كيف يمكن تحسين مستوى التعليم العالي الجامعي
ليس هناك جدال بأن العلم ليس هو الحصول على المعرفة في تخصص معين وإنما هو سبيلنا إلى اكتشاف القوانين التي تحكم العالم الطبيعي، والاجتماعي بهدف التحكيم في هذه القوانين وتستخيرها لخدمة الإنسان.
وخلافا لما يعتقد معظم الناس، فالعلم ليس فقط مجموعة من المعارف تستعمل كوسيلة للاختراع و الابتكار وإنما هو تفكير منطقي مرتبط بالبيئة والسلوك وأسلوب العمل والتفكير ووعي ينعكس على صحة الفرد ومسكنه وغذائه. وبإيجاز، أن العلم قبل أن يكون قدرة على الإختراع، هو قدرة المنظم السليم.
إن ما أريد أن أصل إليه من هذه المقدمة هو أن مشكلتنا في العالم الثالث تنبع من إهتمامنا بالأشياء المادية التي أنتجها غيرنا من سيارات فخمة وطائرات نفاثة وأجهزة إليكترونية رائعة، وننسى أو نتناسى ذلك الإنسان الذي يرجع إليه الفضل الذي استعمل تفكيره وساهم في تحقيق تلك المنجزات العلمية بعد أن وجد البيئة المحفزة للعمل،والتشجيع المتواصل للبحث العلمي وتحسين ما هو موجود، والتزام جميع الأفراد بالقيم الراقية والقانون الذي يسري مفعوله على الجميع. وعليه فإن مشكلتنا في العالم الثالث هي أننا نفتقر بالدرجة الأولى إلى العلماء والمنظرين الذين يتحملون مسؤولية صياغة النظريات التي تلائم التنمية في بلادنا وتحديد الرؤيا المستقبلية وتوضيح مناهج العلم وطرق التفكير التي تقود الإنسان إلى الآفاق الجديدة التي يطمح لبلوغها، لأن العلم العملي وليد النظريات التي تثمر وتنتج الإختراعات وتساعد الإنسان. وانطلاقا من كل ما تقدم، فإن دور الجامعات يتمثل في تهيئة الجو لرجال العلم والمعرفة لكي يضعوا التصورات أمام كبار المسؤولين في الدولة وقادة المجتمع، وتزويدهم بالحقائق والتحليلات العلمية التي تمكنهم من فهم جوهر القضايا الإجتماعية واتخاذ الإجراءات الدقيقة أوسن القوانين التي تخدم المصلحة العليا للدولة والمجتمع، وبهذا يتضح دور العلم والمتمثل في دراسة العوامل الممكنة للقرار الإستراتيجي حتى يتيسر بذلك الكشف عن مختلف الإختيارات المتاحة أمام صانع القرار.
الوضع الحالي للتعليم الجامعي
لكي نتعرف على حقيقة التعليم الجامعي ووضعه الحالي، ينبغي أن نشير منذ البداية إلى أن الأهداف المتوخاة من التعليم الجامعي في الوقت الحاضر هي في الواقع أهداف مرحلية اقتضتها ظروف الجزائر في الستينات والسبعينات، وخاصة أن الخطة التعليمية في ربع القرن الماضي كانت تتطلب تعليم وتكوين أكبر عدد ممكن من الخريجين الذين تعتمد عليهم الثورة الصناعية والثقافية والتعليمية في المجهودات الرامية لتحقيق نهضة علمية شاملة بالبلاد. ونظرا لتصميم القيادة السياسية بالجزائر على إعادة الإعتبار للغة العربية وتعميم استعمالها في الإدارات ومؤسسات التعليم بصفتها أداة للتبليغ والتكوين وخلق الوعي وذلك لأنها جزء لا يتجزأ من الشخصية الوطنية، فإن الجزائر قد أرسلت آلاف الطلبة في بعثات علمية إلى الدول العربية الشقيقة.
وبناء على ما تقدم، فإن التعليم الجامعي قد تميز بالمحاولات الرامية إلى تعليم وتكوين الشبان الجزائريين الذين يمكن توظيفهم في مشاريع التنمية الصناعية والإدارية والتعليمية، وقد استطاعت مؤسسات الدولة أن تستوعب نسبة كبيرة من الخريجين من الجامعات الجزائرية وذلك بفضل الطفرة البترولية التي حدثت بالبلاد في الفترة الممتدة من 1973 إلى غاية 1985. وبعبارة أخرى فإن الدولة الجزائرية قد اهتمت بالكم وليس بالنوع وذلك خلال الخمس والعشرين سنة الماضية. ونتيجة لهذه السياسية التي كانت ترمي إلى تعليم أكبر عدد ممكن من أبناء الجزائر وتمكينهم من الحصول على وظائف في مؤسسات الدولة، فقد اتسمت سياسة التعليم الجامعي بالتركيز على العناصر التالية:
1- إعطاء فرص للشباب لكي يتعلموا ويحصلوا على شهادات تمكنهم من أن يحلوا محل المتعاونين الأجانب.
2- تقديم الدعم المالي للجامعات لكي تقوم بتكوين الموظفين للدولة.
3- إعتبار الأساتذة، كأنهم عمال أو موظفين إداريين حيث يقومون بالتدريس وغير مطلوب منهم وضع التصورات والنظريات العلمية.
4- إعتبار الجامعات بمثابة قطاع يقدم الخدمات للمتعلمين وليس قطاع إنتاجي مسؤول عن إعداد كوادر المستقبل.
5- إلغاء الكليات في الجامعات وتحويلها إلى معاهد يرأسها إداريون ونوابهم، وبذلك تحول العميد إلى مدير إداري يهتم بالتسيير أكثر مما يهتم بالتعليم والتكوين.
وهكذا تكون الإدارة قد طغت على البيداغوجية وأصبح التعليم ثانويا والإدارة هي الأصل.
6- توظيف عدد كبير من حملة درجة الليسانس والماجستير وذلك بقصد توفير الشغل لهم، وتأطير العدد الهائل من الطلبة الذين يدخلون كل سنة.
