناخبين الفرنسيين… وأدى به فساده في الأخير إلى الإطاحة بحكمه والتخلص من قيادته إلى الأبد. وكانت خطة تشارل العاشر ترمي إلى ربح معركة هائلة. والسؤال الآن لماذا اختار تشارل العاشر الجزائر ليقوم فيها بهذه المغامرة؟ والجواب على هذا، أن الجزائر كانت تصدر القمح إلى فرنسا منذ 1795 حيث تعرض جنوب فرنسا لمجاعة في تلك السنة. وقد تمت الصفقة التجارية بين الدولة الفرنسية والجزائر بواسطة العائلة اليهودية بكرى التي كان لها مقرا للتجارة في كل من الجزائر ومدينة “ليقهورن” بفرنسا. وجمعت هذه الأسرة اليهودية أموالا طائلة خاصة وأنها كانت تتمتع بصداقة متينة مع السيد “تاليران”. وفي عام 1827 شعر داي الجزائر أن القنصل الفرنسي الذي كان يعمل بالتعاون مع عائلة بكرى، قد حاول الغش وإخفاء حقائق عنه حتى يتسنى له وللعائلة اليهودية التملص من دفع ضرائب إلى الخزينة الجزائرية وتسديد بعض الديون التي لازالت في ذمة المملكة الفرنسية. وفي شهر أبريل من سنة 1827 استدعاه الداي وأراد التباحث مع القنصل في هذه القضية. ولكن القنصل كان غير متأدبا وأجاب بأن “فخامة الملك المسيحي لا يمكنه أن يتكاتب مباشرة مع إنسان يخضع للسلطان، فقام الداي ولطمه بمروحيته”. وأثناء مناقشة قضية غزو الجزائر في مجلس الوزراء الفرنسي تدرع الملك بحجة عقاب الداي على إهانة فرنسا. وقرر توجيه ضربة قاضية للجزائر تكون مرضية لجميع المسيحيين.
والشيء الذي ساعد الفرنسيين على احتلال الجزائر هو حصولهم على الخطط الدقيقة التي مكنتهم من التعرف على البلاد شبرا … شبرا. والشخص الذي وفر هذه التفاصيل الدقيقة هو الضابط الفرنسي الذي كان قد بعث به نابليون الأول سنة 1808 إلى الجزائر والذي صاحب الحملة الفرنسية عند الغزو. ثم هناك شخص آخر اسمه “ماياط” الذي تطوع لبناء بالونات طائرة تحمل المواد المحرقة ويمكن إطلاقها من الجو على سكان الجزائر فتقضي عليهم. وقد تبرع هذا الشخص نفسه بـ 25.000 فرنك لهذا المشروع وعين كرئيس لفرقة تقرر أن تكون مهمتها تحقيق هذا الهدف.
كما أن “الأدميرال سير سيدني سميت” المشهور ببرنامجه التاريخي الذي مكنه من محاصرة نابليون الأول عام 1799، قد تطوع للمشاركة في محاصرة الجزائر… واستقبله الملك الذي اطلع بنفسه على مواهبه في هذا الميدان. ومن الشخصيات البارزة التي تطوعت للمساهمة في احتلال الجزائر… “الأدميرال كوشران” الذي اشتهر بسوء تصرفه وتقديمه للإمتثال أمام محكمة عسكرية سنة 1816. والحكومة الفرنسية لم تعرف ماذا تقول له لأنه لا يحمل جنسية فرنسية.
وتلقت فرنسا المساعدة أيضا من صاحب مقهى في مدينة مرسيليا الذي قرر تأجير باخرة للجيش الفرنسي تكون بمثابة فندق له وذلك على أمل أن يرى القنابل تنصب على مدينة الجزائر. وقد رفض هذا الطلب، إلا أن مدير مسرح “بورت سان مارتان” المسمى “كولومبون” قد سمح له بالقدوم مع الجيش كفنان مسؤول عن الرسم. ولكنه طرد بعد احتلال الجزائر لأنه ارتكب غلطات مع بعض النساء الجزائريات.
