ما أصعب تغيير السياسات العامة بدون ميكانيزمات ذات فعالية
نحن الآن نعيش في عصر يتميز بالسرعة الفائقة في تطور الأحداث وتغير الأوضاع بسرعة مذهلة. وفي هذا البحث سنحاول التركيز على التحديات الجديدة في مجال رسم السياسات العامة وسعي كل دولة لإقناع مواطنيها وحلفائها بجدواها وحسن تطبيقها في أرض الواقع. إن التحديات التي تواجه حكوماتنا في المغرب العربي، سواء في مجال السياسات الداخلية أو السياسات الخارجية، هي تحديات منبثقة عن هيمنة دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على العالم، وسعيهما الحثيث لبسط نفوذهما في كل مكان بحيث يعتبران الكرة الأرضية كلها مجال عملهما، وهدفهما هو خلق اندماج اقتصادي وسياسي عالمي، وإقامة إمبراطورية جديدة مشابهة لإمبراطورية روما التي كانت تقود الحروب التي كانت تفرضها المصالح لا الحق.
إنه لمن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ورائها الاتحاد الأوروبي، يسعيان لوضع سياسات جديدة وإعادة تشكيل الخريطة الدولية بما يتواءم وطبيعة مصالحهما، وهما يريان نفسهما قوة دولية قادرة على تغيير سياسات الدول الأخرى طوعا أو كرها، ولا يحتاجان للاختباء وراء الأمم المتحدة، لأنهما يشعران أنهما قادران على تحجيمها أو تجويعها بحبس التمويل عنها. وبإيجاز، أنهما يريدان العودة إلى عالم يحكمه منطق القوة العسكرية المباشرة الذي استخدمته الامبراطوريات الاستعمارية السابقة، والدليل على ذلك هو إرسال جيوش الدول الغربية إلى العراق وأفغانستان والصومال وصيربيا، للإطاحة بالحكومات الوطنية التي رفضت الانصياع لأوامر القادة الأوروبيين والأمريكيين.
وبإيجاز، إن السياسات العامة للمحور الأوروبي-الأمريكي قد تغيرت بسرعة فائقة بعد 11 سبتمبر 2001، وهذا التغيير يتمثل في وضع استراتيجية جديدة تهدف إلى تغيير الوضع القائم واستبداله بنظام دولي جديد يقوم على أساس:
- ضمان تدفق النفط في شريان الاقتصاد الغربي بدون ضغط أو مساومة من أي طرف.
- تأمين الوظائف والمحافظة على وتيرة النمو في الدول الغربية.
- السعي لفرض الأمن والاستقرار على الكرة الأرضية لأن ذلك ضروري للمحافظة على الهيمنة الغربية.
- الحرص على بقاء مفهوم الإرهاب غامضا بحيث ينحصر معناه في محاربة كل منظمة أو دولة تخرج عن طاعة الدول الغربية.
السؤال المطروح هنا: ماهي التغيرات التي أدخلناها نحن على سياساتنا العامة في الداخل أو سياستنا الخارجية؟ هل توجد لدينا استراتيجية مدروسة وفعالة لمجابهة التحديات الآتية من المحور الأوروبي-الأمريكي ؟
تغيير السياسات العامة بالمراسيم… وكفى!
إن من يتابع الاجتماعات المتتالية لمجلس الحكومة في بلدنا لدراسة مشاريع السياسة العامة المعروضة على بساط البحث لاتخاذ قرارات بشأنها، يشعر أن قيام أعضاء الحكومة بواجباتهم واتفاقهم على إصدار المراسيم الخاصة بحل المشاكل العالقة، يبشر بالخير وأن المشاكل المدروسة قد تم حلها بصفة نهائية وأن الفرج سيكون عن قريب.
غير أن من يقرأ الصحافة الوطنية ويطلع على انطباعات قادتنا في السلطة التنفيذية بشأن السياسات العامة والنتائج المحصل عليها في الميدان، يشعر بالذهول والإحباط. فالمعلومات التي نشرتها الصحافة الوطنية واطلعنا عليها في شهر مارس 2008، تشير أن رئيس الدولة الذي أطلق برنامجا خاصا للإنعاش قيمته 150 مليار دولار، غاضب على الفريق الحكومي وعلى مساعديه في الرئاسة، وقد همس في أذن أحد المقربين منه زاره في الفترة الأخيرة أنه لم يعد يعرف الخلل في سياساته العامة. فقد قال: “لقد عملت كل ما أستطيع وما زلت أرى هذا الكم الهائل من المشاكل … لم أجد من ينفذ برنامجي بالطريقة التي أريدها”(1).
