لقاء علمي حول إدارة نقل الركاب في المـدن
بقلم : د. عمار بوحوش
كبير الخبراء بالمنظمة العربية للعلوم الإدارية
في إطار النشاطات واللقاءات العلمية التي تعقدها المنظمة العربية للعلوم الإدارية لإثراء معلومات الكوادر العربية في مختلف التخصصات ومجال الإدارة العامة، عقد بمدينة عمان في الفترة الممتدة من 9 إلى 12/5/1981 مؤتمر علمي خاص بالجوانب النظرية لإدارة نقل الركاب في المدن. وقد كان هدف هذا اللقاء العلمي هو التعرف على النظريات الحديثة والتنظيمات المعاصرة في قطاع نقل الركاب في المدن، وخاصة المدن الكبيرة التي أصبحت مكتظة بالسكان وتعاني من التلوث وتزايد عدد الركاب بنسب كبيرة. ولكي تكون النظريات والتجارب العملية متكاملة في ميدان نقل الركاب في المدن، استدعت المنظمة العربية للعلوم الإدارية ثلاثة خبراء من جمهورية رومانيا وخبيرين من الخبراء الأردنيين في إدارة السير.
وبالفعل، فقد كانت الدراسات التي قدمت للمشاركين العرب الذين جاؤا من إحدى عشرة دولة عربية، مثيرة للغاية حيث أبدى الخبراء الرومانيون ملاحظاتهم وآراءهم في التنمية العمرانية وأثرها على نقل الركاب في المدن، ثم تطرقوا إلى مسائل أخرى تتعلق بكيفية تنظيم وتسيير إدارات الركاب المعاصرة. وكانت هذه المحاضرات فرصة، للخبراء العرب من الأردن لكي يتحاوروا مع زملائهم من رومانيا حول الأساليب المطبقة في بلدهم وفي بعض دول العالم وخاصة الدول المتقدمة في هذا المضمار. كما ساهم المشاركون بدورهم في إثراء الحوار حيث أبدى العديد منهم ملاحظات حول النقاط التي تتلاءم وظروف نقل الركاب بالمدن العربية والنقاط التي لا تصلح للبلدان العربية التي تختلف أوضاعها عن أوضاع العديد من الدول المتقدمة في ميدان نقل الركاب في المدن.
وفي اليوم التالي تطرق المحاضرون العرب والأجانب إلى الدراسات والأبحاث التي تعدها مؤسساتهم المتخصصة حول الموضوع بقصد التغلب على المشاكل التي يواجهها كل مواطن يعتمد على المواصلات الحضرية للتنقل من بيته إلى عمله وبالعكس. وامتازت المحاضرات بالتركيز على الجوانب التي تعالج القضايا المعاشة في كل بلد وفي كل مدينة بحيث يمكننا أن نقول بأن المشاركين قد تعرفوا على مشاكل التخطيط ووضع التصورات في نقل الركاب في كل مدينة أردنية وكل مدينة رومانية. وتجلى هذا بوضوح خلال المناقشات التي دارت بين المشاركين والخبراء إذ أن كل واحد حاول أن يبرز الخصائص العامة لمدينته والحلول المقترحة للمشاكل التي تواجهها إدارته في ميدان النقل العام للركاب في المدن.
أما اليوم الثالث فقد خصص للتنظيم الحالي لنقل الركاب بالمدن العربية والرومانية. وكان الهدف من هذه المحاضرات هو معرفة آخر الإجراءات والقوانين الحديثة التي سنتها الحكومات ومؤسسات النقل العام للركاب في الأقطار العربية ورومانيا. وبعد الإستماع إلى الخبراء الرومانيين والخبراء العرب، أعطيت الكلمة للمشاركين في اللقاء العلمي لكي يقوم كل عربي بإعطاء نبذة عن تجربة بلده في ميدان نقل الركاب في المدن. ومن خلال العروض المقدمة عن التنظيم الحالي لنقل الركاب في المدن الرئيسية في الدول العربية، استطاع كل مشارك أن يعرف زملاءه بأنظمة العمل المتبعة في مؤسسته ومخططاتها بالنسبة لظروفها الحالية ومشاريعها المستقبلية. كما تخللت تلك العروض بعض الإحصائيات عن عدد الحافلات وعدد الركاب الذين يستعملونها يوميا، ودور سيارات الأجرة في نقل الركاب بالمدن، ونسبة الحافلات التي تستعمل يوميا بالمقارنة مع الحافلات التي تذهب إلى ورشات الصيانة أو تتوقف عن العمل نتيجة للعطب الذي يصيبها.
