لغتنا العربية جزء من هويتنا
أستاذ العلوم الإدارية بجامعة الجزائر، ويعمل حاليا أستاذا
زائرا بالمنظمة العربية للعلوم الإدارية في عمان بالأردن.
“إن الخيارتين اللغة الوطنية ولغة أجنبية أمر غير وارد البتة، ولا رجعة في ذلك ولا يمكن أن يجري النقاش حول التعريب بعد الآن، إلا فيما يتعلق بالمحتوى والوسائل والمناهج والمراحل ” الميثاق الوطني الجزائري، (1986، ص 94)
لقد كثر الحديث في هذه السنوات عن تعميم استخدام اللغة العربية في مؤسسات التعليم والإدارة العربية، والتخلص من التبعية للثقافات، واللغات الأجنبية التي أصبحت عبارة، عن أداة لإبقاء الهيمنة الأوربية والأمريكية في الوطن العربي. فهناك من يقاوم استخدام اللغة العربية، في الوقت الراهن، بدعوى أن اللغة العربية، متخلفة عن العصر، موغلة، في القدم، لا تؤدي بصفة كاملة غير المضامين القديمة التي تجازوها الزمن، فهي أعجز، من أن تعبر عن مستجدات الحضارة ومقتضيات التطور العصري الذي يعتمد بصفة أساسية على العلوم والتقنية.(1) وهناك أيضا من يناصب لغته الوطنية العداء، على أساس أنه يخاف على المستوى العلمي الذي بلغه، لأن تعريب التعليم واستعمال اللغة العربية، يسئ إلى مستوى بعض الأستاذة الجامعيين، ويبعدهم عن ثقافة الغرب العلمية، التي هي أساس مستواهم ومرجع أبحاثهم(2). كما يضاف إلى هذين الرأيين رأي ثالث يتشبث به أصحاب الإتجاه الغربي وخلاصته، أن اللغة عبارة عن “وسيلة للتبليغ” وبالتالي، يمكن المفاضلة بين اللغة العربية، واللغات الأجنبية، وإذا اقتضى الأمر، تجاهل الدور المتميز للغة الوطنية، واعتبارها أداة قابلة للاستبدال بلغة أجنبية متميزة عن اللغة الوطنية، لكونها أداة جاهزة أنضج وأتم وأسير وأقدر على المساهمة في تحقيق التطور المنشود(1).
وبالمقابل، هناك من لا يأبة لهذه الحجج الواهية، ويرى أن تعميم استخدام اللغة العربية ما هو إلا وجه من وجوه التحرير الوطني، والتخلص من الرواسب الاستعمارية الباقية في عقليات بعض العناصر المشكوك في انتمائها الوطني. فاللغة، في الواقع تعتبر مطلبا شعبيا، وفي تحقيق هذا المطلب، تأكيد لجانب من السيادة الوطنية وتخلص من تبعية مفروضة. فما الذي يحول دون إنجاز هذا الطلب بعدما أصبحت قوة القرار بيد السلطة الوطنية؟ ويؤكد أصحاب هذا الرأي الغيورين على عروبتهم وإسلامهم أن اللغة، أي كانت، أهم وأخطر بكثير، من أن تكون مجرد أصوات وأدوات للتفاهم أو تبليغ فكرة معينة، فهي على مستوى الماضي، الذاكرة الجماعية للأمة المحافظة لخلاصة تجربتها في التاريخ، وحصيلة ما أسست لنفسها من أساليب النظر والفكر والتقويم والاكتشاف. وهي على مستوى الحاضر خير معبر عن الهوية القومية للأمة وما انتهت إليه من درجات النضج والنمو. وهي على مستوى المستقبل طريق وحيدة لكل نمو داخلي عضوي، يمكن أن يستفيد من التجارب الإنسانية كافة، دون أن يركن إلى التواكل والبحث، عن الحلول الجاهزة أو الملفقة، أو يجنح إلى الإتباع فيقبل الاستلاب ويفقد القدرة على الإبداع، ويستقيل من كل مهمة في صناعة التاريخ والمساهمة في إثراء الثقافة الإنسانية (1).
وعلى هذا الأساس، فالهدف الأساسي، لتعميم استخدام اللغة العربية في الإدارات ومؤسسات التعليم، هو إعادة الإعتبار للغة الوطنية والاعتماد عليها، كأداة للتبليغ والتكوين، وخلق الوعي، وذلك لأنها جزء لا يتجزءا من الشخصية الوطنية. وإذا كانت العربية قد تم تعطيلها، خلال الفترة الاستعمارية وحظر استعمالها من طرف أعدائها بحيث لا تستطيع تلبية حاجات المجتمع العربي في المدرسة والجامعة والإدارة وبالتالي يتوقف التحدث بها ويصعب الإنتاج بها، فإنه لا مفر من إحلال اللغة العربية محل اللغات الأجنبية، وإعطائها المكانة المرموقة في مجتمعها الأصيل، بحيث تكون لغة التعبير الرئيسية، وتصبح أداة للتعامل في التعليم والبحث والتجارة والمرافعات في المحاكم والمراسلات الإدارية.
