كيف نعيد المصداقية إلى مؤسسات الدولة
من يتأمل برزانة في السياسة الجزائرية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، سيخرج بفكرة واضحة وضوح الشمس و هي أن كل مسؤول يتمكن من التربع على كرسي في حلبة الحكم، يسعى بكل الوسائل لإظهار وإبراز الأدوار الرئيسية التي لعبها في الثورة وما بعد الثورة بحيث يصير هدفه الرئيسي إقناع الناس بأنه وطني و بأنه مخلص لهذه الأمة الجزائرية، وبالتالي، فهو وحده المؤهل لوضع سياسة هذه الدولة الفتية و إخراجها من الأزمات التي تتخبط فيها، و بمرور الأيام و السنين، يتنافس المعانون و المتطلعون إلى الاستفادة من القيادة الجديدة، على التقرب و التودد بحيث يتحول هذا التنافس إلى صراع محموم، و المصلحة العامة تفقد معناها، و المؤسسات تصير لعبة في يد المجموعات التي أظهرت شطارتها وقوتها وحيلها و تمكنت من فرض نفسها في المجال السياسي .
و بالنسبة للمحلل السياسي في علم التنظيم و الأنظمة السياسية، فإن هذه الإنطلاقة خاطئة من البداية، و أن إخلاص القائد لوطنه و الجهاد من أجل تحريره والتضحية في سبيل رفع شأنه، شيء، وبناء دولة قوية اقتصاديا و سياسيا شيء آخر، فإذا كانت الوطنية نابعة من القيم و الانتماء إلى البلد و التعلق به و العاطفة الفياضة بالحب و التقدير تجاه الوطن، فإن هذه القيم الوطنية غير كافية بمفردها لبناء دولة عصرية مزدهرة. إن وطنية الشخص أو القائد و تعاطفه مع أبناء شعبه و قضاياهم العادلة، أو انفراده باتخاذ القرارات التي تبدو له منطقية، هي عبارة عن قرارات ارتجالية تفرضها الظروف و الأزمات و لا يمكن أن تكون مجدية و مثمرة على المدى القريب أو المدى البعيد، و لهذا نلاحظ أن معظم القرارات الثورية التي يقصد منها تحقيق مكاسب شعبية، و التخلي عنها بسهولة تامة .
و المشكل بكل بساطة هو أن معظم المسؤولين في الدولة يوظفون عواطفهم وأنصارهم و ذكاءهم ويستعملون السلطات الموجودة في أيديهم لفرض آرائهم الشخصية في الـمواطنين و استعمال كل الوسائل لإقناع الناس بأن السياسة التي ينتهجونها تعبر عن آراء القيادة السياسية وبالتالي فلابد من الالتزام بها و لا داعي لمناقشتها و الاعتراض عليها، و نتيجة لهذا الشعور بالقوة المستمدة من المنصب، يتفنن كل مسؤول في إعطاء التعليمات و اتخاذ القرارات التي يحلو له أن يتخذها، و يحل المشاكل حسب نصائح المقربين والأصدقاء الذين يصعب الاستغناء عن نصائحهم الهادفة لخدمة قضايا ضيقة .
و السؤال المطروح هنا: هل ينجح نظام إعطاء التعليمات و اتخاذ القرارات الفردية حسب المزاج الشخصي في حل المشاكل الحقيقية التي يعاني منها كل مواطن ؟ هل يتمكن البيروقراطي الطبع و الصديق الوفي لأي مسؤول أن يقوم بدراسة القضايا الاجتماعية والصناعية التي تواجهها الدولة و يخدم دولته و أبناء شعبه بكفاءة ؟ إن الجواب على هذين السؤالين يكون بالنفي، طبعا، حتى و لو حاول بعض الأشخاص تبرير ما هو غير مبرر.