وفي نفس السياق أبدى رئيس الحكومة انزعاجه من وجود مشاكل وقلاقل في عدة وزارات، وقال: “كلما تحصلت على مزيد من الأموال كلما تضخمت فيها المشاكل، وأشار بالتحديد إلى وزارات الصحة والفلاحة والتجارة والتضامن والتشغيل والعمل والصناعة والشؤون الدينية”(2).
إن المتمعن في هذه الانشغالات التي تقلق كبار المسؤولين في الدولة تدفع أي مواطن للتساؤل: لماذا تتعثر السياسات العامة التي تصدر في شكل مراسيم، في حين أن كبار المسؤولين على مستوى البلديات والولايات تخيفهم الزيارات الميدانية لقادة السلطة التنفيذية، حيث يهرعون لتزيين المدن وانجاز المشاريع المبرمجة للتدشين وإظهار الجدية في نجاح السياسات المرسومة من طرف الحكومة، إذا زارهم أي مسؤول في الحكومة؟. هل معنى هذا أن المسؤولين المعينين لتنفيذ السياسات العامة لا يتحركون ولا يحرصون على تنفيذ السياسات العامة إلا إذا زارهم ميدانيا من يملك حق اصدار المراسيم وذلك خوفا على مناصبهم وتجنبا لتنحيتهم وعزلهم بجرة قلم؟. إن هذا السلوك الغريب يثير تساؤلات عدة. لماذا تبقى السياسات العامة التي صدرت في شكل مراسيم حبرا على ورق ولكن تبرز وتحقق نتائج ملموسة إذا تعلق الأمر بمصير الفرد ومصلحته الشخصية في المحافظة على منصبه وعلى المزايا الوظيفية التي يتمتع بها.
وبناء على ما تقدم، نستخلص أن مشكل السياسات العامة لا يكمن في القوانين والأموال والتجهيزات، وإنما يكمن في غياب آليات العمل والعناصر البشرية المؤهلة أو المتخصصة. وفي هذا السياق تشير بعض الدراسات إلى أن عدم استغلال رأس المال البشري بطريقة فعالة، هي المشكلة الرئيسية التي تواجه الدول النامية بصفة عامة. ولذلك نجد علماء الاقتصاد والسياسة في البنك الدولي يشيرون إلى أن الأبحاث التي أجروها على 192 دولة بالأمم المتحدة تبين أن رأس المال المادي لا يمثل في المتوسط سوى 16% من إجمال الثروة، وأن رأس المال الطبيعي يمثل 20%، بينما أهم من الاثنين هو رأس المال البشري الذي يمثل 64% من الثروة الإنتاجية(1).
إن ما نريد أن نؤكد عليه هنا أن المشكل يكمن في التنظيم الجاري به العمل حيث يوجد خلط بين أصحاب المؤهلات الذين يقتصر دورهم على تنفيذ قرارات ومحاضر أعمال المجالس المحلية، ورجال السياسة الذين ينحصر دورهم في دراسة السياسات العامة واتخاذ القرارات بشأنها، ثم تحويلها إلى أصحاب المؤهلات العلمية في الاختصاص لتنفيذها. وعليه، فإن الإشكال في هشاشة المؤسسات حيث لا يوجد تحديد للصلاحيات وتقاسم المسؤوليات بين جهات سياسية تضع السياسات العامة، وجهات متخصصة تشرف على تنفيذها بمهنية عالية.