وكرس اليوم الرابع لزيارة مؤسسة النقل العام بالأردن حيث ذهب المشاركون إلى ورشات الصيانة وقسم جدولة الحافلات، وتعرفوا على الإحصائيات العامة لنقل الركاب بمدينة عمان وبرامج توسيع المؤسسة في المستقبل. وقد أثار انتباه العديد من المشاركين قضية التنافس الكبير بين حافلات نقل الركاب بداخل عمان وبين سيارات الأجرة التي تعرف بإسم ” سرفيس service ” وهي سيارات أجرة مخصصة لنقل الركاب بصفة جماعية يتحمل كل واحد منهم قسطه الذي تحدده وزارة النقل والذي يكاد يساوي تكلفة استخدام الحافلة. ويتميز هذا النوع من سيارات الأجرة بالتقيد بمسار واحد محدد كأن تنطلق السيارة من ضاحية معينة إلى وسط البلد ثم تعود إلى الضاحية التي انطلقت منها فقط. ولهذا فهي تختلف عن سيارات الأجرة المألوفة (Taxi) في جميع المدن الكبرى التي تنتقل حسب طلب الراكب والمكان الذي يريد أن يتوجه إليه.
وبعد الإنتهاء من الجوانب النظرية والتعرف على التجربة الأردنية في ميدان نقل الركاب بالمدن، توجه المشاركون العرب إلى مدينة بوخاريست عاصمة رومانيا لمعاينة التجربة الرومانية والتعرف على الجوانب التنظيمية لنقل الركاب بهذا البلد الذي أنشئت فيه أول مؤسسة عامة لنقل الركاب في عام 1958. وقد دام اللقاء العلمي أسبوعا كاملا برومانيا. وفي بداية اللقاء بالأكاديمية الرومانية للتنمية الإدارية، جاء المدير العام لمؤسسة النقل ببوخاريست، وهي مؤسسة تابعة للبلدية، فأعطى للمشاركين فكرة عامة عن المراحل التي تمت فيها عمليات نقل الركاب بالمدينة، وأوضح لهم كيف أن الدولة إعتمدت في البداية على النقل بالسكك الحديدية، ثم اقتضت الظروف الإعتماد على الحافلات التي تسير بالكهرباء، وبعد ارتفاع أسعار البنزين قررت الدولة أن تلتجئ إلى النقل بواسطة المترو، وهي المرحلة التي تعيشها رومانيا حاليــا.
وفي يوم الجمعة 15/05/1981 انتقل المشاركون إلى زيارة المحطة الرئيسية للباصات بمدينة بوخاريست والتي يتم فيها اصلاح جميع الباصات ومراقبتها وتشحيمها وتغيير زيوت محركاتها. ولعل الشيء المدهش حقا هو التنظيم الدقيق لمحطات تصليح الحافلات بسرعة وبفعالية تثير الإعجاب. فبتلك المحطة يمكن استيعاب 18 حافلة في وقت واحد، وتجري الأعمال بها لمدة 16 ساعة في اليوم. فالفوج الأول يمارس العمل في الثامنة صباحا حتى الثالثة بعد الظهر، والفوج الثاني يواصل العمل حتى الساعة الحادية عشرة ليلا. وبإختصار، فإنه في الإمكان إسقاط جميع قطع الحافلة وإعادة تركيبها وتشغيل الحافلة في نفس اليوم وذلك بغض النظر عن الإضرار التي لحقت بالحافلة. ولاحظ المشاركون بأن الرومانيين يقومون بصنع جميع أنواع قطع الغيار في رومانيا، وتستبدل القطع التالفة بالقطع الجديدة في الحال، ثم ترسل القطع التالفة إلى الورشة للتعرف على الخلل، وإصلاحها بقصد الإستفادة منها في المستقبل. كما أن قطع الغيار المتآكلة ترسل إلى الورشة لإصلاحها واستعمالها من جديد. وفي نفس المحطة، تعرف المشاركون على نوع من الحافلات التي هي عبارة عن مطعم متنقل، تستعمله مؤسسة النقل لتوصيل المأكولات والقهوة للعاملين الفنيين والسائقين الذين يشتغلون في أماكن بعيدة عن المدينــة.
ويستفاد من ملاحظات المدير العام لمؤسسة النقل ببلدية بوخاريست أن حكومته تنوي حل مشاكل النقل الحضري عن طريــق :
- ربط الأحياء بعضها ببعض من ناحية خطوط النقل.
- تخصيص ممرات للحافلات في الشوارع المزدحمة حتى يتسنى لها التنقل بسرعة.