7- تقليص دور الأقسام العلمية في المعاهد، وهيمنة مدراء المؤسسات التعليمية على كل التخصصات بالمعاهد، وبذلك تكون الأقسام العلمية قد فقدت هويتها ومكانتها المرموقة في كل جامعة.
8- السماح للمعيدين والمدرسين المساعدين بالمشاركة في وضع السياسة التعليمية بالجامعات وبالتالي، عزل الدكاترة الذين أكملوا دراساتهم الجامعية بحيث أصبحوا أقلية مقارنة بالعدد الهائل من حاملي الليسانس والماجستير.
9- تقوية نفوذ وزارة التعليم العالي على حساب الجامعات واستفحال المركزية إلى درجة أن مديري الجامعات تحولوا إلى بيروقراطيين منفذين للسياسات التي تقررها السلطة المركزية.
10 – في محاولة للفصل بين الوظائف الإدارية والوظائف البيداغوجية على مستوى كل معهد، تقرر إنشاء المجالس العلمية ودورها استشاري وبالتالي لا سلطة لها. وكما قال الزميل الدكتور تجاني بشير بمعهد الجغرافيا والتهيئة القطرية بجامعة وهران (بجريدة الشعب يوم 12 جويلية 1987) “فبالرغم من وجود قانون واضح لإنشاء هذه المجالس فهذا القانون لا يحترم إلا نادرا. فرئيس المجلس العلمي مثلا يشترط فيه أن يكون أعلى رتبة بين أعضاء المجموعة التربوية بالمعهد، بينما يعين في غالب الأحيان الأقل رتبة…….
وكثيرا ما يبعد الأساتذة الأعلى رتبة في هذه المجالس لأهداف مجهولة. وتملأ هذه المجالس أحيانا بأعضاء لا يحملون حتى شهادة الماجستير، وبالتالي تنحرف هذه المجالس عن مقاصدها الرئيسية وتوجه لتحقيق أهداف خاصة وتلبية رغبات الموجودين في هذه المجالس في الحصول على منح وتدريبات وانتداب الخ”.
11 – بمقتضى المرسوم رقم 83-544 الصادر بتاريخ 24 سبتمبر 1983، تقرر إنشاء مجلس توجيه الجامعة وذلك بقصد التنسيق بين الجامعات والقطاعات المستخدمة للطلبة المتخرجين، ولكننا في جامعة الجزائر لم نحس بوجوده حتى الآن، سوى الإعلان عن تنصبيه في إحدى المرات. ومعنى هذا أن الجامعات الجزائرية تقرر برامجها العلمية وهي بمعزل عن القطاعات التي تستخدم خريجها.
12 – وبالنسبة لتكوين الأساتذة في الخارج وجزأرة التعليم العالي، فإن حكومتنا قد صرفت أموال طائلة وبسخاء على الطلبة الموفدين للخارج، لكن المشكل هو أن الأقسام العلمية في المعاهد لا تتابعهم ولا تراقبهم وبالتالي فان الطلبة الذين يدرسون بالخارج لا تربطهم أية صلة أو اتصال بالأقسام المتخصصة في جامعتهم وعودتهم بشهادة لا تضمن لهم منصبا، وعودتهم بدون شهادة علمية لا يعرضهم لأي عقاب من معاهدهم.
13 – أما طلبة الدراسات العليا الذين يواصلون دراساتهم بالجامعات الجزائرية وعددهم الآن بالآلاف فيصعب عليهم العثور على المشرف الذي يتابعهم، لأن عدد الأساتذة الذين يحملون رتب علمية عالية قليل جدا، وهم بدورهم عندهم التزامات علمية تتمثل في التأليف وتقييم الدراسات للمجلات المتخصصة.
14- ونظرا لتزايد الطلبة وقلة قاعات التدريس، فقد تم تحويل مكاتب الأساتذة إلى قاعات للتدريس، ولم يعد في إمكان الأساتذة استقبال الطلبة وتوجيههم حسب الأصول العلمية.
15- وفي بداية السبعينات تقرر إنشاء اللجان البيداغوجية التي تجمع الأساتذة والطلبة ودراسة المسائل البيداغوجية، لكن هذه اللجان البيداغوجية تحولت إلى لجان لتحديد تواريخ الإمتحانات لا غير. إن القضايا البيداغوجية الحقيقية لا يستطيع أي معهد أن يحلها على مستواه.
16- ولعل الشيء المدهش في التعليم العالي في وقتنا الحالي هو التساهل الهائل تجاه الطلبة غير الجديين حيث تعقد دورات إستدراكية متعددة للطلبة الراسبين في كل فصل، أي طال الزمن أم قصر، لا بد أن يأتي يوم ينجح فيه الطالب الضعيف الذي ليس له مستوى، وهذا معناه احتلال أماكن بيداغوجية لمدة طويلة من الزمن وحرمان طلبة آخرين من الدخول إلى الجامعات.
17- إن الدولة قد قامت بتشييد الجامعات والمعاهد الوطنية العملاقة ودفعت ملايير الدنانير لبناء المدرجات وقاعات التدريس العلمية، لكن الكتاب الجامعي الذي هو المادة الخام لكل برنامج تعليمي لم يحظ بدعم وتشجيع مالي لغاية الآن، ولا زال الطالب يعاني من الحصول على الكتاب الجامعي الذي ينمي قدراته العقلية والمهنية ويمكنه من اكتساب مهارات فنية تعتبر ضرورية لرفع حصيلته العلمية.
كيف يمكن تحسين مستوى التعليم الجامعي؟
بعد أن استعرضنا الحقائق المتعلقة بمسيرة التعليم الجامعي ببلادنا والثغرات التي برزت فيه نتيجة لتغير الظروف والأوضاع، يتعين علينا أن نتطرق إلى أساليب تحسين المستوى التعليمي وإلى كيفية إعادة تنظيم الجامعات الجزائرية حتى تستطيع هذه الجامعات أن تساهم في خلق نهضة علمية وإبداعية في الجزائر.