و العبرة التي يمكن استخلاصها من هذه المقدمة للموضوع هي أن اللهث وراء المناصب السياسية لاكتساب النفوذ و الثروة والمكانة الاجتماعية المرموقة من كرف بعض العناصر التي تسعى للالتفاف حول القادة و تضليلهم، هي سبب المأساة الاجتماعية في بلادنا، إن الفخ الذي يقع فيه معظم المسؤولين ببلادنا هو الاعتماد على أصحاب البطانة و الأنصار بدلا من الاعتماد على رجال الكفاءة و الخبرة والمهارة في العمل، وبالتالي يتم تدعيم مصالح الأفراد المقربين على حساب المصلحة العليا للوطن.[1]
متى تكون لرجال الاختصاص
الكلمة المسموعة ؟
لعله من البديهي أن نقول منذ البداية أنه من الصعب على أية قيادة أن تنجح في مهامها إذا لم تنتهج سياسة مبنية على الإقناع و خلق المصداقية لمؤسسات الدولة لأن التعامل مع القضايا يتطلب الخبرة و المهارة و المؤهلات العلمية. و المشكل الخطير في وقتنا الحالي، هو أن القرارات السياسية الفاشلة المبنية على الارتجال وعدم الاستنارة بآراء رجال الاختصاص و المهارة الفنية في كل ميدان قد خلقت إحباطا نفسيا لدى أبناء الاستقلال الذين أصبحوا يشعرون أن الجهاز البيروقراطي للدولة غير قادر على خدمة المصالح الحقيقية للشعب ، وما يشغل بال أفرادها هو مصالحهم الذاتية و التباطؤ في تطبيق التعليمات و القوانين الواردة من أعلى و التي قد لا يحصلون على أية فائدة منها، وهذه الوضعية المحزنة تدفع الإنسان أن يتساءل: إلى متى يدرك المسؤولون أن الإجراءات الإدارية و السياسية غير المدروسة لا تكفي لإخراج المجتمع الجزائري من الأزمات التي يواجهها منذ أمد بعيد ؟ و بعبارة أخرى: متى تتكون قناعات لدى المسؤولين بأن نجاح سياسة الحكومة في أي ميدان يتوقف على التعاون المشترك بين المواطنين والجهاز التنفيذي للدولة ؟ فإذا لم تكون هناك قناعات ومصداقية و ثقة متبادلة، فالمواطن يتصرف حسب أهوائه و السياسي حسب الاعتبارات التي تدفعه إلى اتخاذ قراراته، و في النهاية، تكون النتيجة سلبية لأن كل طرف انطلق من تصوراته و آرائه الفردية .
و تستخلص من هذا التحليل أن الأفكار التي تروجها أي سلطة و الدعاية المتكررة لشعاراتها البراقة والوعود المغرية برامجها المعروضة في الساحة السياسية هي عبارة عن حلول عاجلة لقضايا معقدة تتطلب دراسات معمقة أو هي عبارة عن حلول مستوردة لقضايا وطنية تتطلب دراسة وخبرة محلية قادرة على التعامل مع البيئة الجزائرية. و بهذا الصدد يمكن أن نأتي إلى ذكر نموذج واحد للعمل الجزائري الناجح الذي تحقق بفضل الواقعية في تحليل القضايا، و وجود قناعات صادقة عند المواطنين بأن قادة الثورة مخلصون و صادقون في عملهم من أجل تحرير الوطن من العدو الذي احتل أرض الجزائريين وسلط عليهم القمع و الاضطهاد، و بفضل هذه القناعات و العمل المشترك، برزت عبقرية أبناء الجزائر، و رفض قادته أن يأخذوا الأموال المشروطة أو يسمحوا لحزب أجنبي أن يؤثر في قراراتهم المرسومة و الهادفة إلى تحرير البلاد من السيطرة الأجنبية .
و بهذا المنهج السليم و التعاون المشترك بين المواطنين و القادة نجحت الثورة الجزائرية و حافظت على الوحدة الوطنية و أعدمت الخونة الذين شجعوا العدو على التسرب إلى صفوفها بدون جدوى ، و تمكنت في النهاية من تحقيق الهدف المنشود وهو : استعادة السيادة الوطنية واستقلال البلاد .
و بعبارة صريحة، فإن جوهر الموضوع هو أن القرارات السياسية يتم اتخاذها على ضوء الأفكار السائدة في اللحظات الحرجة التي يتعين على الإنسان المسؤول أن يبت في قضايا حيوية، لكن المشكل هو أن القرارات التي ستطبق في المستقبل و التي يتم اتخاذها في ظروف معينة قد تصطدم بواقع جديد و ظروف طارئة أو أوضاع مستجدة وبروز تصورات أخرى مختلفة عن التصورات السابقة، و لهذا تبدو القرارات المتخذة بعد مدة قصيرة من الزمن غير ملائمة و غير معبرة عن الواقع الاجتماعي و فاقدة للفعالية والتأثير الإيجابي في أرض الواقع، و لهذا، فإن عمليات التحولات الاجتماعية تلعب دورا حيويا في تغيير مجرى الأمور و إحداث العجائب و الغرائب في حياة كل شعب من الشعوب.