وغزو الجزائر في الحقيقة لا يمكن وصفه بأنه اقتصر على جماعة من المغامرين الذين قاموا بأعمال مخزية ولا ينتظر منهم الدفاع عن شرف فرنسا بل إن الشخص الذي قاد الحملة الفرنسية نفسه الجنرال “كونط دو بورمان” الذي كان وزيرا للدفاع في حكومة تشارل العاشر… كان مشهور بالخيانة حيث أنه فر من جيش نابليون الأول في أمسية خوض معركة “واترلوا” المشهورة في التاريخ. ولهذا كان جنوده الذين قدموا معه ينشدون الأغنية التالية:
إن الجزائر بعيدة عن “واترلوا” ومن الصعب أن نهرب فوق الماء. أننا لا نخاف هذه المرة أن يفزعنا الجنرال “بورمان”.
وعندما تمكن الجيش الفرنسي من احتلال مدينة الجزائر يوم 5 جويلية… اختفى جزء كبير من الذهب الذي كان في خزينة الداي!.
كما أن نصيبا آخر قد اختفى أثناء نقل الأموال إلى باريس. ومن كثرة الفضائح، تقرر تفتيش حتى جثث الضباط الذين يصلون إلى مرسيليا فلعلهم يجدون الذهب مخفيا معهم. وبسبب الاختلاسات تقرر تعيين “كلوزيل” محل “بورمان”. وأول شيء قام به القائد الجديد هو تنصيب لجنة لتنظر في قضايا الاختلاس. ويقال أن الضابط “بارون دوني” الذي كان في اللجنة المنصبة قد تمكن من دفع جميع ديونه بعد أن حصل على أموال طائلة.
وأثناء تبادل الحديث بينه وبين الملحن المشهور “روتسيني” قال للأخير أنه تمكن فجأة من الحصول على ثروة طائلة بعد وفاة عم زوجته، فأجابه الملحن بضحكة ساخرة “لم أكن أعرف أن عم زوجتك هو داي الجزائر”.
وقد نتج عن ضياع أو حرق الوثائق الجزائرية الفوضى الشاملة وذلك نظرا لجهل الفرنسيين فحوى القوانين الإسلامية التي كانت تسير عليها الجزائر. وبطبيعة الحال، إن تلك القوانين كانت تحدد قيمة الضرائب وطرق الاحتفاظ بالملكية ووسائل الاتصال المستمر بين الداي وبقية المسؤولين داخل البلاد. كما أن الأمراض التي انتشرت داخل صفوف الجيش الفرنسي قد ساهمت هي بدورها في نشر الفوضى وعدم الاستقرار بالبلاد.
وزيادة عن هذه المشاكل الخطيرة عانت الجزائر العاصمة من تهافت الأجانب عليها من فرنسا وبصفة خاصة من إسبانيا وإيطاليا ومالطا حيث كانوا هم الأغلبية الساحقة. والمالطيون من أصعب المهاجرين ذلك أنهم خلقوا مشاكل عديدة للقنصل البريطاني. وكانوا يتهافتون بصفة خاصة على الاستيلاء على أملاك أبناء الجزائر وأموال الأتراك. ولهذا فليس من الغريب أن توصف الجزائر العاصمة بأنها “المكان الذي يضم فيه جميع المنبوذين والمطرودين من مناطق الحضارة الأوروبية”. وكما وصف هذه الوضعية أحد الفرنسيين فإن الجزائر أصبحت مثل “فرنسا لكن بدون شرطة وبدون نفاق”.