والنقطة الأولى التي ينبغي أن ننطلق منها في الدعوة إلى تحسين مستوى التعليم الجامعي ينبغي أن تتركز على الإنسان وإعطائه القيمة التي يستحقها في مجتمعه. ومعنى هذا ينبغي علينا أن نغير نظرتنا إلى العلم والعلماء وإلى التكنولوجيا. فالوظيفة الرئيسية للعلم هذا تتمثل في القيام ببحوث نظرية وتطبيقية، لتوسيع نطاق الفهم وتعميق معرفة الإنسان بنفسه وبالبيئة التي يعش فيها، والعمل على تحويل النظريات العلمية إلى منفعة علمية تؤثر في مناهج الحياة كل يوم. والإنسان طبعا، هو الذي يخترع ويحول المعرفة العلمية إلى عنصر إنتاج وذلك عن طريق إستخدام القواعد الدقيقة للمعرفة وتحويل النظريات إلى معرفة مطبقة في الميدان العلمي. وباختصار، فإن العالم المتقدم متفوق علينا ليس بقوة التكنولوجيا، وإنما متفوق علينا بالإنسان المتميز بالعلم والمعرفة والذي يبحث باستمرار عن تحسين الأحوال المادية والفنية لمجتمعه. ولكي يحصل أي تقدم في الجزائر أو في بلد، فلا بد أن نعطي قيمة للإنسان وللعلم النظري الذي يتجه إلى تفسير الواقع ثم نهتم أيضا بالعلم التطبيقي الذي يتجه إلى التطبيق في أرض الواقع. وعلم النظريات يهتم، بطبيعة الحال، بما ينبغي أن يكون، أما العلم التطبيقي فتحكمه إعتبارات المردودية والفائدة المباشرة التي تجنى منه بصفة ملموسة.
و النقطة الثانية التي ننطلق منها لتحسين مستوى التعليم الجامعي هي الدور المحدد لوزارة التعليم العالي بصفتها السلطة العليا المشرفة على هذا القطاع. ومنذ البداية ينبغي أن نفصل في موضوع حيوي وهو أن دور الوزارة ينحصر في الجوانب الإدارية والمالية والتوجيهية بينما تقوم الجامعات بالدور البيداغوجي. وعليه، فإن الوظائف الأساسية لوزارة التعليم تتمثل في :
1 – إنشاء مجلس للتنسيق بين الجامعات الجزائرية ودراسة جميع المسائل التعليمية التي تخص الجامعات والمعاهد والوطنية.
2 – توزيع الإعتمادات المالية على الجامعات والمعاهد الوطنية.
3 – بناء الهياكل والمنشآت والمخابر العلمية للجامعات، حسب خطة وطنية مدروسة على المدى القصير والمدى البعيد.
4 – إنشاء لجنة وطنية دائمة لتقييم مستوى التعليم العالي، والتأطير، وفتح برامج جديدة في كل تخصص ومعرفة عدد الكتب والمجلات العلمية المتوفرة بكل معهد، بحيث يكون لهذه اللجنة حق إصدار عقوبات صارمة ضد أية مؤسسة تعليمية لا تتوفر فيها شروط التعليم الضرورية.
وبهذه الطريقة تستطيع وزارة التعليم العالي أن تجبر الجامعات على احترام المقاييس العلمية والجامعة التي تتهاون في ذلك تلاقي جزاءها.
5- إبرام الإتفاقات الدولية وتنشيط التعاون الدولي في هذا المضمار.
6- نشر إحصائيات دورية عن التعليم العالي.
7- التكفل بتوفير السكن والخدمات الضرورية لأستاذة التعليم العالي.
8- دعم الكتاب الجامعي والمجلات العلمية المتخصصة.
9- الإشراف السنوي على تخريج الطلبة وتكليف الشخصيات المرموقة بإلقاء كلمات في المتخرجين وتوعيتهم بدورهم القيادي بعد التخرج.
10- تكريم الطلبة المتفوقين وإعطائهم جوائز رمزية كل سنة.
هذه هي باختصار الوظائف الرئيسية لوزارة التعليم العالي.
أين السلطة البيداغوجية للجامعة؟
أما النقطة الثالثة التي ننطلق منها لتحسين مستوى التعليم الجامعي فتتعلق بالجامعات نفسها وهذا هو الموضوع الجوهري لهذا المقال. وفي اعتقادي أنه لا يمكن أن يتحسن التعليم الجامعي إلا إذا كانت للجامعات الجزائرية سلطة حقيقية في ميدان البيداغوجيا. وما نقصده بذلك أنه ينبغي على الجامعات أن تعتمد على نفسها في تسيير شؤونها وإثبات كفاءتها وإبراز مواهب ومهارات أساتذتها وطلبتها وأن لا تبقى منطوية على نفسها وتحقيق نفسها وتحقيق أهدافها. ولكي تستطيع الجامعات الجزائرية أن تكون منارة إشعاع علمي وفكري تنير طريق التنمية الشاملة في البلاد ينبغي عليها أن تقوم بما يلي:
1- أن تخصص لكل جامعة ميزانية مستقلة وهي تقوم بدورها بتوزيع الإعتمادات المالية على المعاهد وكل معهد يتحمل مسؤولية صرف حصته المالية.
2- تعيين رؤساء الجامعات من بين الأساتذة الذين يحملون أعلى الرتب الجامعية وذلك لمدة أربع سنوات حتى لا يبقى رؤساء الجامعات متخوفون من عزلهم من طرف وزارة التعليم العالي في حالة إختلافهم مع الوزارة. ثم إن احترام الرتب العلمية العالية في التعيين يمنع بعض الممارسات الخاطئة في الترقية العلمية حيث قد يطلب رؤساء بعض الجامعات ترقيتهم في الوظيفة من طرف المرؤوسين وهم الأساتذة الذين يحملون رتب أعلى من رتب رؤساء الجامعات.