ثم إن هناك رأيا آخر في موضوع تعميم استخدام اللغة العربية في مؤسسات التعليم والإدارة العربية، وهو أن الحديث عن التقدم والتحرر مرتبطان باستعمال اللغة الوطنية، فقد أدرك العديد من القيادات الوطنية أن الحديث عن التقدمية، بمعزل عن الجماهير العريضة، وخارج إطار لغتها القومية، وبالاعتماد على لغة أجنبية وثقافة أجنبية مهيمنة قد يعتبر وجها من وجوه التسلط النخبوي، هذا الحديث يمكن أن يوصف بأنه أعجز من أن يتمكن من تعبئة الجماهير، والتأثير فيها وتجسيد مطامحها المشروعة في التحول والنمو(1) ويستخلص من هذا الإتجاه، أن الحكومات الوطنية قد فطنت أيضا إلى أن الجماعات والأفراد الذين ينادون بالتقدمية والعلمية والمحافظة على اللغات الحية على حساب اللغة الوطنية، “إنما هم في الواقع، يدافعون عن امتيازات نخبوية ثقافية أدركوها في ظروف معينة، ونشأت عنها بالضرورة امتيازات اجتماعية واقتصادية. فهم في الواقع، يدافعون عن مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة التي اكتسبوها بسبب إلمامهم بهذه اللغة الأجنبية والدور المهيمن الذي تلعب وهكذا ترتبط مصالحهم بمصالح الهيمنة اللغوية – الثقافية الأجنبية، ويستفيدون من مواقعهم التنفيذية في الإدارة وفي المؤسسات التربوية، ليجعلوا مقاييس العلم. والبحث والنجاعة في العمل الإداري والفني متماشية مع هذه الهيمنة ومستجيبة لتلك المصالح”(2).
وهناك رأي ثالث يعتقد أنصاره أن التعريب لا يمكن أن يتم بمعزل عن الإستعمال. فاللغة تحيا بالإستعمال، ولا تحيا في بطون الكتب. كما أن الأمر، لا يحتاج إلى رياء أو نفاق، فالشيء المعروف عالميا، أن الإنسان يستطيع أن يستوعب بلغته الأم أضعاف ما يستوعبه باللغة الأجنبية مهما كانت درجة إتقانه لهذه اللغة. وإذا تمكن الشباب العربي من إتقان لغته، واستعمالها فإنه يستطيع أن يبدع ويشارك في إثراء الحضارة الإنسانية واللحاق بركبها المتقدم. وقد أصبح الآن واضحا للعيان، مدى الإرتباط القوي بين الإبداع، وبين اللغة القومية، فهناك العديد من الدول، التي لم تكن لغتها لغة علم في الماضي، لكنها الآن صارت متقدمة، ومتطورة لأنها بادرت باستعمال لغتها في التدريس والبحث العلمي، وتخلصت من اللغات الأجنبية الدخيلة، فها هي يوغوسلافيا وبلغاريا وتركيا واليابان وغيرها من الدول التي تكن للغاتها التجربة التاريخية التي مرت بها اللغة العربية ومع ذلك فإنها تدرس الطب والهندسة والعلوم في جامعاتها بلغتها الوطنية. ولهذا، فإن التطور الإقتصادي والسياسي، الذي حققته أمتنا العربية في المشرق والمغرب، بعد الحرب العالمية الثانية، بات يحتم علينا الإنتقال بقرار سياسي يجعل اللغة العربية لغة العلم والبحث العلمي في جميع المؤسسات التعليمية الجامعية منها، وغير الجامعية. وباختصار، فإن استعمال اللغات الأجنبية لا يقودنا إلى مرحلة الإبداع، ولا يساعد على خدمة مصالحنا وإنما يساعد الدول الأجنبية على بقائنا في حالة التبعية العلمية والفكرية. وفي جميع الحالات، فإن تقدمنا متوقف على مدى استعمال لغتنا في بنائنا الحضاري. والمشكل في الواقع يمكن تلخيصه في الآتي: إن قضية التعريب وتعميم إستخدام اللغة العربية في التدريس والبحث العلمي، ليست قضية تتعلق باللغة من حيث كونها لغة ولكنها لغة تتعلق بإرادة سياسية تقررها الأمة في أعلى مستوياتها(1).