والسؤال المطروح هنا: لماذا نتشبث بالتنظيم الكولونيالي الذي أقيم على أساس الخضوع للوصاية في باريس والجزائر العاصمة وكان هدفه التحكم في السكان وإخضاعهم لسلطات الدولة المسيطرة؟ إنه لمن الواضح أن المشهد قد تغير حيث حل أبناء الوطن محل الأجانب. غير أن أسلوب هيمنة السلطة المركزية على المحلية وتكليف أفرادا حزبيين بتسيير البلديات والولايات، بعد تزكيتهم من طرف أحزابهم والمنتمين لعصب معينة على المستوى المحلي والوطني، لا زالت إلى اليوم هي الطريقة المستعملة لتسيير المؤسسات البلدية والولائية والعيب في الحقيقة ليس فقط في انتقاء أفراد يغلب عليهم هاجس السياسة والسعي بجميع الوسائل للارتقاء إلى مناصب عليا في الدولة. لكن الخطأ الفادح يكمن في التنظيم الحالي وعدم وجود ميكانيزمات أو آليات ذات مصداقية لتنفيذ السياسات العامة التي تم إقرارها من طرف المجالس المنتخبة أو الوصاية.
ولهذا، فإن الجدية في العمل وتنفيذ برامج رئيس الدولة بفعالية ومهنية احترافية، يتطلبان تغيير نظام البلديات والولايات والمؤسسات التابعة للدولة بحيث يتم خلق ميكانيزمات ذات مصداقية لتنفيذ السياسات المسطرة من طرف القيادة بكفاءة عالية في إطار نظام فعال، بعيد عن المتسلقين والمدمنين على التربع على كراسي المسؤولية، بدون مؤهلات علمية أو كفاءات مهنية مفقودة.
تغيير السياسات العامة يصطدم بالقوانين الظرفية
لو سألني أي إنسان، ماهو المشكل الصعب التي تصطدم به مسألة عملية وضع استراتيجية فعالة لوضع السياسات العامة في بلدنا، لقلت له بأن الخلل الكبير يكمن في النظرة الخاطئة للقوانين وتقديسها والالتجاء إليها لمعالجة الأزمات في تنفيذ السياسات العامة، والبرهان على ذلك ما قاله رئيس الجمهورية في خطاب له بولاية تيبازة بعد إعادة انتخابه ” بأن الجزائر يعشعش فيها الفساد … وأن العصابات (Bandits) تتحكم في سوق الاستيراد بالقوة، أحيانا، وبالتهديد والإرهاب، أحيانا أخرى … والاحتكارات الفردية للسوق تتم على أساس النصوص القانونية للجمهورية … إن الضمانات والتسهيلات تعطى لهذه العصابات من البنوك. ولهذا فالجزائر الآن في مستنقع ملوث، وهي في حاجة إلى تطهير قبل أن يتم تسييرها من طرف أفراد نزهاء”.(1) كما أشار رئيس الجمهورية إلى وجود مافيا سياسية – مالية، تتشكل من 12 شخص يحتكرون التجارة الخارجية.
إن هذا الاعتراف بوجود قوانين حكومية صادرة عن القيادة المركزية للدولة، تثبت أن القوانين في جوهرها، ماهي إلا وسيلة عمل، وليس قرآن أو تنزيل من حكيم حميد. إن المشكلة في ذهنيتنا وتفكيرنا واعتقادنا أن القوانين مقدسة، وأن احترام النصوص القانونية وتطبيقها حرفيا هو الطريق السليم للعمل. وفي الحقيقة أن ما ينبغي عمله والاقتناع بجدواه هو رفع الحظر عن المبادرات الفردية والمؤسسية، وإعطاء كل مؤسسة حرية العمل وفق قوانينها الداخلية بحيث يكون في إمكانها تعديل نظام عملها وإثراءه أو إلغائه إذا اقتضى الأمر ذلك، بدون الرجوع إلى الوصاية أو المؤسسات المركزية التي تتحكم في كل شيء عن بعد وهي غير دارية بما يجري في بيئة العمل.