3- ينبغي إعادة النظر في التنظيم الإداري للجامعات وتقسيم العمل بين القطاعات المتخصصة التي تخدم جميع المعاهد أو جميع الكليات. فالمفروض أن تنشيء الجامعات إدارات أو عمادات متخصصة في تسجيل الطلبة وقبولهم، والدراسات العليا والبحث العلمي والشؤون الأكاديمية وشؤون الطلبة، وهذه العمادات أو الإدارات هي التي تختص بالشؤون الإدارية وتقدم الخدمات لجميع الجهات المتواجدة بالجامعات، وهذا معناه أن المعاهد أو الكليات تتفرغ للمسائل البيداغوجية المتمثلة في التدريس والإشراف على الطلبة والقيام بالأبحاث العلمية والمشاركة في المؤتمرات الوطنية والدولية. ولو اعتمدت الجامعات على هذا التنظيم العقلاني لكان في إمكان رؤساء المعاهد التفرغ للتدريس وإرسال العلامات في نهاية كل فصل إلى إدارة التسجيل في الجامعة وتحويل الطلبة إلى العميد المختص في شؤونهم إلخ…
4- تماشيا مع الإقتراح الآنف الذكر ينبغي أن تكون ملفات الطلبة في عمادة أو إدارة التسجيل وليس في إدارة المعاهد كما هو الحال في الوقت الحاضر وإدارة التسجيل تتلقى التوجيهات والعلامات والمراسلات من عمداء المعاهد، ونفس الإدارة هي التي تسلم كشف العلامات للطلبة وتستقبلهم وتخفف العبء الثقيل على عمداء المعاهد.
5- إنشاء مركز للإعلام الآلي في كل جامعة يكون دوره تسهيل مهمات جميع الإدارات والكليات بالجامعة سواء بالنسبة للتسجيل وبرمجة القاعات أو القيام بالبحوث. وفي الحقيقة إن التخلف في انطلاق السنة الدراسية يرجع إلى عدم استعمال الكمبيوتر وإعداد قوائم الطلبة بسرعة وتوزيعهم على الأساتذة بعد الشروع في الدراسة.
6- إنشاء مراكز للطباعة والتصوير مهمتها الأساسية طبع المجلات العلمية لكل جامعة ونشر الكتب المقررة على الطلبة وإخراج نشرة أسبوعية تحتوي على نشاطات الجامعات والأساتذة والطلبة وتعريف المجتمع بما يجري في قطاع التعليم العالي.
7- تعيين لجان دائمة على مستوى الجامعات تتكفل المعادلات والترقيات والتوظيف ودفع المكافآت للأساتذة المختصين الذين يقيمون هذه الأعمال العلمية.
8- إنشاء مراكز جامعية للتنسيق بين الجامعات وبين القطاعات الصناعية والزراعية والإدارية التي يتعين عليها أن تستعين بالأساتذة المتخصصين لتطوير الأبحاث العلمية وتحسين مستوى العمل بها. وإذا نجحت الجامعات في توثيق أواصر العمل والتعاون بينها وبين المؤسسات الإنتاجية فإن ذلك يفتح المجال أمام العلماء الجزائريين لكي يبدعوا ويخترعوا الأجهزة العلمية التي تخدم الإقتصاد الجزائري. وكما هو معروف فإن الدول الصناعية تشجع شركاتها على الإستعانة بالخبراء لتحسين مستوى الأداء وزيادة الإنتاج.
9- إحداث مراكز للتطوير الإداري والقيام بالدراسات التنظيمية والقانونية التي تساعد رئيس الجامعة على إجراءات العمل الإداري وتسهيل عمليات التنظيم وإقرار القوانين، وفي العادة تعتمد الجامعات على مثل هذه المراكز لتطوير نفسها ومتابعة تنفيذ القوانين وتقديم الحلول لجميع المشاكل الإدارية والتنظيمية التي تبرز من حين لآخر.
10- إنشاء معاهد متخصصة في تدريس العلوم الإدارية في كل الجامعات لأن التنظيم هو أساس النجاح في كل مؤسسة، وللأسف الشديد فإننا في الجزائر مازلنا نهتم بالقانون الإداري الذي يدرس في جميع كليات الحقوق بالجامعات الجزائرية ولا نهتم بعلم الإدارة والتسيير والتنظيم لأن علم الإدارة سبق القانون الإداري في أية عملية تنظيمية. ففي علم الإدارة ينصب التفكير على كيفية التنظيم وأسلوب التسيير وطرق الإنجاز، وبعد الإنتهاء من وضع هذه الأرضية الأساسية يأتي دور القانون لتحديد العلاقات وضبط الإجراءات القانونية الملزمة لكل الأطراف. ولكي نتخلص من التعقيدات البيروقراطية العقيمة فلا بد أن نعلم شبابنا في الجامعات القواعد الأساسية لعلم الإدارة والتنظيم.
11- تقوية صلاحيات الأمين العام للجامعة، وجعله هو الركيزة الأساسية لكل جامعة جزائرية بحيث يشرف على الشؤون الإدارية والمالية والوسائل العامة. وبهذه الطريقة يتفرغ العمداء ورؤساء الجامعات للمسائل العلمية والأمانة العامة لكل جامعة هي المسؤولة عن جميع عمليات التسيير والمصروفات المالية والوسائل العامة.
أما النقطة الرابعة التي ننطلق منها لتحسين مستوى التعليم الجامعي فتكمن في تنظيم المعاهد أو الكليات بكل جامعة. وهنا ندخل ميدان التخصصات العلمية والبحوث الأكاديمية والتدريس. والسؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا هو فلسفة التعليم والغايات المتوخاة منه. هل يهدف التعليم العالي إلى إعطاء تكوين شامل وعام للطلبة بحيث يتخرج كل شاب وهو ملم بالمبادئ الرئيسية للغة، والإقتصاد ونظام الحكم السياسي، والإحصاء والإعلام الآلي، والثقافة الإسلامية، علم النفس، والصحة العامة، أم يتخرج الطالب وهو مكون في فرع معين من العلوم بالإضافة إلى إلمامه ببعض المواد القريبة من تخصصه؟ ويلاحظ هنا أن هذا الموضوع لم يفصل فيه حتى الآن، والمعاهد المتخصصة في الجزائر تركز على التخصص بينما يتم التوظيف في معظم الحالات على أساس الشهادة وليس بالضرورة على أساس التخصص الدقيق.