وكانت هناك مجموعة من المعمرين الفرنسيين الذين أرادوا الاستفادة من جو الجزائر الاستوائي الحار وذلك بغرس قصب السكر والقطن وتصديرهما إلى فرنسا لكن رغبة هؤلاء تعارضت مع مجموعة أخرى من التجار الفرنسيين الذين كانوا يقومون بالتجارة في قصب السكر وذلك في المستعمرات الفرنسية الموجودة في المحيط الأطلسي بجنوب أمريكا. وهكذا خابت آمال المعمرين الفرنسيين بالجزائر. كما كانت هناك مجموعة من التجار التي قررت العزم على زراعة العنب والبحث عن الذهب في المناجم الجزائرية. وبذلت بعض المجهودات الكبيرة لاقناع المزارعين الفرنسيين بالذهاب إلى الجزائر التي كانت لها أراضي أخصب بكثير من الأراضي الفرنسية، لكن هذه الحملة فشلت. وهنا شعر الجنرال “كلوزيل” الذي تزعم الجالية الأوروبية بالجزائر منذ سبتمبر 1830 أنه لا حل لهذه الأزمة نظر لغموض السياسة الفرنسية إلا إذا عمد إلى الاستيلاء على الأراضي الخصبة وتسليمها للمهاجرين الأوروبيين. وبالفعل فقد أصدر مرسوما في الشهور الاولى من سنة الاحتلال يقضي بتسليم الأراضي للمعمرين الأجانب.
وانتهت الأمور بعد الاستيلاء على الأراضي الجزائرية وثبت أن باريس عاجزة وضعيفة… بالإضافة إلى أنها لا تقدر مهمة تنوير عقول أبناء البلد، وإبراز معالم الحضارة الفرنسية لهم، كما قال “كلوزيل”. وفي باريس تحرك النواب والتجار للدفاع عن المعمرين. ثم إن مدينة مرسيليا أصبحت زاخرة بالتجارة والأموال المتدفقة عليها من الجزائر. وحدث مرة أن سولت نفس “الجنرال بارثيزين” الذي كان هو القائد الثالث للجيش الفرنسي بالجزائر حسب السلم التصاعدي في القيادة، أن يتحدى كمشة من المعمرين ويفرض عليهم السير حسب القوانين، وكان مآله الطرد من الجزائر! وجرت العادة بعد ذلك على استعمال الدسائس وطرد كل من يتحدى المعمرين ويسعى لمراقبتهم أو الحد من سيطرتهم. ولهذا أحرزوا على نجاح هائل إلى درجة أنهم استطاعوا شراء أضعاف أراضي متيجة في سنوات قليلة. وفي بعض الاحيان يشترون الأراضي التي لم يرونها بتاتا.
كما أنه حدث مرارا أن اشترى هؤلاء المعمرين أراضي بيعت لهم من طرف شخص ثالث، يكون في العادة يهودي، ويستحوذ على الدراهم المدفوعة له. والأشخاص الذين كانوا يقومون بالوساطة في معظمهم يهود… وهم وحدهم الذين رحبوا بقدوم الجيش الفرنسي إلى الجزائر.
كما أن اليهود هم الذين كانوا يجيدون الحديث بالعربية التي تعلموها في مصر أو تركيا وكانوا يترجمون إلى الجيش الفرنسي كل ما يريد قادته أن يعرفوا عن الجزائر. ثم أن الفرنسيين استعملوا المساجد كثكنات لحفظ أمتعتهم وكل مئذنة تحولت إلى مكان للمراقبة العسكرية. وقد كانت هذه التصرفات مفزعة بالنسبة للجزائريين لأن فرنسا كانت قد تعهدت غداة إمضاء وثيقة وقف المعارك باحترام الحرية الدينية وعقود الملكية.
والشيء الذي تجدر الإشارة إليه هي السرعة الفائقة التي مكنت المعمرين من الحصول على ثروات طائلة، والبعض الآخر منهم نال مراتب عالية في الإدارة في حين أنهم لو بقوا في فرنسا لن يلتفت أي أحد إليهم. وكان تصرفهم عنصري: “فالعربي في نظرهم ماهو إلا حيوان، مخلوق وهو ممتلئ بالتعصب الإسلامي ولا يمكن وقفه عند حده إلا بالقوة”. ولم يسعى هؤلاء الهمجيين إلى رفع سمعة فرنسا وذلك لأنهم لا ينتمون في معظمهم إلى فرنسا. وفي الحقيقة أنهم ليسوا فقط مالطيين وإسبانيين وإيطاليين ولكنهم أيضا قدموا إلى الجزائر بسبب الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها بلادهم او الاضطرابات السياسية التي عمت مدنهم.