وباختصار، فإن المشكل يكمن في عدم وجود الثقة في المؤسسات التي من المفروض أن تكون لها ميزانياتها الخاصة بها، وعليها أن تتصرف فيها كما تشاء، وهي مسؤولة عن نتائجها، إيجابا أو سلبا. وفي هذا الصدد دعني أعرج على مشكل النقل العام أو نقل الطلبة في وطننا. إنه لمن الواضح أن حكومتنا الآن تسعى بجميع الوسائل المتاحة لها، تخصيص قطاع النقل العام والتخلي عنه للقطاع الخاص الذي يعرفه العام والخاص بأنه يلهث وراء الربح السريع وتكديس الثروة.كما أنها قامت بالتعاقد مع القطاع الخاص بتأجير حافلات للطلبة لا يعلمها إلا الله ما إذا كانت تذهب وتأتي فارغة أم ممتلئة. ولكن الشيء الأكيد أن هذه الحافلات خلقت ازدحاما كبيرا في الطرق وشكاوي منها وصلت إلى العدالة. ونحن هنا نتساءل: لماذا توجد في فرنسا، مثلا، مؤسسات حكومية للنقل، سواء كانت حافلات، قطارات، أو سكك حديدية، وكلها توفر النقل الجيد للطلبة وللمواطنين الذين يشترون بطاقة واحدة، للتنقل بهذه الوسائل؟ إنها مؤسسات تابعة للقطاع العام … وناجحة 100%، وكل واحد يصل إلى مؤسسته في الوقت، ويدفع من جيبه إلى المؤسسة ثمن اشتراكه أو تذكرة سفره. وبالتأكيد، إن ما تحصل عليه مؤسسات النقل التابعة للقطاع العام كافي لتجديد الحافلات وتكثيفها إذا اقتضى الأمر ذلك.
والسؤال المطروح هنا: لماذا تتجه سياساتنا العامة إلى اتهام القطاع العام بالإفلاس والتخلص منه بسرعة فائقة، في حين تعمل دول أخرى على إنجاحه، وتسهيل تنقل المواطنين والطلبة ومساعدتهم على دفع أثمان معقولة للتنقل؟. إن الشيء الأكيد هو أن قانون التعاقد مع القطاع الخاص، سيسهل عملية امتصاص أموال الدولة والاستفادة من تجارة رابحة وتضخيم الفاتورات والتحايل على قوانين الجمهورية للحصول على صفقات مربحة.
ثم إن إصدار القوانين والمراسيم والتعليمات من أعلى، وحتمية تطبيقها على جميع المستويات في المؤسسات، قد يخلق مشكلا آخر في مجال انتهاج السياسات العامة. إن القوانين التي تصدر من هيئات عليا، لا يمكن معاقبة من يعمل بها إذا أخطأ، وإخضاعه للتحقيق والمتابعة القضائية لأن تلك الهيئة تعتبر رمزا من رموز الدولة والمس بها يعتبر بمثابة تحطيم مصداقية الدولة أمام الرأي العام. إنني تعمدت أن لا أقول أن كبار الشخصيات في الدولة، بصفة عامة، يتمتعون بحماية قانونية وعلاقات مع من ساعدوهم على الجلوس على كراسي القيادة، ولكنه واضح أن التخلي عن حصان رابح، عملية صعبة.
وباختصار، فإن القوانين التي ينظر إليها أنها أساسية للعمل، تفقد خصوصيتها ويبطل مفعولها، إذا كانت تتعلق أو تمس بشخصيات في أعلى هرم السلطة، لأن المنفذين للقوانين لا يستطيعون أن يسبحوا ضد التيار ويعاقبون رؤسائهم إذا أخلوا بالقوانين.
وما يهمنا في هذا الموضوع، أن الاعتبارات السياسية وعدم كشف أسرار العمل في الدولة، قد تنعكس سلبيا على سياسات الحكومة. وهذا يقودنا إلى القول بأن اعتماد كل مؤسسة على قانونها الداخلي ومحاسبة كل مسؤول فيها وفقا للقانون الداخلي للمؤسسة، هو المخرج الحقيقي والوحيد لهذه المعضلة. إنه من السهل تطبيق القوانين على مستوى المؤسسة التي وقع بها الحادث الذي يعاقب عليه القانون.
إن ما نهدف إليه من هذا الكلام هو أن قوانين تسيير المؤسسات ينبغي أن تكون مفصولة عن السياسة وبعيدة عن التدخلات الفوقية، لأن الوصاية هي التي قد تستغل القوانين لإفراغها من محتواها واستعمالها لأغراض ذاتية ومنافع شخصية.
الاستئثار بالقرار هو سبب الخلل في صياغة السياسات العامة
المشكل الرئيسي في عملية رسم السياسات أن هناك عدة جهات أو جماعات أو شرائح اجتماعية تسعى لنيل نصيبها من الثروة والمنافع والمزايا التي تحصل عليها يوم يتم إقرارها من طرف السلطات العليا بالبلاد. وعليه، فإن مشاكل السياسات العامة تكون من صنع الأفراد أو الجماعات، وهي توجد أينما وجدت التجمعات البشرية.