- زيادة نسبة النقل بالعربات الحديدية التي تسير بالكهرباء وتتسع لنقل أعداد كبيرة من المسافرين بسبب كثرة عدد العربات.
- التعاون مع مؤسسة المترو التي ستتكفل بنقل 40% من الركاب بعد الإنتهاء من تشييد الخط الذي يربط شمال المدينة بجنوبها والذي تقرر تشغيله في صيف 1981.
وفي اليوم التالي قام المشاركون بزيارة إلى إحدى وحدات سيارات الأجرة بالمدينة التي كان يوجد بها 200 سيارة من مجموع سيارات الأجرة الموجودة في المدينة والتي يبلغ عددها 750 سيارة لنقل الركاب. وقد شرح مدير الوحدة التي زارها الوفد العربي بأن العداد يبدأ بما قيمته نصف دولار، أي 6 ليات رومانية، ثم يدفع الراكب 5 ليات عن كل كيلومتر تقطعه السيارة. أما إذا توقفت سيارة الأجرة لإنتظار الزبون، فإن العداد يدور ببطء والتكلفة تنخفض إلى النصف. وفي العادة يشتغل السائق مدة 12 ساعة ثم يأخذ راحة لمدة 24 ساعة. والنظام المتبع للسائقين هو أن ثلاثة منهم يتداولون على استعمال سيارة واحدة بالتناوب. وقال رئيس المؤسسة أن 90% من السيارات تشتغل و20% تبقى في التصليح أو الإستراحة.
والإتجاه الحديث الآن في بوخاريست هو الإعتماد بصفة جذرية على التاكسي الكبير أو الحافلة الصغيرة التي تتسع لعشرة مقاعد أو أكثر بقليل. وهذه الحافلة الصغيرة سوف تنتقل من محطات معينة إلى مناطق محددة، وفي إمكان الركاب أن ينتقلوا بصفة جماعية من منطقة إلى أخرى بأقل تكلفة ممكنة.
وبالنسبة للتنظيم الإداري لمؤسسة النقل العام بمدينة بوخاريست والتي يشتغل فيها 4.200 عامل، فإن المسؤولية في القيادة مقسمة بين مدير وحدة الإنتاج ورئيس المهندسين ورئيس المحاسبين. فهم الذين يتحملون مسؤولية الإدارة بالتعاون مع مجلس العمال الذي يعتبر السلطة العليا في المؤسسة. وكل وحدة إنتاجية تحصل في نهاية العام على أرباح، توزع على العمال الذين أظهروا تفانيهم وإلتزامهم بخدمة قضايا المؤسسة. أما الكسالى أو الذين يتغيبون فيحرمون من المشاركة في إقتسام الأرباح. ويلاحظ أن المؤسسات الرومانية لا تنتج أي شيء إلا بناء على عقد مع مؤسسة في حاجة إلى إنتاج معين. ولهذا فإن جميع المنتوجات مباعة مقدما ولا يمكن أن يتضرر العامل من كساد السوق أو عدم تسويق إنتاجه، وبالتالي حرمانه من الحصول على أرباح في نهاية السنة. ثم أن الدولة تساهم بنسبة 30% في ميزانية مؤسسة النقل وذلك كدعم لها حتى
لا ترفع الأسعار وترهق ميزانية المواطن الروماني الذي يتقاضى راتبا متواضعا.
وفي يوم السبت 16/05/1981 توجه المشاركون إلى إحدى مؤسسات نقل الركاب عن طريق تروليبيس التي تعتبر واحدة من جملة 12 مؤسسة بمدينة بوخاريست. وفي هذه المؤسسة تعرف المشاركون على سير العمل وعلى إمكانية نقل 300 راكب في العربة الواحدة أو 600 راكب إذا كانت العربة من الحجم الكبير. كما أوضح رئيس المؤسسة أن العربات تنقل 18.000 راكب في الساعة الواحدة. وخلافا لحافلات النقل العام الأخرى، فإن خطوط تروليبيس لا تتجاوز 7 خطوط. إلا أنها تمتاز بجودة الصيانة والتنظيف والتشحيم والغسيل، فكل عربة لابد أن تمر بقسم الصيانة كل 26 ساعة وتمر بالمغسلة كل 3 أيام وبقسم التنظيف كل يومين، وبالفحوص التقليدية كل يوم.