الضعف يكمن في الإقتداء بالغالب
في الحقيقة، إن ما قاله إبن خلدون في المقدمة منذ عدة قرون، هو الدافع الأساسي للمحاولات الرامية لإبقاء اللغة العربية بعيدة عن المراكز الرئيسية للحياة والنفوذ في الأقطار العربية. فقد قال بالحرف الواحد على ما أتذكر، جملته المشهورة: “المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده“. وقد عشنا ورأينا بأعيننا عندما كنا نواصل دراستنا بالجامعات الأجنبية، أن كل أبناء الأمم، يتعلمون بلغة أبناء البلد، ويحرصون على الإستفادة من اللغة، ومن المادة العلمية التي يتخصصون بها. وليس هناك جدال في أن مستوى التعليم والبحث العلمي، في مؤسسات التعليم العالي بالدول الصناعية رفيع جدا، والأساتذة تتوافر فيهم الكفاءة والنجاعة في اعمل. لكن الشيء المدهش حقا، هو أن نجد المتخرج الياباني والصيني واليوغوسلافي والبرازيلي، يعودون إلى بلدانهم لتوظيف المعلومات التي حصلوا عليها خلال دراستهم في خدمة مجتمعهم. وتحقيق الأهداف التي رسمتها حكوماتهم الوطنية وذلك بلغتهم الوطنية. أما بعض العناصر العربية، التي تخرجت وعادت إلى وطنها فإنها لا تحاول أن تستعمل العلم الذي حصلت عليه وتحوله إلى ثروة وطنية تساهم في تقوية المحتوى، وإخضاعه للأوضاع ومعطيات البيئة العربية، بل تسعى إلى إبقاء الجامعات ومعاهد التدريس ومؤسسات البحث العلمي تابعة للثقافة الأجنبية وبعيدة كل البعد عن المجتمع العربي، وبالتالي تصير هذه المؤسسات شبه عاجزة عن أداء وظائفها الرئيسية، لأنها لا تقوم بالدور المطلوب منها، وهو إثراء الثقافة القومية وتغذية المعرفة العلمية ورفع المستوى الإجتماعي في مختلف الميادين.
ومع أن هناك عدة تعليلات وتأويلات لهذه الظاهرة الغربية في مجتمعنا العربية، إلا أنني أجد نفسي متفقا في الرأي مع أحد الزملاء التونسيين الذي قال بأن “المستعمل للغة الأجنبية كوسيلة وحيدة لا يعرف من إختصاصه أومن الثقافة الإنسانية إلا ما تسمح بمعرفته هذه اللغة“(1). وانطلاقا من هذه الحقيقة نستطيع أن نستخلص بأن استعمال اللغة الأجنبية يفرض مضمونا من التفكير والسلوك مستمدين ومرتبطين بالتطورات التي تحدث في مجتمعات ما وراء البحار، أكثر مما تعبر عن واقع المجتمع العربي. ثم إن معرفة اللغات الأجنبية أصبحت تستعمل كغطاء للمحافظة على المستوى العلمي، وبالتالي تساعد في الحصول على المناصب العليا، وبذلك ارتبطت المصالحة العضوية باللغات الأجنبية إلى درجة أن زوال اللغة الأجنبية أصبح يعني زوال المنصب والنفوذ. وإذا تعثرت المحاولات الرامية لتعميم إستخدام اللغة العربية في أي بلد عربي فإن السبب في ذلك ينحصر في العناصر المتمسكة “بهيمنة اللغة الأجنبية والذين يستعملون نفوذهم في المواقع الإدارية والقيادات الجامعية للتشكيك في تجربة التعريب ومناهضتها والحفاظ على المنزلة الخاصة للغة الأجنبية المهيمنة“(1).