وكيفما كان الحال، فإن التعليم الجامعي في الجزائر قد تغلب عليه الطابع البيروقراطي منذ تحويل الكليات إلى معاهد في بداية السبعينات. فإذا كانت في الجزائر العاصمة 6 أو7 كليات (أي 6 أو 7 عمداء قبل الإصلاح الجامعي في عام 1971)، فإن عدد العمداء أو رؤساء المعاهد الآن في الجامعة المركزية وجامعة العلوم والتكنولوجيا بباب الزوار قد تجاوز 30 عميدا أو مديرا لمعهد (أي أن عدد المناصب الإدارية قد زاد بأكثر من أربع مرات). وإذا كان لكل عميد نائب عميد في السابق، فإن نواب المديرين أو العمداء قد تضاعف أيضا بحيث صار العدد 60 نائب مدير معهد بعد أن كان نواب العمداء لا يتجاوز 14.
التفتيت…والتجميع
ونستخلص من الحقائق المذكورة أعلاه، أن إصلاح التعليم في عام 1971، كان مثابة تجربة بقرطة التعليم العالي واعتبار مدير المعهد، كأي مدير في إدارة أو مؤسسة أخرى، فلم يعد لقب علمي يطلق على أقدم أستاذ في المهنة، متفرغ للتدريس كالمعتاد، وإنما نخفف عنه عبء التدريس لا غير.
وبناء على ذلك فإنه من الغلط في رأي تفتيت الكليات إلى معاهد لأن المعاهد التهمت التخصصات العلمية وانغلقت على نفسها وصار كل مدير معهد يتصرف في هيأة التدريس بمعهد فقط، في حين أنه كان من المفروض أن يتدعم الاختصاص في كل كلية، وأساتذة كل كلية يقومون بتدريس مواد تخصصهم في كل قسم يوجد بالكلية.
ولكي يتحسن التعليم الجامعي ويتميز بالنوعية، فلا بد أن ندخل التعديلات الآتية على نظام المعاهد الموجدة حاليا بحيث :
1 – يتم توثيق العلاقات بين المعاهد والقطاعات المستخدمة للطلبة المتخرجين. فالمعاهد بصفتها مؤسسات علمية تضم عدة تخصصات متقاربة من بعضها البعض يتعين عليها أن تعمل بالتنسيق مع الوزارات والمؤسسات في الإختصاصات المتقاربة من بعضها البعض.
2 – المشاركة الفعالة في اجتماعات المجلس الاعلى للجامعة وتحديد الأهداف العامة للتعليم الجامعي في مجالات التخصص وحل مشاكل معادلة الشهادات وتقييم التقارير والمقالات العلمية المتعلقة بالترقية.
3 – الإشراف على تطبيق القوانين والقرارات والمنشورات الواردة من الجامعة ووزارة التعليم العالي والتأكيد من عدم الإخلال بالقيم والمقاييس العلمية في جميع الأقسام التابعة لكل معهد.
4 – يقوم مجلس إدارة المعهد بإعداد تقارير سنوية تتضمن حصيلة العمل السنوي سواء بالنسبة للمتخرجين أو للمسائل البيداغوجية التي تهم هيئة التدريس الطلبة بصفة عامة.
5 – تنشيط العمل والتعاون بين الأقسام وخلق أرضية قوية للعمل المشترك. كما هو معروف، فإن المشكل الأساسي في معظم المعاهد، يتمثل في تحيز معظم مدراء المعاهد إلى قسمهم أو تخصصهم، وبالتالي التركيز على تدعيم ذلك الاختصاص على حساب اختصاصات الأقسام الأخرى.
6 – إعطاء صلاحيات واسعة لمدراء المعاهد في الميدان المالي بحيث يتحمل مدير كل معهد مسؤولية صرف الإعتمادات المالية المخصصة لمعهده سواء بالنسبة للتكوين في الخارج، أو استدعاء الأساتذة الزائرين، أو المشاركة في المؤتمرات الدولية.
7- ضرورة خلق نظام التناوب على المسؤولية في كل معهد، إذ يتعاون الأساتذة فيما بينهم لمدة معينة، ثم يخلفه زميل آخر منهم بعد انقضاء المدة الزمنية لعمادته. ويستحسن أن يتناوب على المسؤولية الإدارية أساتذة من مختلف الأقسام وليس من قسم واحد.
أما بالنسبة للمجالس العلمية التي تم إنشاؤها بمقتضى المرسوم 83- 544 الصادر بتاريخ 24 سبتمبر 1983، فليس هناك جدال بأنها لم تكن مجدية ولا ترتقي إلى مستوى الآمال المعلقة عليها، لأن المجالس العلمية لا سلطة لها ورأي أعضائها إستشاري. ثم إن الشيء الملفت للإنتباه في هذا الموضوع أن مدير المعهد هو الذي يقوم باقتراح رئيس المجلس العلمي على رئيس الجامعة، أي يقترح الإنسان الذي ينسجم معه ويطيعه وبالتالي يحول المجلس العلمي إلى وحدة علمية تابعة لمجلس الإدارة في المعهد. وفي الواقع أن المجلس العلمي هو امتداد لمجلس الإدارة في المعهد، لأنه يتشكل من المدير ونوابه ورؤساء أقسامه. وبناء على ما تقدم، فإن الأمانة العلمية تقتضي قيام مجلس علمي مستقل عن مجلس الإدارة يتكون من أساتذة مرموقين في المعهد وعندهم رتب علمية عالية، تسمح لهم بتقييم الأبحاث العلمية والرسائل الجامعية وتوظيف الأساتذة الذين تتوفر فيهم الشروط الحقيقية لشغل وظيفة مدرس بالجامعات الجزائرية.
إعادة الإعتبار للتخصصات العلمية
ونصل الآن إلى المرحلة الخامسة من مراحل تحسين التعليم الجامعي وهي مرحلة الأقسام العلمية. وأعتقد أنه لا يمكن إدخال النوعية على التعليم العالي إلى بإعادة الإعتبار للأقسام والتخصصات العلمية. فالمفروض أن لا يتدخل مدير أي معهد في شؤون الأقسام العلمية، والأساتذة المتخصصون بكل شعبة علمية هم الذين يقومون بـ:
1- إنتخاب رؤساء الأقسام.