و انطلاقا من كل ما تقدم، فإن القرارات الناجعة هي القرارات التي يقوم بدراستها رجال الاختصاص في كل ميدان وذلك بصفتهم :
- يتمتعون بمعرفة غزيرة في ميدان تخصصهم؛
- وجود متسع من الوقت لديهم لدراسة الحقائق و وضع البدائل ؛
- توظيف المهارة و الخبرة المستمدة من أرض الميدان ؛
- عدم مجاملتهم لأي إنسان و تعاملهم مع القضايا بموضوعية و كفاءة؛
- لأنهم في العادة مستقرون في وظائفهم و يعرفون جيدا مناهج العمل والأساليب الناجعة لمواجهة الصعاب التي تبرز باستمرار .
ولعل الشيء الغريب في الأمر أن دولة مثل الجزائر تتفق بسخاء على التعليم وتنشئ الجامعات بطريقة جماعية بقصد المساهمة في تكوين إطارات يتمتعون بمعرفة غزيرة في كل التخصصات، لكن للأسف الشديد، فإن هذه الإطارات ذات المستوى العلمي الرفيع و المعرفة العلمية الغزيرة لا تستخدم أو لا توظف بفعالية لصناعة القرار في تخصصاتها، و السبب في هذا أنه لا يوجد ربط بين العمل العلمي الخلاق (الإبداعي) وبين الاحتياجات الاجتماعية في الميادين الاقتصادية و الثقافية و الفنية، كما أن فكرة استخدام التكنولوجيا و الدراسات الحديثة لحل المشاكل التي يواجهها المجتمع غير موجودة بتاتا في عقول المسؤولين عن القطاعات الاقتصادية و الصحية و التجارية، وكان من المفروض أن تقوم المؤسسات الوطنية بتنمية و دعم القدرات العلمية و التكنولوجية لأن تمويل البحوث و اكتشاف العناصر الوطنية الموهوبة و الاعتماد عليها في تطوير الموارد والثروات الجزائرية، تعتبر مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتق المؤسسات الإنتاجية في البلاد، و بأيجاز فإن تراكم المعارف غير المستخدمة في الجامعات و وجود عقليات منغلفة و محيط اجتماعي يتم فيه احتقار العلم و العلماء و تثبيط عزائمهم هي الأسباب الرئيسية لتخلفنا و عجزنا عن إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل الحقيقية التي يواجهها أبناء وطننا .
كيف نعيد المصداقية إلى مؤسساتنا
إن الإجابة على هذا السؤال عن الجانب التنظيمي تتطلب كتابة عشرات الكتب والمجلدات و تحليل نظم العمل لكل مؤسسة حكومية، و لكن إبداء الرأي في هذا الموضوع الهام ومحاولة الإجابة عليه، و لو بإشارات خفيفة، تعتبر مسألة وطنية لأن الحكمة الشعبية المعروفة تقول ” إن فكرة صغيرة قد تحل أزمة كبيرة ” .
والنقطة الرئيسة التي اعتبرها أساسية لتقوية أجهزة الدولة هي انتهاج أسلوب جديد في العمل يتمثل في الابتعاد عن الشعارات و التركيز على الإجراءات العملية التي تساهم في تحقيق النتائج الملموسة في ميدان العمل، و عندما أقول انتهاج أسلوب جديد في العمل فإنني لا أقصد بذلك ترميم ما هو موجود و إدخال تعديلات على الأساليب المهلهلة التي أثبتت التجربة فشلها في ميدان العمل، إذ لابد من الارتكاز على الموضوعية في العمل ووجود الرغبة الصادقة لقبول أفكار جديدة لإنعاش عملية التغيير الاجتماعي وتحقيق الأهداف المرسومة، وعليه، فإن إعادة المصداقية لمؤسساتنا الوطنية يتوقف على رغبتنا في تغيير أسلوب العمل بحيث يتم اتخاذ القرارات في المؤسسات حسب المقاييس الآتية:
- دراسة منهجية العمل في كل مؤسسو على حدة و رسم أهدافها من طرف المختصين بمعاونة المسيرين، و تحديد استراتيجية العمل والتمويل على المدى القصير و المدى البعيد (وهذا بدلا من الاستراتيجية الحالية القائمة على أساس اتخاذ القرارات في القمة التي تعتبر بعيدة عن ميدان العمل و التدخل في شؤون المؤسسات لأسباب سياسية غير مبررة ).