ونعود الآن إلى موضوعنا الرئيسي وهو أن قدوم هؤلاء المغامرين إلى الجزائر جاء نتيجة لرغبة تشارل العاشر في أن يحرز على فوز في الإنتخابات التشريعية. ومما لا شك فيه أنه لم يكن يملك أي برنامج سياسي أو نفع اقتصادي أو حتى مشروع مخطط. ولم يربح الملك أي شيء… بل على العكس أنه خسر الإنتخابات وعرشه في آن واحد. والملك الذي خلفه في الحكم، لويس فيليب، كان هو الآخر لا يعرف ماذا يعمل بالجزائر وجلبت له متاعب عديدة. وكان هذا الملك متحير ويعتمد على حياد بريطانيا في أوروبا ولكن الاخيرة لم تترك له دقيقة راحة حتى تعهد بعدم المطالبة بضم بلجيكا وضفة الرين إلى فرنسا.
وفي الجزائر تطور الصراع بين الجزائريين والفرنسيين، وبدأت نظرية حرق الأرض تطبق بدقة. وكان “قيزو” رئيس وزراء الملك “لويس فيليب” قد خاطب الحاكم العام بالجزائر بهذه العبارة “أن الجزائر تشغل بالنا حتى في أوقات الفراغ”. والغريب في حكم الجزائر أن القوانين الفرنسية كانت تطبق ثم حرفت في المدن. وامتد هذا التحريف إلى داخل البلاد حتى أصبحت هذه القوانين لا تشابه القوانين الفرنسية من الناحية العملية. والشيء الذي زاد الطين بلة أن الإدارة الفرنسية في الجزائر ازدادت سوءا لأن المسيرين لا كفاءة لهم وتسيطر على عقولهم الرشوة. ثم إن حجم الإدارة لا يكفي لتغطية الأعمال الكبيرة. ولهذا نجد كل حاكم عام بالجزائر يتوسل إلى باريس أن تبعث إليه بالعدد الكافي من الموظفين.
والسؤال الآن، من هو الذي استفاد من مغامرة تشارل العاشر؟ بطبيعة الحال مجموعة صغيرة من المعمرين واليهود الذين كانوا يقومون بالوساطة في كل صفقة تجارية. كما أن الجالية اليهودية قد حققت أمنيتها الكبرى وذلك لأنها وجدت هذه الفرصة لتثأر من المعاملة التي كان يعاملها بها أبناء البلد الأصليين والأتراك والعرب والقادمين من الأندلس. ووضعية اليهود في السابق وعدم ارتياحهم قد يسهل فهمها وتفسير فرحهم. ولكن الفرنسيين ليس لهم أي عذر في أن يتصرفوا بهذه الطريقة. وإذا كانوا قد أخطئوا، فلماذا لا يعتذرون عن غلطاتهم. وقد تأثر بهذه الأعمال المشينة الحاكم العام “بيرثيزن” الذي كتب إلى رئيس وزراء فرنسا عام 1832 حيث أعلمه “أنه لا توجد حيلة قذرة لم يجرى تطبيقها في هذا المكان”. واللجنة البرلمانية التي زارت الجزائر عام 1833 ذكرت في تقريرها أن الفرنسيين قد بلغو الذروة في خلال ثلاث سنوات بحيث أنهم أصبحوا مكروهين من طرف أبناء البلد أكثر من رجال الإنكشارية الذين لم تكن لهم مكانة في قلوب الجزائريين.
* دراسة منشورة بجريدة التايمز اللندنية بتاريخ 5 أوت 1972.