وفي يوم الإثنين توجه المشاركون إلى مؤسسة الميترو، وهي مؤسسة تابعة لوزارة النقل والسكك الحديدية. وقد ابتدأت المؤسسة بناء خطها الأول في عام 1976 وانتهت منه في نهاية 1979. وهناك الآن 16 عربة تشتغل على الخط الأول الذي يربط غرب المدينة بشرقها. وفي إمكان كل عربة أن تنقل 400 راكب دفعة واحدة. وفي الوقت الحاضر يمر الميترو على كل محطة في مدة لا تزيد عن 7 دقائق. وعند اكتمال الخط، سوف تنخفض المدة إلى 4 دقائق. وعندما تنتهي المؤسسة من تشييد الخط الممتد من الغرب إلى الشرق سوف يكون عدد المحطات 17، والمسافة الكاملة للخط هي 17 كيلوميترا. وفي الوقت الحاضر، ينقل الميترو 50.000 راكب في اليوم، أما بعد 1983، فسوف ينقل يوميا 250.000 راكب.
وأكد مدير المؤسسة أن الميترو أصبح هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ المدن من الإزدحام وضياع الوقت وتخفيف الضغط عن الشوارع التي أصبحت مكتظة بالبشر. ومع أن تكاليف الكيلوميتر الواحد لا تقل عن 400.000 ” لي ” روماني، فإن الحكومة الرومانية مصممة على تطوير وتنمية النقل الحضري بالميترو مهما كلف ذلك من ثمن، لأنه أقل تكلفة من الحافلات، ويخفف من وجود الحافلات بالمدينة، ويلبي حاجات الجمهور بالنسبة للنقل ويسمح للحافلات أن تركز على النقل خارج وسط المدينة. وحسب التخطيطات الحالية، فإن الميترو سوف يتكفل بنقل 30% من الركاب بعد عام 1985، ويلبي رغبات مليون شخص في اليوم من جملة 4 ملايين راكب.
التقييم العام للبرنامــج
في يوم الثلاثاء 19/05/1981 اجتمع حول مائدة مستديرة المحاضرون والمشاركون وأعضاء الأكاديمية الرومانية للتنمية الإدارية وممثل عن المنظمة العربية للعلوم الإدارية وذلك لإبداء آرائهم في البرنامج بصفة عامة حتى يتسنى لمنظمي اللقاءات القادمة أن يستفيدوا من الآراء والمقترحات التي تقدم من طرف المشاركين. ومنذ البداية لاحظ نائب رئيس الأكاديمية أن المشاركين كانوا يتابعون الزيارات الميدانية بإهتمام شديد ويطرحون أسئلة مثيرة جدا. كما أشار في حديثه إلى أن لكل نظام في العالم مزاياه وعيوبه، وعلى المشاركين أن يصدروا أحكامهم ويختاروا لأنفسهم الأشياء المفيدة التي تتلاءم وظروف العمل في بلدانهم.
ثم عبر ممثل المنظمة العربية للعلوم الإدارية (الدكتور عمار بوحوش) عن ارتياحه للظروف الحسنة التي جرى فيها اللقاء العلمي وذلك بفضل الإنضباط الجيد من طرف المشاركين وخبراء الأكاديمية وخبراء دائرة السير في عمان.
وأكد المشرف العلمي أن الشيء المثير في هذا اللقاء هو التعرف على تجربة الأردن والتجربة الرومانية في آن واحد. ثم تقدم بخالص شكره وتقديره للمسؤولين الرومانيين الذين تعاونوا مع المنظمة العربية بإخلاص وأظهروا تفانيهم في إنجاح هذا اللقاء، سواء في ميدان تقديم البحوث والدراسات النظرية التي سلمت للمشاركين بعمان أو خلال الزيارات الميدانية لمؤسسات النقل بمدينة بوخاريست. كما أثنى على المشاركين الذين اتسموا بالإنضباط والوعي وحسن الإستيعاب والمشاركة.
وبعد ذلك طلب إلى المشاركين إبداء انطباعاتهم عن هذا اللقاء، فقام كل مشارك بالتعبير عن رأيه في موضوع اللقاء. وانتهت كلماتهم بالإعراب عن الشكر والتقدير للمنظمة العربية للعلوم الإدارية لتنظيم هذا اللقاء المفيد بالتعاون مع الأكاديمية الرومانية، والتطلع لعقد لقاء آخر حول موضوع مكمل لهذا اللقاء كموضوع مشاريع الإستثمار في نقل الركاب. ثم اختتمت هذه الكلمات بإعراب المشاركين عن ارتياحهم النفسي لإطلاعهم على التجربة الرومانية والتجربة الأردنية في ميدان نقل الركاب، وبالتوجه بالثناء والعرفان إلى الذين ساهموا في إنجاح البرنامج من مسؤولين ومشرفين ومحاضرين ومترجمين.
(*) تقرير منشور في المجلة العربية للإدارة، العدد الثالث (أكتوبر)، 1981، ص 86-89.