2- إرسال الطلبة إلى الخارج لكي يتخصصوا ثم يتابعونهم باستمرار.
3- توزيع المواد على زملائهم في الأقسام.
4- التناوب في التفرغات العلمية بحيث عندما ينتدب زميل إلى الخارج يأتي من يحل محله، ثم يتفرغ زميل آخر للتفرغ العلمي بعد عودة زميله من الخارج إلخ…
5- توزيع طلبة الدراسات العليا على الأساتذة بالتساوي وتحديد المشرف على كل مجموعة من الطلبة حسب الإختصاص.
6- تحديد إعتماد مالي للقسم، وعلى أعضاء مجلس القسم أن يوزعوا على الأساتذة الذين يشاركون في مؤتمرات دولية النسبة المخصصة للقسم.
7- توظيف الأساتذة الجدد الذين يحتاجهم القسم بناء على نسبة معينة للطلبة بالنسبة لكل أستاذ.
ومثلما هو الحال في كل جامعات العالم، ينبغي أن يحدد من هو الشخص الذي يحق له التصويت في القسم، لأن النظام الدولي المألوف يسمح بالتصويت فقط للأفراد الذين يحملون المؤهلات العلمية العليا، وبذلك يتشجع الذين لم يكملوا دراساتهم العليا أن يتفرغوا لها حتى يكتسبوا حق التصويت في القضايا التي تتعلق بمهنة التدريس.
حتمية القيام بإصلاحات في البيداغوجيا
إن إدخال إصلاحات على أنظمة العمل بوزارة التعليم العالي، وتحسين طرق التسيير وتحديد صلاحيات الجامعات والمعاهد والأقسام تعتبر غير كافية في حد ذاتها لإدخال النوعية على التعليم الجامعي. فلا بد أن تقترن هذه الإصلاحات المقترحة بإعادة النظر في برامج التعليم وتحديد الأهداف وإدخال التكنولوجيا الحديثة في الإختصاصات والتركيز على الإختصاصات التي تحتاج المؤسسات إليها في مسيرة التنمية الوطنية بالجزائر. وتتمثل نقاط الضعف في البيداغوجيا فيما يلي :
1- المشكل الأساسي في التدريس أو التعليم العالي في بلادنا أنه موجه لتكوين أساتذة في التعليم الثانوي أو الجامعي.
فمحتوى المواد عبارة عن نظريات مأخوذة من هنا وهناك ولا يوجد الأستاذ الذي يختبرها ويتأكد بالبراهين والحجج الدامغة على صحتها، ملاءمتها لما هو موجود في أرض الواقع الجزائري. وفي الواقع أن ما يدرس في معظم المعاهد، هو عبارة عن نظريات تجريدية، يفتقر إلى المصداقية في ميدان العمل. فالمفروض مثلا، في طلبة المعهد الوطني للفلاحة أن يتلقوا النظريات في المدرجات ثم ينتقلون باستمرار إلى الحقول ليعرفوا طبيعة وحقيقة التربة الجزائرية، ونوعية الخضر وأشجار الفواكه التي تزرع فيها. والمفروض كذلك أن يقضي طلبة الحقوق معظم أوقاتهم في دراسة الحالات وحيثيات الأحكام، وزيارة المحاكم وقضاء التربصات مع كبار المحامين.
2- الثغرة الثانية الموجودة في التعليم الجامعي هي انعدام التخصص الدقيق للأساتذة. فالمفروض أن يتم توظيف الأساتذة حسب الحاجة لتدريس مواد معينة. وعندما يقوم الأستاذ بتدريس مواد عنده مهارة فيها وقدرة على تدريسها فإن كفاءته تظهر والطلبة يستفيدون ويتعلقون بالعلم وبذلك تعم الفائدة ويقبل الطلبة على الدراسة. أما إذا كان الأستاذ يقوم بتدريس المواد التي تعطى له بغض النظر عن التخصص فإنه لا يبدع فيها ويسأم الطلبة من محاضراته.
3 – العيب الثالث الموجود في البرامج التعليمية الجامعية هو أن نسبة كبيرة من المواد تشتمل على محاضرات وأعمال توجيهية أو تطبيقية. وميزة هذا النوع من البرامج التي تكثر بها المحاضرات والأعمال التطبيقية أن عدد الأساتذة يتضاعف ويتضخم. أما العيب الكبير في هذا التنظيم أن الطلبة يشعرون بالقلق لأن المحاضر يتكلم عن شيء والمطبق يتكلم عن شيء آخر. ثم إنه قد لا يوجد أستاذ يقبل أن معيدا أو مطبقا لأستاذ أخر، لأن كل واحد يعتبر نفسه هو مسؤول المادة. وزيادة على ذلك، فكل واحد منهما يقيم الطالب بطريقته الخاصة، والمفروض في المواد التي تكون فيها أعمال موجهة أن يحصل الطالب على ثلث العلامة من امتحانات الأستاذ المحاضر والثلث الأخر من الامتحان النهائي، والثلث الباقي من الأعمال الموجهة.
4 – الثغرة الرابعة التي يمكن ملاحظتها في التعليم الجامعي أن حجم الساعات في التدريس غير دقيق أو غير محترم ويختلف من معهد إلى معهد. ولهذا نجد بعض الأساتذة يأخذون نصابهم الكافي، في حين أن بعض زملائهم يأخذون نصف النصاب وهذا يؤثر نفسيا على نفسية ومعنويات الأستاذ الذي يحمل عبء كاملا في التدريس والإشراف.
5 – نقطة الضعف الخامسة في التعليم هي اشتراك عدة أساتذة في تدريس ملتقى واحد والمفروض أن يتكفل أستاذ واحد بكل ملتقى، وإذ أراد أن يقيم أبحاث الطلبة من طرف لجنة علمية، فهذه مسألة مقبولة جدا. أما أن يسجل نفسه في ملتقى وأستاذ آخر يقوم بالتدريس فهذه حيلة غير مقبولة مهنيا.