من الناحية النظرية، فإن الأطراف الرسمية الحكومية المتمثلة في السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، بالإضافة إلى الأطراف غير الرسمية مثل الجماعات الضاغطة، الأحزاب السياسية والرأي العام. غير أنه من الواضح، أن السلطة التنفيذية هي التي تستأثر برسم السياسات العامة. إن دور السلطة التنفيذية لا يمكن إخفاءه، إذ أن الشعوب تعيش عصر هيمنة السلطة التنفيذية بسبب الاعتماد بشكل كبير على القيادة التنفيذية في رسم سياسات والإشراف على تنفيذها في نفس الوقت. ولهذا، فإن أنظار الناس تتجه باستمرار إلى القيادة وما تفعله. إن القيادة تتحمل المسؤولية شبه كاملة على كل ما يحصل في الميدان، أي عند تطبيق القوانين على المجتمع.إن أفراد المجتمع ينظرون باستمرار إلى السلطة التنفيذية لأنها هي التي تقوم بتنظيم الصراعات الاجتماعية. ولهذا فإن مشاركة جميع الفئات الاجتماعية في صنع السياسات العامة تعتبر قضية جوهرية في مسألة صياغة أي قرار يتم الاتفاق عليها من طرف الفرقاء في أي مجتمع. إن اتفاق القوات الاجتماعية الفاعلة في البيئة الداخلية هو الذي يسهل عملية تطبيق الحكومات.
المشكل في سياساتنا العامة في الوقت الحاضر هو أن الدولة تتجاهل آراء ووجهات نظر الفئات التي لا تقبل الخضوع لإرادة قادة السلطة التنفيذية وتزكية أية سياسة تخدم مصلحة الحكومة، أولا، وقبل كل شيء. فمن يعارض السياسات الحكومية يتم تجاهله وعدم الاستماع إلى انشغالاته، ومن يظهر مناصرته وتأييده لسياسات الحكومة يتم تبجيله والسماح له بتوظيف أجهزة الإعلام لقضيته. ونستخلص من ما تقدم، أن السياسات الحكومية، بصفة عامة، تقوم على أساس تغييب القوى المعارضة وإقصائها من المشاركة في وضع سياسات عامة تخدم المجتمع وتساعد على خلق دعم سياسي من الجماعات التي تظهر استقلالها عن القيادة السياسية الحاكمة. والسؤال المطروح هنا: ما فائدة أن تكون الحكومة قوية والجماعات المهنية والأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية ضعيفة وخاضعة للجماعة الحاكمة؟ ثم، ماهي قيمة تغيير وقيادة المجتمع بمراسيم حكومية؟ هل أحقية الحكومة في إصدار القوانين التي يسري مفعولها على جميع المواطنين يضمن لها تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية؟.
إن المفكر العربي الذي يحترم نفسه وشعبه وقيمه العربية الإسلامية لا يستطيع أن يجيب بالإيجاب على هذه الأسئلة المطروحة، ولابد أن يقر أو يعترف بأنه غير قادر على تجسيد أفكاره في أرض الواقع، حتى ولو كانت جيدة وصائبة. ولهذا، فإن الأمانة العلمية تقتضي القول أن العدالة موجودة بالفعل في القواميس ولكنها مغيبة أو غائبة في المجتمعات النامية بسبب تهميش الجماعات الواعية بقضايا أمتها والانفراد بفرضها عن طريق السلطات المختصة التابعة لها. فمن يخرج عن تلك القوانين يعرض نفسه للمساءلة ويتهم بالتطاول على قادة بلاده الذين يحوطون أنفسهم بهالة من القداسة لا تقبل النقد أو الجدل، والبعيدون عن كل رقابة.
إنه لمن الواضح، أن مسألة إنصاف الناس وتحقيق العدالة الاجتماعية وخلق الطمأنينة في نفوس المواطنين، هي قضايا حيوية لكل مجتمع، ومن الصعب منازعة القيادة الحاكمة فيها أو مجابهتها. إن عملية إصدار القوانين وتطبيقها تنبع من الحكومة التي تملك جيشا كبيرا من الموظفين التابعين لها والذين يتقاضون رواتب عالية منها جزاء لهم على تنفيذ قوانينها ومعاقبة من يعترض على سياساتها المقررة بصفة رسمية.