أما النقطة الثانية، التي تلفت الإنتباه فهي معنى التعريب. فهناك من يتصور أن التعريب، يعني ترجمة الكلمات المستعملة يوميا والمصطلحات الأجنبية إلى اللغة العربية، وهذا يعني بطبيعة الحال عجز اللغة العربية عن مسايرة روح العصر، وضرورة الإستعانة باللغة الأجنبية لأداء المعنى المقصود. وهناك من يرى أن التعريب، يعني استعمال اللغة الدارجة أو العامية، أي اللغة التي يستعملها الشعب، وهي قد تكون مخالفة للغة الفصحى التي يتعين علينا استعمالها كلغة للتدريس والأبحاث وإثراء تراثنا العلمي. ثم إن هناك الرأي الشائع جدا، وهو أن التعريب يعني الإستغناء عن تعليم اللغات الأجنبية وعدم الإستفادة منها، وهذا معناه، بكل وضوح، الإنغلاق على أنفسنا وعدم التفتح على التكنولوجيا الغربية. كل هذه الإنطباعات الخاطئة عن التعريب، قد شوهد معناه وأعطت الفرصة لكل فئة إجتماعية أن تستغل هذا الإرتباك في تحديد الهدف، وتعلن عن معارضتها للتعريب الذي لا يتم وفق وجهة نظرها الإنفصالية ومصالحها الضيقة التي لا تتماشى وروح التعريب. والحقيقة هي أن التعريب بريء من هذه التأويلات المغرضة. فهو يعني باختصار، إعادة الإعتبار للغة العربية في بلدان عربية، والإعتماد على هذه اللغة في القيام بالأبحاث والتأليف، واستعمالها في الإدارة بحيث تكون، باختصار، هي لغة العلم في المدرسة والجامعة، ولغة المؤسسات الحكومية التابعة للدولة(2).
والظاهر أن هذه الحملة تهدف إلى إخفاء نقطة الضعف الرئيسية عند عشاق اللغات الأجنبية وهي السماح لهم بالبقاء في مناصبهم الحساسة واستعمال الترجمة واللهجات المحلية واستعمال الإصطلاحات الأجنبية في التدريس والمراسلات بالعربية الركيكة حتى يميعوا الوضع ويغطوا عيبهم الأساسي وهو عدم إجادتهم للغتهم الوطنية.
وزيادة على التناقضات المشار إليها آنفا، هناك مشكل يبرز باستمرار عند الحديث عن التعريب وتعليم اللغات الأجنبية، ويتمثل هذا المشكل في ضرورة المحافظة على المستوى العلمي الراقي الذي ورثناه عن المستعمر، وذلك ما يقتضيه التقدم والتقدمية. وفي تصوري أن المستويات العلمية والإنفتاح على الثقافات الأجنبية وانتهاج سياسة تقدمية وتحررية، لا تتطلب إلغاء الدور الطبيعي والأساسي للغة الوطنية. فاللغة مرنة وقادرة على الإستيعاب والتكيف، ومواكبة سائر التحولات التي يعيشها أي مجتمع، من سلبيات وأيجابيات. فأوضاع المجتمع هي التي تؤثر في مجرى الأمور وليس اللغة هي التي تحدد مدى تقدمه أو تأخره. ولهذا فإن استعمال اللغة الوطنية واستخدامها للتعبير عن مصالح المجتمع العربي هو الذي يساعد على تعبئة الجماهير وتجنيدها للعمل والمساهمة في تحقيق أماني الجماهير العربية.
وباختصار، فلا بد من أن تكون اللغة العربية عاملا من عوامل النجاح الإجتماعي، وذلك باستعمالها في القطاعات الحيوية في البلاد، مثل التوظيف العمومي، والإدارة والإقتصاد والتجارة والتعليم. وقد أحسن التعبير عن هذه الظاهرة، أحد الزملاء العرب، الذي أكد بأن التبعية اللغوية في المجتمع العربي، تزداد على مر الأيام والسنين لأن البيروقراطية العربية “تتمسك باللغة الأجنبية كوسيلة دفاع عن مكانة تمتاز إجتماعيا ونفسيا بالهيمنة والنفوذ اللذين أسندتهما إليها البنية الإستعمارية القديمة. لذلك يشعر الفرد في ممارسته اليومية بحاجته إلى استعمال اللغة الأجنبية حتى ولو كان المدافعين عن استعمال اللغة القومية”(1). أما بالنسبة للإنفتاح، فهو دائما إنفتاح على الثقافة الغربية المهيمنة والتي تقوم على الطبقية، وتحكم النخبة الأرستقراطية في الجماهير الشعبية. وفيما يخص الذين لديهم إرادة خالصة لتعلم لغتهم الوطنية وتوظيفها لخدمة العلم والمجتمع، فالعجز ليس في اللغة العربية وإنما في الأفراد الذي “يشككون في اعتبار اللغة العربية لغة قومية للبلاد العربية أصلا”(2).
أسباب ضعف العرب تكمن في لغتهم
إن ضعف اللغة العربية مستمد في الأصل من الضعف التكنولوجي بصفة عامة. فالمعرفة الفنية متوافرة بكثرة في الدول المصنعة التي تعتمد عليها في تذليل الصعاب، وتوفير أحسن الخدمات الإقتصادية والصحية والعلمية لمواطنيها بطرق دقيقة وفعالية تثير التقدير والإعجاب. وطبعا، فإن هذا العصر هو عصر التكنولوجيا، فمن أجاد الإلمام بفنياتها استطاع أن يتقدم، ومن تباطأ في اقتنائها كان مصيره التخلف والتبعية للدول العظمى. ولهذا فإن تعلق أي مفكر عربي بالدول الصنعة إنما هو تعلق منفعي وتقني في آن واحد.