6 – هناك ضعف في التدريس الميداني حيث أن المؤسسات تتحفظ على قيام الطلبة بالتربصات فيها والتعرف على النظريات المطبقة في ورشات العمل. وإذا كان من الصعب استيعاب عدد كبير من الطلبة بالنسبة للتربصات فالمفروض أن يقوم الطلبة بزيارات ميدانية للمؤسسات والتعرف على سير العمل وأخذ فكرة عن إنجازها وطرق تقديم الخدمات أو تسويق الإنتاج بها.
7 – هناك العديد من المعاهد التي تمنح شهادتي الماجستير والدكتوراه، لكنها للأسف الشديد لا يقوم بتدريس اللغات الأجنبية ويتخرج الطالب ويصير أستاذا وهو لا يعرف المصطلحات العلمية في تخصصه ولا يستطيع أن يراجع كتابا بلغة أجنبية في مادته.
8 – تفتقر المعاهد الجزائرية إلى المجلات العلمية المتخصصة وهذا يسبب الجمود الفكري ويجعل الأستاذ في موقف حرج إذ من الصعب عليه التعرف على التطورات الجديدة في اختصاصه وبالتالي يبقى دائما يجتر المعلومات التي حصل عليها عندما كان طالبا في الدراسات العليا.
9 – إن ضعف مستوى التعليم الجامعي في الواقع يرجع إلى قلة المتابعة البيداغوجية وعدم الاهتمام بالتحصيل العلمي، فالأساتذة الذين يتفرغون للأبحاث لا يحاسبون بعد انتهاء مدة الانتداب. ولهذا ينبغي التأكد بأن المتفرغ لبحث أو كتابة أطروحة قد أنجز البحث وقضى وقته في أعمال مثمرة ومن لا يحقق النتائج المطلوبة يدفع الأموال التي صرفها في الخارج بدون نتيجة.
خلاصة واستنتاجات
لعله قد اتضح من هذا الاستعراض الوجيز للثغرات الموجودة بالتعليم الجامعي أن نظام التعليم العالي في حاجة إلى مراجعة والتخلص من نقاط الضعف التي برزت عليه في السنوات الأخيرة. إن التعليم في رأيي هو الوسيلة الوحيدة لجعل الجزائر دولة قوية ومتفوقة على الدول الأخرى في مختلف المجالات العلمية والدولة الحريصة على التنمية الوطنية واستثمار أموالها وثرواتها في خدمة المواطن. إن الدولة مثل الجزائر، لا بد أن تعتمد على مؤسسة تربوية قادرة على استقبال العلوم وتطويعها لخدمة المجتمع الجزائري ثم تطوير العلوم من خلال الدراسات والأبحاث والمساهمة في انجازات الحضارة البشرية ويتم ذلك من خلال الجامعات ومؤسسات التعليم وفرق العمل ومن خلال الأفراد المتميزين.
والنقطة الأولى التي ينبغي استخلاصها من هذا البحث، هي أنه إذا كنا نريد أن نصير أمة متقدمة فلا بد أن نغير طريقة التعليم الجامعي ونركز على النوعية فيه ونقتني التكنولوجيا المتقدمة، وهذا يعني انه لا مفر من غرس الثقافة العلمية ومن تطبيق المنهجية العلمية في حل المشاكل التي تبرر على الساحة الجزائرية. وفي اعتقادي الشخصي أن مشكلتنا هي إننا لا نعتمد على كوادرنا المؤهلة لوضع الإستراتيجيا والقيام بدراسات دقيقة تقوم على أساس وضع التصورات واضحة لما ينبغي أن نقوم به في المستقبل ثم يتجند الجميع لذلك.
والنقطة الثانية التي ينبغي أن نستخلصها من هذه الدراسة، هي أنه من الأفضل أن نعيد النظر في السياسة المتبعة في مجال التعليم العالي منذ عدة سنوات والمتمثلة في الاعتماد على الشباب وإبعاد رجال الخبرة والاختصاص وأصحاب المهارات من مناصب المسؤولية وذلك بدعوى إدخال دم جديد وفتح مجال العمل للشبان المتلهفين على المناصب القيادية.
إن سياسة ترضية الشباب والتفاوض معهم بشأن كسب مودتهم ورضاهم لا تخدم البلاد ولا تحقق أية نتيجة ايجابية في مجال التعليم العالي، لأن مجال التعليم العالي يختلف عن مجال لعبة كرة القدم وغيره من مجالات اللياقة البدنية. فإذا كانت الألعاب الرياضية تتطلب الحيوية واللياقة البدنية واندفاع الشباب، وصغر السن، فإن التعليم العالي يتطلب رجال الخبرة والتجربة الطويلة، والكفاءة في المهنة والمهارة في الاختصاص. ولهذا يتعين علينا أن نعيد للأستاذ الجامعي اعتباره ونستفيد من خبرته وكفاءته ونشجعه على الإبداع والإنتاج، وننصح الشباب أن يستفيدوا من تجارب أساتذتهم ويتعلموا أصول العمل، ثم يقومون بإثراء اختصاصاتهم في المستقبل.
والنقطة الثالثة التي يمكن استخلاصها من هذا المقال هي أننا نحتاج إلى وجود تقاليد علمية ثابتة لا تزول بزوال الأشخاص، فالمفروض أن تعطي جوائز تشجيعية سنوية للأساتذة والمبدعين والطلبة المتفوقين، ورؤساء الجامعات المرموقين، لكن يبدو أن التركيز على المساواة بين الهزيل والمنتج، بين الخائب والبارع في مهنته، هي قواعد العمل البيروقراطية.
والنقطة الرابعة هي التهرب من مواجهة المشاكل الآنية والمستعجلة التي تتطلب حلولا مقبولة في وقتها. والتركيز على الحلول النظرية للمشاكل الخيالية التي ستحدث في المستقبل!
إنه لعجيب حقا أن نتكلم عن استراتيجيات التعليم العالي لسنة 2000، وكم سيكون عدد الطلبة المتخرجين آنذاك، في حين لا نستطيع أن نواجه مشكلة حقيقية يواجهها الإنسان في أرض الواقع. لهذا يتعين علينا أن نبدأ وننطلق من الواقع المعاش ونحل مشاكلنا في الوقت الحاضر. أما المشاكل التي ستبرر في سنة 2000 فوضعها مختلف، ومن حق ذلك الجيل أن يجد الحلول الملائمة لتلك الفترة.