- ضرورة تغيير أسلوب التوظيف بحيث لا يحق لأي مسؤول أن يقدم بمفرده اقتراح أو تعيين أي شخص في وظيفة حسب أهوائه و مزاجه الشخصي، بل يتعين إسناد مهمة التوظيف لمجموعة أو لجنة من الأفراد الذين يأخذون بعين الاعتبار مؤهلات و تخصصات الأفراد المرشحين لكل منصب ( وهذا بدلا من الأسلوب الحالي المتمثل في تعيين الأصدقاء و الأقارب في وظائف وذلك بغض النظر عن المؤهلات والخبرة المطلوبة في الوظيفة).
- انتهاج سياسة جديدة في ميدان استقبال المواطنين يوميا في الإدارات الحكومية والتحاور معهم في القضايا التي تشغل بالهم و إقناعهم بوجود رغبة صادقة في تقديم الخدمات إليهم إذا كان ذلك ممكنا أو إعطائهم التبريرات و الحجج المقنعة لرفض مطالبهم (وهذا، بدلا من الأسلوب البالي و القائم على أساس تخصيص يومين في الأسبوع لاستقبال المواطنين و المكوث في المكاتب لتمضية الوقت عن طريق إجراء اتصالات تلفونية مع الأصدقاء ، وقراءة الأخبار الرياضية والإعلانات اليومية في الجرائد الوطنية ) .
وقد رأيت هذا الأسلوب مطبقا في موريتانيا حيث أخبرني حاكم إحدى الولايات التي كنت أزورها أنه يستقبل بنفسه المواطنين يوميا و يحل مشاكلهم المعروضة عليه في حينها، و بذلك استطاعت الولاية، في رأيه، التغلب على المشاكل المستمدة من الأمية و مماطلة البيروقراطية و ربح الوقت بحيث يعود المواطن إلى منزله وحاجاته مقضية في أي وقت يقدم فيه .
- إنّ تقسيم العمل بين القائمين بالأعمال الاستشارية و الأعمال الإدارية تعتبر في نظري هي العملية المطلوبة في يومنا هذا للتغلب على أزمة التسيير، وإذا بقينا على الوضع الحالي المتمثل في إسناد المسؤولية المطلقة إلى الجهاز التنفيذي فإننا لن نتقدم أبدا، لأن أصول التنظيم الإداري تفترض أن يكون هناك جهاز آخر استشاري يتمثل دوره في القيام بالدراسات و الأبحاث و إيجاد الحلول للمشاكل التي تواجهها الإدارة في أعمالها اليومية، وما ينبغي أن يكون في دراسة منهجية العمل وإجراءاته و متابعته، و بعد التأكد من سلامة الاستراتيجية يأتي دور التنفيذ (وهذا بدلا من الأسلوب العقيم الذي يرتكز على تكديس جميع النشاطات في يد المدير التنفيذي) .
- ضرورة تحويل الجامعات و المعاهد العليا المتخصصة إلى ورشات عمل وتكليف العلماء للقيام بالأبحاث النظرية في المختبرات و في وحدات البحث العلمي والانتقال إلى الميدان لمساعدة المؤسسات في تطوير الأجهزة الميكانيكية و تحسين مستوى الإنتاج و إدخال التحسينات اللازمة على طريق العمل و تحديثه.
و بأسلوب آخر، فإن دور العلماء و الجامعات و المعاهد المتخصصة يتمثل في تقديم الدعم التقني لجميع المؤسسات الصناعية و الزراعية و الثقافية (وليس الاكتفاء بتدريس النظريات التجريدية وتخريج الطلبة الذين يحملون الشهادات و لا يعرفون شيئا في الميدان العملي .
- حتمية إيجاد مؤسسات و مراكز للأبحاث يتمثل دورها في إجراء الدراسات الميدانية و التعرف على أحاسيس و شعور الناس و آرائهم في مواضيع معينة، وبالتالي يمكن للسلطات الحكومية أن تتخذ الإجراءات الملائمة لكل مشكلة مستفحلة. ولعله من البديهي أن أشير هنا إلى أنه يصعب على أية حكومة أن تخدم المواطنين إذا تجاهلتهم و لم تسمح إلى آرائهم و تتعرف من أفواههم على حقيقة المشاكل التي يواجهونها يوميا، وتستفسر منهم عن الحلول المقترحة للتغلب على الصعاب التي يواحهونها. وعليه، فإن مصداقية الدولة وثقة المواطنين بقادتها مرتبطة بدراسات ميدانية للتعرف على شعور المواطنين و الحصول على تعاونهم للمساهمة في إيجاد الحلول العملية لكل مشكلة اجتماعية .