أما العنصر الثاني لضعف العربية، فهو مرتبط بالعنصر الأول، ونقصد بذلك اللغات الأجنبية، التي تستعمل كوسيلة للحصول على المعرفة الفنية والإستفادة من التكنولوجيا الغربية والسوفياتية بصفة عامة. واللغات الأجنبية التي هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية قد أصبحت تلعب الدور الأساسي في نقل المعلومات وكيفية إستعمال الآلات وأساليب تنظيم المؤسسات وطرق تسييرها.
العنصر الثالث، يتمثل في إبعاد اللغة العربية عن مواقعها الطبيعية كلغة قومية، وذلك خلال فترات الإحتلال التركي والفرنسي والإنجليزي. فقد حاول الغزاة الأجانب، أن يعزلوها عن المراكز الرئيسية للحياة في المجتمع العربي، وذلك لأنها تعتبر جزءا من الشخصية الوطنية. ونتج عن هذا التعطيل والتجميد للغة العربية، عدم إستعمالها كأداة للتعبير والنجاح في العمل سواء في مجالات الأبحاث والتعليم أو المعاملات اليومية.
العنصر الرابع، يكمن في عجز مؤسسات الأبحاث العلمية بالأقطار العربية في إنتاج المؤلفات والدراسات باللغة العربية التي تسد الفراغ، في ميدان المعرفة الفنية وإثراء المكتبة العربية بحيث يمكن للمتعلم العربي أن يكون ملما بآخر التطورات في الميدان العلمي دون أن يلجأ إلى المؤلفات المستوردة من الدول المصنعة. فهذا النقص في الميدان العلمي، هو الذي جعل اللغة العربية شبه ضعيفة وغير قادرة على تلبية طموحات الشباب المتعطش للمعرفة وبخاصة تلك التي تتوافر فيها النوعية والجدية في معالجة المواضيع الشائكة.
والعنصر الخامس، يتلخص في استنزاف العقول العربية ونهبها مثلما تنهب بعض الثروات الطبيعية، والمواد الخام العربية. فإحصائيات اليونسكو تشير إلى أن 63 بالمائة من العلماء والمفكرين المصريين، يهاجرون إلى الولايات المتحدة. ثم إن العقول العربية تصدر إلى العالم المصنع بسعر بخس، وفي الوقت نفسه تستورد عقولا أوروبية وأمريكية أو يابانية مثلها، وأحيانا أقل منها، بسعر مضاعف. وكيف لا يندفع العلماء والباحثون العرب خارج وطنهم العربي الكبير، وهم يرون أن بعض أقطار هذا الوطن –إن لم تكن كلها- تميز بين العالم العربي والعالم الأجنبي (المستورد) ماديا ومعنويا رغم أنهما أحيانا متخرجان من نفس الجامعة، ويحملان الدرجة العلمية نفسها. فالمشكلة إذا هي غياب مؤسسات الأبحاث والجامعات العربية التي تستطيع أستيعاب الكفاءات العربية الجيدة وتوظيف طاقاتهم وجني ثمارهم بالشروط العلمية والإجتماعية والنفسية التي يوفرها بذكاء “البديل الأمريكي”(1).
العنصر السادس، هو الثقة المفرطة في العلماء والخبراء الأجانب وإهمال العلماء والخبراء العرب الذين يتفهمون حاجات الإنسان العربي أحسن من غيرهم وفي إمكانهم معالجة المشاكل الإجتماعية وتصحيح مسارات الواقع العربي. وما أقصده هنا هو أن دور العلماء العرب الذين يملكون المعرفة ويمكن الإعتماد عليهم لتحقيق الخلق والإبداع ومسايرة التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهده العالم في هذا القرن، قد أصبح ثانويا وهامشيا وذلك إذا قارناه بدور البيروقراطيين الذين يوجهون الأمور حسب أهوائهم. وهذا التثبيط للعزائم ومحاولة تدارك التخلف العربي عن طريق الإستعانة بالخبراء الأجانب هو الذي تسبب في إخفاق العلماء العرب في إثراء لغتهم العربية والمساهمة في تقوية الدعائم الأساسية للنهضة العربية الشاملة. وهكذا استطاعت القوى الأجنبية أن تفتت اللغة العربية وأن تضعف الوحدة الفكرية بين أبناء الأمة الواحدة، وبالتالي، القضاء على دور اللغة كعنصر أساسي في التكوين القومي للشعوب(2).