النقطة الخمسة التي في استطاعة أي قارئ أن يستخلصها هي أن الاختيارات السياسية والإيديولوجية للبلاد ينبغي احتلامها والالتزام بها حتى تكون هناك مصداقية لمؤسسات الدولة في بلادنا. فإذا كانت القيادة السياسية بالدولة والحزب قد أقرت سياسة التعريب واستعمال اللغة العربية في المؤسسات وتدريس المواد بلغة القرآن، فهذه اختيارات منصوص عليها في الميثاق الوطني وينبغي احترامها وتطبيقها. وتبعا لذلك يتعين على رؤساء الجامعات والمعاهد والمديرين في وزارة التعليم أن يلتزموا بهذا المنهج. لكن الشيء الذي يحصل من الناحية العملية، إن هذه الإختيارات تتعرض إلى معاناة يومية وممارسات تثبط عزيمة الإنسان الغيور على انتمائه العربي و الإسلامي.
إن تعيين رؤساء جامعات أو مدراء معاهد أو مدراء بوزارة التعليم العالي لا لا يجيدون اللغة العربية، يعرض هذه الإختيارات الوطنية للتشكيك فيها في سلامة القرار المتخذ بشأنها، وبالتالي خلق البلبلة في أوساط الطلبة والأساتذة، ولهذا، فلا بد من مراعاة عنصر الانتماء وإجادة اللغة العربية إجادة تامة عند تعيين الأشخاص الذين لهم مهمة تطبيق السياسات التي أقرتها القيادة الحكومية والحزبية بالبلاد.
والنقطة السادسة التي تسترعي الإنتباه هي ارتباط البحث العلمي بالتقدم وتحسين الإنتاج وخلق نهضة صناعية بالبلاد. إنه لمن الواضح أننا لن نخرج من دائرة التخلف إلى دائرة التقدم إلا إذا اعتمدنا على باحثينا واستطعنا أن نتعمق في المعرفة وتحليل الظواهر وأيجاد الحلول الملائمة لمشاكلنا. إننا عن طريق علمائنا وباحثينا نستطيع أن نحصل على التكنولوجيا الملائمة لبلادنا. أما إذا حاولنا أن نستعير التكنولوجيا وطرق العمل من الخارج، فإننا سنبقى باستمرار عالة على غيرنا، وسنتقهقر بمجرد حجب تقنياتهم العلمية عنا.
والنقطة السابعة التي تجدر الإشارة إليها، هي افتقار برامجنا التعليمية إلى الجوانب العلمية والتطبيقية والتي تعتبر تتويجا للنظريات العلمية. ومثلما ذكرت سابقا، إنني لا أفهم لماذا نتمسك بالبرامج الكلاسيكية ولا نتوسع ونقوم بإدراج برامج علمية مثل دراسة علوم التنظيم والإدارة، وإدارة الإنتاج، والمحاسبة والكمبيوتر. إن جميع مؤسسات الدولة من إدارية واقتصادية في حاجة ماسة للتعرف على الجديد في هذه الإختصاصات الحيوية، لكن جامعتنا تركز على دراسة البرامج الكلاسيكية مثل القانون والإقتصاد وتهمل الباقي!
والنقطة الثامنة والأخيرة التي استنتجها من هذا المقال هي المس بمصداقية الدولة. فالقوانين التي تنص على عدة مواضيع، موجودة بكثرة، ولكنها غير مطبقة. وهذا شيء غير مقبول منطقيا. فعلى سبيل المثال، هناك المرسوم رقم 83- 1544، أمضاه رئيس الجمهورية بتاريخ 234 سبتمبر 1983 والذي يتضمن القانون الأساسي النموذجي للجامعة ومعظم بنوده القانونية غير محترمة من طرف البيروقراطية.
فمجلس توجيه الجامعة مجمد، ورؤساء المجالس العلمية والمعاهد يعينون بدون إحترام للرتب العلمية التي ينص عليها المرسوم. ونفس الشيء نلاحظه بالنسبة للمرسوم 87- 70، الصادر بتاريخ 17 مارس 1987، والذي يتضمن تنظيم الدراسات العليا. فهو ينص على إحداث مجلس للدراسات العليا، لدى وزير التعليم العالي. لكن هذا المجلس لم نسمع شيئا عنه حتى الآن. وباختصار فإن عدم إحترام النصوص القانونية للمراسيم الرئاسية يضر بسمعة التعليم الجامعي ويقضي على الثقة والمصداقية في قوانين البلاد.
وفي الأخير هناك كلمة لا بد منها وهي أن الحديث عن هذه الثغرات والإقتراحات المتعلقة بما ينبغي أن يكون عليه التعليم الجامعي، ليس القصد منه التعرض إلى وظيفة ووضعية أي مسؤول في أية جامعة جزائرية أو معهد معين، وإنما القصد هو إبراز الثغرات وتقديم الإقتراحات الموضوعية التي تساعدها على توضيح الرؤيا وتحسين المستوى في التعليم الجامعي بصفة عامة.
إننا جميعا نتحمل مسؤولية توفير تعليم جيد لأبناء الجزائر. وهل هناك شيء أعز من الأبناء الذين سيتولون في المستقبل قيادة جزائرنا وتحقيق الرفاهية والكرامة لبلادنا؟
لهذا يتعين علينا أن نتحلى بالموضوعية عند الحديث عن قضايا التعليم ومستقبل شبابنا حتى يكون هناك نمو مطرد وازدهار علمي متواصل بالجزائر.
هوامش:
1- صالح الحاجة، “أي حضارة نريد؟ “ تونس، دار سراس للنشر 1985، ص 75.
2- ديرمان كان، العالم بعد مئتي عام (ترجمة شوقي جلال)، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، 1982، ص 7.
3- فلاديمير كورغانوف، مناهج البحث العلمي، (ترجمة علي مقلد). بيروت: دار الحداثة: (بدون تاريخ)، ص 42، 43.
* دراسة منشورة بجريدة الشعب يومي 30 أفريل و 7 ماي 1988.