- ضرورة إنشاء مؤسسات مهنية للتدريب في كل الاختصاصات و تحويل الفائض من اليد العاملة في قطاع الخدمات الإدارية (غير المنتج) إلى قطاعات أخرى تنقصها اليد العاملة الماهرة. وبهذا الأسلوب يمكن توفير اليد العاملة المدربة لكل المؤسسات التي تنقصها الطاقات البشرية المتخصصة و تخفيف الضغط على الإدارات الحكومية التي تعاني من التضخم الوظيفي وقلة المردودية.
- يتعين على المسؤولين في الدولة أن يغيروا أسلوب العمل في المؤسسات الإدارية و الاقتصادية بحيث تكون لكل مؤسسة ميزانيتها الخاصة، و المدير و مساعدوه يحاسبون في نهاية العام على النتيجة المحققة و المرسومة في الخطة (وليس المحاسبة على مدى احترام الإجراءات القانونية وإظهار الطاعة للسلطة الوصية).
- لابد من الابتعاد عن فكرة الاعتماد على العمل الرسمي (البيروقراطي فقط) وإهمال العمل غير الرسمي. و نقصد بهذه الفكرة أن جميع دول العالم تعتمد على تجارها و علمائها و مثقفيها للاتصال بزملائهم في أقطار أخرى و إقامة علاقات صداقة و تعاون و تبادل الآراء، و خاصة في القضايا و المصالح المشتركة، إلا أنه يلاحظ في بلادنا و خاصة في وزارة الشؤون الخارجية، أنه لا تعطي أية قيمة للشخصيات الجزائرية في الميادين التجارية و العلمية و الثقافية، وبالتالي يتم الاعتماد على الممثلين الرسميين للدولة الذين ينحصر دورهم في تبليغ الرسائل الرسمية إلى الحكومات المعتمدين لديها. و لهذا فإن عدم إعطاء العناية و الأهمية للعلماء و رجال الأعمال في التعاون الدولي يعتبر الثغرة البارزة في الدبلوماسية الجزائرية .
- إن المصداقية تنبع من وجود سلطة عليا بالبلاد، قوية بفضل الخبرة والمهارة التي يتمتع بها كبار المستشارين في منبع السلطة، حيث يعول عليهم في وضع خطط دقيقة و مدروسة، ثم متابعة تلك الخطط في مرحلة التنفيذ و ذلك بالتعاون مع الوزارات المشرفة على كل القطاع. و بدون متابعة لا يمكن تحقيق أية نتيجة إيجابية لأن كل وزارة تعمل حسب مزاج المسؤولين فيها .
- ضرورة التخلي أو الابتعاد عن فكرة المدير المطيع، و تعويض هذا الأسلوب بمبدأ المقتدر أو الكفء، و بعبارة أخرى، ينبغي علينا أن نقبل بفكرة المواجهة والتحدي في العمل لأن المشكل في رأيي هو أن معظم المسؤولين في بلادنا يبحثون ويستعينون بالأشخاص الذين يجاملونهم و عندهم استعداد تام لتنفيذ تعليماتهم بدون نقاش أو حوار. أما الأشخاص الذين عندهم كفاءة و مقدرة على العمل و مواجهة رؤسائهم بالحقائق المرة، فلا تعطى لهم فرصة تقديم خدمات جليلة لأبناء وطنهم.