ونستخلص من كل ما تقدم أن التقدم العلمي او التقدم اللغوي في الوطن العربي يتوقف على إبداع المفكر العربي ومقدرته على معالجة المشاكل الإجتماعية التي يواجهها المواطن العربي بحيث يكون المفكر، سندا لشعبه ومساهما في تقديم الخدمات العلمية والمفيدة. لكن المشكل الأساسي، هو أن هذا الإتجاه الذي يدعم إرادة الإنسان العربي ما زال غير مؤكد في عالمنا العربي، لأن المبادرات في هذا الميدان، آتية من البيروقراطيين السياسيين قبل أن تأتي من المفكرين الذين كان من المفروض أن يحددوا أهداف مجتمعنا العربي ويضعوا الخطط الكفيلة بإخراجه من عصر التخلف إلى عصر التقدم بأساليب علمية ومنطقية.
اللغة هي إحدى المقومات الأساسية للشخصية الوطنية
إن الإنسان الذي لا يجيد الحديث بلغته، ولا يستعملها، يعتبر في الحقيقة إنسانا معزولا عن شعبه، لأن اللغة العربية هي لغة الجماهير الشعبية، ومن لا يتكلم لغة شعبه فهو مفصول عنه، فاللغة كما قال د.غلاب لا يقتصر دورها على تبليغ أفكار معينة، بل إنها “تحمل في طياتها الفكر نفسه لأنها تستمد وجودها ودلالتها من أعماق الإنسان، فكره وآلامه، تحرك الحياة، وتشحن هذا الوجود وهذه الدلالات من مسارات الفكر التاريخية والحاضرة”(1). ثم يؤكد د.غلاب بأن اللغة تجسم الشخصية الوطنية للأمة التي تتكلمها وتعطيها صفتها الحضارية.
وباختصار “فاللغة تمثل السيادة الوطنية والقومية، فلغتنا القومية هي جزء من سيادتنا، ولا يمكن التنازل عنها إلا إذا كنا على استعداد لنتنازل عن سيادتنا”(2). وقد أكد الحقيقة نفسها ساطع الحصري عندما أشار إلى أن اللغة هي العنصر الأساسي في التكوين القومي للشعوب والإستعمار الفرنسي قد حاول فرض لغته على الجزائر منذ البداية لأنه كان يدرك أن اللغة العربية هي التي كانت تشكل أقوى الروابط التي تربط السكان بعضهم ببعض ومقوم أساسي في وحدتهم. ولهذا نجد أن أول التعليمات التي صدرت في بداية الإحتلال الفرنسي للجزائر تقول بأن “إيالة الجزائر لن تصبح حقيقة، أي ممتلكة فرنسية، إلا عندما تصبح لغتنا هناك قومية، والعمل الجبار الذي يترتب علينا إنجازه هو السعي وراء نشر اللغة الفرنسية بين الأهالي، بالتدرج إلى أن تقوم مقام اللغة العربية”(1).
وانطلاقا من هذه الحقيقة نستطيع أن نتفهم جيدا القرار الثوري الذي اتخذته الحكومة الجزائرية يوم 14/9/1980 والقاضي بتعريب السنة الأولى بالجامعات الجزائرية ومراكز التكوين الإداري والمدرسة الوطنية للإدارة. فالجزائريون الذين استعادوا حريتهم السياسية بالتضحية والجهاد في عام 1962، وأمموا الشركات الأجنبية في شباط فبراير 1971، قد اتخذوا قرارا ثالثا، على مستوى اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني في 30/12/ 1979، ينص على أن “التربية تقع في صميم الثورة الثقافية التي تبني الإنسان الإشتراكي الجديد، وأنها الطريق الوحيد لرفع القدرة الوطنية في الميادين العلمية والتكنولوجية، والحد من التبعية الأجنبية، وحماية الإستقلال الوطني، وإعطاء محتواه الثوري الحقيقي، وعلى أن اللغة الوطنية إختيار لا رجعة فيه، وأن المجال الوحيد للحوار هو كيفية دمجها في حركة التنمية الشاملة، والتطور الذي تشهده الجزائر، وجعلها أداة للثقافة والعلوم والتقنيات العصرية، وعلى أن تعزيز اللغة الوطنية وتعميمها يتكاملان، مع تشجيع إكتساب اللغات الأجنبية، والإتصال المستمر مع مصادر العلوم والتقنيات الأكثر تقدما، والمساهمة بطريقتنا الخاصة في الإبداع العلمي”(2).