إن الواقع يفرض علينا هنا، أن نتوقف لحظة ونساءل عن الجهات التي كان من المفروض أن تتحرك وتسجل المواقف بالنسبة للسياسات العامة ولا تسكت عن انفراد السلطة التنفيذية بوضع وتنفيذ السياسات العامة. إنها بدون شك، الأحزاب والنقابات والرأي العام، لأن أعضاء السلطات الحكومية من الهيئتين التشريعيتين والسلطة القضائية، قد يتفاهمون فيما بينهم على وضع سياسات معينة بحيث لا يطفوا على السطح أي انشقاق أو خلاف يزعجهم ويخلق استياء لدى المواطنين. فالأحزاب والنقابات الوطنية، هي المعول عليها لتغيير السياسات وقيادة حرية التعبير وتخليص البلاد من هيمنة الحزب الواحد ومن معارضة قادته للإصلاحات الليبرالية، ولو أن الإصلاحات هي دائما مصحوبة بعقلية قديمة وهي أشبه بالمساحيق التجميلية التي تضعها بين الحين والآخر بقصد إخفاء تجاعيد وجهها.
غير أن تجربة التعددية الحزبية منذ دستور 23 فبراير 1989، قد أثبتت عدم فعاليتها ووجودها باهت على خريطة الفعل السياسي. فالمحلل الثاقب النظر يرى أن هناك تراجع كبيرا في المشهد الحزبي والنقابي. إن مشكل الأحزاب أنها تجمعت حول أشخاص وليس حول أفكار، والهدف الرئيسي لهؤلاء الأشخاص هو اختزال الفعل والممارسة في مجرد احتلال مواقع، والظفر ببعض الحقائب الوزارية تحت طائلة أن النضال الديمقراطي لا معنى ولا قيمة له إذا لم يفض ويؤدي مباشرة إلى السلطة(1).
في بداية التسعينات من القرن الماضي راهنت فئات اجتماعية عديدة على نجاح الأحزاب في زرع مفاهيم المواطنة والوطنية وبناء المجتمع العادل والدولة الديمقراطية، وتحمست للبرامج والسياسات العامة والشعارات البراقة، والتزمت بالقضاء على المشاكل المتمثلة في البطالة والفقر والزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية وتنامي الفوارق الاجتماعية والجمهوية. لكن بعد تجربة ما يقارب عشرين سنة من الممارسة، أثبتت الأحزاب أنها غير قادرة على الوفاء بوعودها، وفكت ارتباطها بالشعارات التي رفعتها، وضربت عرض الحائط بالمبادئ التي تعهدت الالتزام بها في عملها. إنها غير قادرة على المبادرة والابقاء على صلة قوية بالمواطنين والتعبير عن طموحاتهم، ولا ترغب في إحراج السلطة حتى لا تفقد المعونات المالية في الانتخابات الوطنية والمشاركة في التظاهرات الاحتفالية.
وكيف ما كان الحال، فإن معظم الحكومات التي لجأت إلى الاصلاحات السياسية والحزبية والاقتصادية قد اكتشفت أن نظام الحكم قائم على أرضية صلبة، وفق معايير إيديولوجية تسيطر عليها فئة حزبية وحيدة، تضع ما تراه مناسبا من برامج، وتنسف ما لا يتوافق مع تفكيرها، وبالتالي، ما يتناسب معها ينتقل تدريجيا إلى واقعة سياسية تتماثل مع رؤيتها السابقة المبنية على النفعية المتحصلة من الأمر الواقع. وفي نفس الوقت تسعى نفس الفئة الحزبية لإحلال هالة من القداسة لا تقبل النقد أو الجدل، على رؤوس زعمائها البعيدين عن أية رقابة، بحيث لا يجوز إلحاق الضرر بهم، وبالتالي، فإن خطة الدفاع تعتمد دوما على التمركز حول القيادة.