- يجب تشجيع المبادرات و تحفيز الأفراد لكي ينتجوا و يقدموا خدمات ملموسة لمواطنهم، و هذا معناه القضاء على عقلية الاتكالية على الدولة لكي توفر كل شيء للأفراد الكسالى ، وانطلاقا من هذه الحقيقة ينبغي أن نبدأ بتغيير عقلية الفرد لأن الفرد المقتدر والمبدع هو الذي يحرك الجماهير و يوجه الطاقات والمواهب الكامنة فيهم، و يخلق المعجزات. ولهذا يجب علينا أن نغير أسلوب التعليم بحيث لا نمنح شهادة التعليم الجامعي إلا للإنسان الذي يبدع في مجال اختصاصه ويستفيد المجتمع من علمه و خبرته و كفاءته في مجال عمله. ولست أدري لماذا لا نقلد الدول المتقدمة في خلق العادات و التقاليد العلمية التي تخدم المجتمع والدولة. فمنذ مدة قرأت في جريدة ” هيرالد ترييون ” ، في العدد الصادر بتاريخ 04/08/1989 أن الحكومة الفدرالية الأمريكية اتخذت قرارا بتعديل قانون الأجور وقامت بإعفاء 10% من الشخصيات العلمية في جهاز الخدمة المدنية بالحكومة الفيدرالية من عدم تطبيق القانون العام للأجور عليهم، و السماح لهؤلاء العلماء المبدعين بالحصول على رواتب عالية تصل إلى 134250 دولار في السنة (أي تزيد عن رواتب نواب الشعب المنتخبين في الكونغربس الأمريكي و الذين يحصلون على رواتب سنوية محددة بـ 89500 دولار، وتزيد أيضا عن راتب نائب الرئيس الأمريكي المنتخب الذي يتقاضى (113000 دولار أمريكي )، والسؤال المطروح هنا: لماذا أتيت على ذلك هذا المثال ، وما هي الغاية من هذا القرار؟ و الجواب على ذلك أن مصلحة الدولة في أمريكا اقتضت هذا التعديل القانوني على رواتب العلماء المبدعين لأن الدولة في حاجة ماسة إلى هؤلاء العلماء المبدعين الذين يخلقون المصداقية في مؤسسات الدولة، و القيادة السياسية تعتمد على هؤلاء المختصين في كل صغيرة و كبيرة لدراسة الأوضاع وتقديم الحلول العلمية لكل مشكلة أمنية و اقتصادية و ثقافية يواجهها المجتمع .
خلاصة واستنتاجات
إن مشكلة الجزائر الأساسية هي سوء التسيير و عدم وجود أي تقييم علمي وموضوعي لقضايانا، و اهتمامنا يخلق الولاء للأشخاص و ليس للمؤسسات و لهذه الأسباب أصبحت الحكومة و إداراتها بلا سلطة فعلية، و المسؤولون فيها غير قادرين على التحاور وإقناع الناس بسلامة المنهج الذي سطرته الحكومة ، كما يلاحظ أن هناك فراغا سياسيا واقتصاديا وثقافيا في جميع الميادين .
وقد عبر عن هذه الحقيقة الفنان الجزائري أحمد وهبي في حديثه إلى جريدة الشعب، بتاريخ 11 سبتمبر 1989 عندما قال بالحرف الواحد: نحن جزائريون عندنا النيف …. عندما رأينا الساحة الفنية في يد مسؤولين منحطين خرجنا منها، و كان الفراغ” ! وعليه، فمثلما قال هذا الفنان ، إن أزمة الجزائر هي أزمة المسؤولين ليسوا في المستوى في كل ميدان، و بذلك فقدت مؤسسات الدولة مصداقيتها بسبب تهميش العنصر الكفء وحرمانه من المساهمة في تشخيص القضايا التي يواجهها مجتمعنا .
وخلاصة القول، فإن الوقت قد حان للتعرف على القوى التي تؤثر في مجتمعنا وتقوده. هل سنحافظ على الجهاز البيروقراطي في الدولة الذي تنصب انشغالاته على حلل المشاكل المستعجلة التي تطفو على السطح باستمرار، أم نعمل على تقوية الجهاز الاستشاري للدولة و تسعى لتجنيد أقدر العناصر في الجامعات و المعاهد الوطنية المتخصصة و نطلب منها أن تعكف على دراسة مشاكلنا و وضع الاستراتيجيات الحقيقية لحل المشاكل الصعبة التي يواجهها مجتمعنا ؟ إن الشيء الواضح هو أن التطورات الاجتماعية في البلاد قد خلقت أنماط جديدة في المعيشة و سلوك الأفراد، و علينا أن نبحث عن الرجل المقتدر والمتخصص الذي يقدم للمواطن الجزائري كل ما يحتاجه من ثقافة رفيعة المستوى، واقتصادا مزدهرا و استقرارا نفسيا حتى ينعم بالهناء يوم تقوم مؤسسات الأبحاث والدراسات بصياغة البرامج الوطنية المدروسة بدقة والمعبرة عن احتياجات أبناء شعبنا، ويوم تقوم القيادة أي قيادة بتوظيف و تجنيد الرجال القادرين للدفاع عن البرامج الهادفة، وتنفيذها عن قناعة و بعزيمة قوية ما دامت تجسم المصلحة العامة .*
(*) : دراسة منشورة في صحيفة الشعب الجزائرية ، العدد 8051 ، يوم 19 سبتمبر 1989 .
([1]) : دراسة منشورة بجريدة الشعب بتاريخ 15 سبتمبر 1989 .
* أستاذ بمعهد العلوم السياسية ( جامعة الجزائر )