وقد أتينا على ذكر ما حصل في الجزائر لنؤكد حقيقة أساسية وهي أنه مثلما ناضلنا ضد الأجانب وتخلصنا منهم سياسيا، لا بد من أن نواصل المعركة اليوم لكي نتخلص من التبعية اللغوية للأجانب، حتى نصبح أسياد أنفسنا. والمشكل في اعتقادي، يكمن في مدى توافر إرادة عربية، وعزيمة قوية، لتذليل الصعاب البسيطة التي تعترض عمليات تقوية أنفسنا في لغتنا وإجادة الحديث والكتابة بها والتعرف من خلالها على ما هو موجود عندنا.
ومن أجل النهوض بلغتنا وتعميمها لا بد من إتباع الخطوات التالية:
- ينبغي تحديد الهدف وتوضيح المقصود بالتعريب. فالمعنى الدقيق للتعريب هو استعمال اللغة الوطنية وإعطاؤها منزلتها الطبيعية كلغة مشتركة بين أفراد الشعب، بحيث تكون لغة العمل في الإدارة وفي التعليم وفي الإعلام وفي جميع مؤسسات الدولة. وباختصار، فإن إستعمال اللغة العربية في سائر مجالات التطور والحياة، لا يعني الإستغناء عن اللغات الأجنبية، بل إن هذه الأخيرة سوف تبقى مكملة للغة الوطنية في العديد من المجالات العلمية.
- تعريب المصطلحات العلمية والتكنولوجية وسد الفراغ الموجود في كل القطاعات الحيوية التي تستعمل فيها المصطلحات الأجنبية بكثرة. وللأسف الشديد فإنه لا توجد خلايا تنظيمية مدعمة بكل مؤسسة تتولى عمليات تعريب المصطلحات ثم إصدار قوانين لتلك الكلمات، وبذلك تذهب جميع الجهود سدى وتبقى الكلمات الأجنبية هي المستعملة باستمرار.
- تعريب التعليم وتعويد التلاميذ على التفكير والكتابة بلغتهم الوطنية الفصيحة. وهذا يتطلب، بطبيعة الحال، تأليف الكتب العربية الضرورية للإستعاضة بها عن الكتب الأجنبية الثرية بالمعلومات وتمكين الطلبة من الإستفادة والحصول على معلومات غزيرة في ميدان إختصاصهم.
- توظيف اللغة لتحقيق أهداف المجتمع وتسهيل عمليات التفاهم والمراسلات ومواكبة روح العصر. فالشيء المهم هو، أن تتحقق الفعالية وأداء الوظائف المطلوبة بدقة ونجاعة وليس استعمال اللغة بطريقة فوضوية بحيث تظهر اللغة عاجزة عن تحقيق الأهداف المنشودة، وبالتالي يتعين الإستعانة والإستنجاد باللغات الأجنبية لتحقيق الغايات المقصودة.
- إحداث مجلس وطني للتعريب تكون مهمته الأساسية هي وضع المخطط الأساسي للتعريب والسهر على مراقبة إنجازه عن طريق الخلايا أو الأقسام التي يمكن إنشاؤها على مستوى كل وزارة أو مؤسسة وطنية كبرى.
- إنشاء مراكز جامعية للأبحاث والتأليف في المواضيع التي يكون فيها نقص في المراجع العلمية والأبحاث الميدانية. وأرى أنه من الواجب أن أشير هنا إلى أن التأليف والإبداع من طرف المفكرين العرب يعتبران من أهم العوامل الرئيسية لنجاح التعريب في الوطن العربي، لأن قيام العلماء العرب بالإبتكار سوف يقضي على الإنطباع العربي السائد في المجتمعات النامية بأن علماء الدول المصنعة فقط الذين يخترعون ويبتكرون أما دور العلماء في دول العالم الثالث فهو ترجمة ما يقرأونه في تلك الكتب القيمة والمنشورة بالدول المصنعة.
- إصدار قوانين بعدم كتابة التقارير والرسائل باللغات الأجنبية وإلزام كل مسؤول أن يكتب بلغته الوطنية. وبهذه الطريقة يمكن إقناع كل مسؤول بضرورة تحسين لغته الوطنية واستعمالها للمحافظة على منصبه وهيبته. فإذا تعلم بلغة أجنبية وأصبح يجيدها ويفضل الكتابة بها، فبإمكانه أن يجتهد ويتعلم جيدا لغته الوطنية، أيضا.