نستخلص من ما تقدم، أن تغيير السياسات العامة ينبع من القيادة وليس من برامج الأحزاب والنقابات. إن تراجع شعبية الأحزاب التقليدية وإحجام الناخبين عن المشاركة في المناسبات الانتخابية أفسح المجال أمام جهاز السلطة لكي يمرر أي تغيير يراه القائد لازما. كما أن ديناميكية العولمة التي أخرجت القرارات الحيوية من نطاق الغرف التشريعية الوطنية إلى قاعات الشراكة الدولية. ففي دول أوربا الشرقية وخاصة روسيا نلاحظ أن الاقتراع التعددي يجري بطريقة عادية والانتخابات تتم بطريقة نزيهة، بدون أن تتغير تركيبة السلطة الفعلية.
النتائج الإيجابية للسياسات العامة
يتطلب وجود ميكانيزمات فعالة
إن مسألة تغيير السياسات وإصدار القوانين بكثرة لتدارك النقائص، قد خلقت معضلة اجتماعية، لأن العبرة في أي تغيير هي النتائج الإيجابية التي تحقق الغايات المنشودة. والمشكل الأساسي التي تعاني منه السياسات العامة هو عدم وجود ميكانيزمات أو آليات لتجسيد الأفكار والتصورات التي تظهر ملامحها عند رسم إستراتيجية التغيير. وعليه فالأسئلة المطروحة هنا: كيف يمكن لمؤسسات الدولة أن تحقق نتائج إيجابية جراء تطبيق السياسات العامة التي أقرتها القيادة؟ وإجابة على ما تم طرحه من إشكاليات واضحة للخلل الموجود في السياسات العامة المعلنة، نقترح المقاييس التالية التي قد تعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة.
- منح الاستقلال المالي والإداري لأي مؤسسة ذات خدمة عامة وإنتاج، ثم محاسبتها على النتائج. فالجامعات، مثلا، يكون في إمكانها الحصول على مساعدات مالية على كل طالب يدرس بها، وعندها الحق في فرض رسوم مالية على كل طالب يلتحق بها إذا كانت الميزانية غير كافية. والشيء المهم هنا هو وجود ميزانية خاصة بها، تنفق منها وتعتمد على نفسها، وتتحرر من سيطرة الوصاية التي تتحكم فيها وتجعل منها مؤسسة عالة عليها وليس لها القدرة على الوقوف على قدميها. فإذا كان لها ميزانيتها الخاصة بها، فإنها تستطيع أن تحافظ على نوعية منتوجها. وفي هذه الحالة، نستطيع أن نجعل من مجلس التوجيه الأعلى للجامعة ميكانيزم للمحاسبة والمراقبة.
- نقل سياسات التنفيذ أو التسيير من المنتخبين إلى المختصين، ونقصد بذلك إدخال الإصلاحات على التنظيم الإداري للبلديات بحيث تقوم المجالس الشعبية البلدية بصياغة السياسات العامة للبلديات وإمضاء محاضر الجلسات التي تحتوي على مشاريع، ثم إحالة عملية التسيير إلى مدير مالي وإداري (City manager) متخصص، تتم محاسبته على ما يقوم به من أعمال، من طرف المجلس الشعبي البلدي الذي يتحول إلى ميكانيزم للمحاسبة والمتابعة وتقييم النتائج.
- اللامركزية في التسيير، ونعني بذلك نقل سلطات كثيرة إلى الإدارة المحلية والولائية بحيث تعمل البلديات بصورة أفضل وبأقل كلفة ممكنة. إن الاستقلالية في العمل تسمح بخلق قيادات محلية قادرة على تجنيد المواطنين حول أفكارها، وتسهل الاتفاق على السياسات المزمع تنفيذها، بعيدا عن الانقسامات الحزبية التي تعيق العمل من أجل إنجاز الخيارات الأساسية.
- وجود سلطة للمحاسبة والمتابعة، والغاية من ذلك هي إثبات الجدية في العمل والوصول إلى نتائج ملموسة، ومن يقصر أو يتراخى في أداء واجباته يعفى من مسؤولياته ويبعد من منصبه.
- خلق الثقة في المستثمر الوطني، وعدم اللهث وراء المستثمر الأجنبي لأن هذا الأخير لا يمكن أن يأتي ويستثمر في بلد لا يثيق أبناءه في نظامه السياسي.