- فتح المجال أمام الإطارات الوطنية التي تقوم بالتدريس أو إجراء أبحاثها باللغة الوطنية بحيث تتحمل مسؤولية نقل التكنولوجيا إلى أذهان الشباب العربي وتمكينه من التعرف على الواقع الإجتماعي المعاش ومواكبة التقدم العلمي الذي يحصل في الدول الصناعية. وبهذه الطريقة تستطيع الأقطار العربية أن تحذو حذو اليابان، ذلك البلد العظيم الذي وضع تحت تصرف علمائه جميع الإمكانات المتوفرة لانتقاء ما يفيد المجتمع الياباني من الدول المتقدمة على شرط أن تحتفظ اليابان بشخصيتها وسيادتها، وأن لا تكون تابعة لأي قوة أجنبية.
- إعادة الإعتبار للإطار العربي الكفء الذي يعمل بداخل وطنه. فلست أدري لماذا تفضيل الغريب على إبن البلد، مع أن الإطار الوطني يتمتع بميزات لا مثيل لها على الإطارات المستوردة. فهو يتميز عنهم بالإستمرارية في العمل، والحصول على مرتبه بالعملة المحلية، ويقبل أن يكلف بأي عمل تحيله إليه حكومته حتى ولو كان خلال العطل الرسمية، ومع كل ذلك، فجزاؤه، هو الحصول على نصف مرتب الإطار الغريب فقط، تسليط قيود بيروقراطية عليه، تدفعه لأن يجهد عقله في البحث عن طرق التغلب عليها، بدلا من إجهاد نفسه في خدمة القضايا الموكولة له.
- ضرورة صدور قرار سياسي يقضي بجعل اللغة العربية، هي لغة الوحدة ولغة البناء الحضاري، ولغة التحرر والبناء الذاتي في الوطن العربي. فمثلما تخلصنا من الهيمنة السياسية الأجنبية لا بد من أن ننتقل بقرارات سياسية، إلى جعل العربية سيدة في بلاد العرب وإعطاء فرصة لهذه اللغة الوطنية حتى تقوم بدورها الطبيعي.
* – دراسة منشورة بمجلة المستقبل العربي، العدد 35 يناير 1982 ص 121 – 129.
(1) عبد العزيز العاشوري، ” اللغة العربية والهوية الثقافية وتجارب التعريب،” المستقبل العربي، السنة 4، العدد 27 (أيار/مايو 1981)، ص 15.
(2) – محمد الطاهر التائب، في الصباح (تونس) 30/6/1981.
(1) – هشام بوقمرة، “اللغة العربية أمام تحديات المستقبل”، الحياة الثقافية، العدد 1 (حزيران / يونيو 1985).
(1) – العاشور، “اللغة العربية الثقافية وتجارب التعريب”، ص 7 – 11.
(1) – المصدر نفسه، ص 17.
(2) – المصدر نفسه، ص 22 – 30.
(1) عبد الكريم خليفة (رئيس مجمع اللغة العربية الأردني)، في:الرأي (عمان)، 18 /4 /1981.
(1) الطاهر لبيب، “العجز عن التعريب في مجتمع تابع”، المستقبل العربي، السنة 4، العدد 29 (تموز، يوليو 1981).
(1) العاشوري، “اللغة العربية والهوية الثقافية وتجارب التعريب”، ص 22.
(2) إبراهيم السامرائي، “التعريب والعربية في الجزائر بين واقع قديم ورؤية مستقبلية”، المستقبل العربي، السنة 3، العدد 23 (كانون الثاني/ يناير 1981)، ص 108.
(1) لبيب، العجز عن التعريب في مجتمع تابع، مرجع سابق
(2) العاشوري، اللغة العربية والهوية الثقافية وتجارب التعريب، مرجع سابق، ص 9..
(1) أمير إسكندر، “العودة إلى الإنسان”، الوطن العربي، العدد 22 (17-23 تموز / يوليو 1981)، ص 58-59.
(2) علي محمد عودة، “الثقافة والوحدة العربية”، الثقافة العربية، العدد 7 (تموز / يوليو 1981)، ص 19.
(1) عبد الكريم غلاب، “الفكر العربي بين الإستلاب وتأكيد الذات” (طرابلس، ليبيا، الدار العربية للكتاب، 1977)، ص 45.
(2) المصدر نفسه، ص.
(1) ساطع الحصري، أبحاث مختارة في القومية العربية (القاهرة: دار المعارف، 1964)، ص 40- 43.
(2) جبهة التحرير الوطني الجزائري، اللجنة المركزية، مقررات اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني الجزائري، 26-30/ 12/ 1979، الدورة الثانية (الجزائر: جبهة التحرير الوطني الجزائري ، قسم النشر والتوثيق، 1980)، ص 52-53.