- تعدد جهات الاختصاص، وتعدد المواقف، يعد من أكبر المنغصات لأي مشروع استثماري، لأن كل جهة تريد أن تفرض سلطتها وتثبت أنها صاحبة القرار النهائي. ثم إن التعامل مع عدة جهات، يترتب عنه إضاعة الوقت وتكبد الخسائر في المال والجهد.
- عدم التسرع في إقرار السياسات قبل عرضها على خبراء محايدين، وهذا معناه أن القرارات الحاسمة التي تخص مصير أبناء شعب بكامله، تتطلب الاستعانة بالخبراء المحايدين للتأكد من سلامة الاستراتيجية المعتمدة. والشيء الملاحظ هنا أن معظم المؤسسات لا تتخوف من السعي لاكتشاف العيوب والانتقادات من طرف الخبراء بقدر ما تظهر شحها وبخلها على الخبراء والمختصين بالحصول على مكافآت مالية زهيدة!.
- غياب النصوص التكميلية للنصوص القانونية الأساسية، وجوهر هذه المشكلة ان النصوص القانونية تنقصها في أغلب الأحيان الإجراءات التوضيحية للبث في بعض القضايا الدقيقة. مثلا، نلاحظ أن الرسائل الجامعية تناقش وتعلن لجنة المناقشة أن الطالب أو الطالبة ناجح أو ناجحة بشرط تصحيح بعض الأخطاء الواردة في الرسالة. وقد لاحظت في الجامعات الأردنية أن 90% من الرسائل التي تجري مناقشتها تقع في هذه الخانة. وبكل تأكيد، لا يمكن أن ينال الطالب شهادته إذا لم يقم بتصحيح جميع الأخطاء خلال أربعة أشهر وإثبات ذلك فعليا لكل عضو من أعضاء لجنة المناقشة. لكن هذا الميكانيزم غائب في العديد من الجامعات والأخطاء تبقى كما هي!.
- التحفيز في العمل، أصبح في وقتنا الحاضر قضية الساعة. فالإنسان يتعذر عليه أن يفهم، لماذا في بلد مثل فرنسا، توضع الرسالة في البريد على الساعة الرابعة مساءا فيتسلمها صاحبها في اليوم التالي على الساعة التاسعة صباحا … بينما لا تصل الرسالة التي تم وضعها في بريدنا إلا بعد نصف شهر!!!. وبإيجاز، دعنا نقول أن ذلك يرجع إلى النقص في التحفيز.
- تفعيل هيئات الرقابة والتفتيش، وهذا عنصر أساسي لنجاح أية سياسة يتم اعتمادها من طرف الدولة. إن التلكؤ في تطبيق ما تنص عليه القوانين هو الذي يثبط العزائم ويقضي على مصداقية المؤسسات. وكما قال محمد الصديق بن يحي، وزيرنا السابق للتعليم العالي ذات يوم، إن الفرق بين دولة متخلفة ودولة متقدمة هو أن الدول المتقدمة فيها قانون يطبق والدولة المتخلفة فيها قانون لا يطبق!.
وفي الختام دعنا نقول، أننا في حاجة ماسة إلى خلق ميكانيزمات لكشف الغش والتحايل واستنزاف الثروات واختلاس الأموال والتهرب من المسؤوليات، وليس في حاجة إلى التلذذ بإصدار القوانين وتقديسها ثم تكديسها. إنه من الأفضل لنا إذا أظلمت الدنيا في وجوهنا أن لا نستسلم لليأس، ونكتفي بلعن الظلام، بل يجب علينا أن نضيء شمعة لتبديد الظلام الذي يحيط بنا ونعيد الثقة والطمأنينة والأمل لأبنائنا في مؤسساتهم الوطنية.
* بحث تم إعداده خصيصا للملتقى الدولي حول السياسة والإعلام: المتغيرات النظرية والمعطيات الاجتماعية، المنعقد بجامعة الجزائر (العاصمة)، في الفترة الممتدة من 16 إلى 17 أفريل 2008.
(1) المحقق، العدد 105، الصادر بتاريخ 15 – 21 مارس 2008، ص 24.
(2) نفس المصدر الآنف الذكر.
(1) آفاق جديدة، في التنمية البشرية والتدريب. القاهرة: المنظمة العربية للتنمية الإدارية، 2007، ص 12.
(1) El- Watan, du 8 Avril 2008.
(1) عبد الصمد بن شريف، الحياة، 9 فبراير 2006.