مشكلة التخلف في الوطن العربي
ندوة مجلة العلوم الاجتماعية
في مطلع العام 1985 اختطت مجلة العلوم الاجتماعية سياسة ترمي إلى تطوير مضمون القضايا التي تطرح على صفحاتها، وتغيير الإطار العام للمجلة، بهدف تنمية حقول العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، حيث تلتقي كل مرة في حوار مفتوح مع عدد المفكرين لطرح قضية هامة على الصعيد العلمي.
واستجابة لاقتراح الدكتور أسعد عبد الرحمن، سكرتير التحرير، ارتؤي عقد ندوة بين أساتذة جامعة الجزائر تتناول موضوع “مشكلة التخلف في الوطن العربي”. وقد نظم الندوة وأدراها وحررها الدكتور عمار بوحوش الأستاذ بمعهد العلوم السياسية والإعلامية بجامعة الجزائر، وشارك فيها كل من : الدكتور طارق الهاشمي والدكتور محمد خضير من معهد الحقوق والأستاذ الصغير بن عمار من معهد العلوم السياسية والإعلامية.
عمار بوحوش:
أرحب بكم في هذه الندوة أيها الزملاء الأفاضل، وأشكركم على تلبية الدعوة للمشاركة في الندوة. واعتقد أنه من المناسب أن نتطرق في بداية الحوار إلى الجوانب الحضارية للمجتمع العربي. فلنتعرف، في البداية، على مدى مساهمة العرب في ازدهار وإنعاش الحضارة الإنسانية.
طارق الهاشمي:
كان العرب أول المساهمين في مد الحضارة الإنسانية بزاد فكري راق في العلوم والمعارف. وحسبنا في ذلك حضارة الرافدين ووادي النيل، وبالتالي الحضارة العربية الإسلامية التي كانت جسرا يربط بين الفكر اليوناني القديم و الفكر الغربي الحديث. فلولا العرب المسلمون لما أشرقت نور الحضارة على أوروبا.
محمود خضير :
أؤيد ما قاله الدكتور الهاشمي وأضيف إلى ذلك أن الحضارة العربية قد عمت وانتشرت خارج الوطن العربي خلال التوسع العثماني.
الصغير بن عمار:
مفهوم الثقافية الإنسانية التي تبلورت في أذهان العرب، تجسم في دار الحكمة التي أقامها المأمون بحيث أصبحت مدرسة تعتني بالمعارف والعلوم الإنسانية والإختراعات اليونانية، أي أصبح مفهوم الثقافة له بعد يتجاوز النطاق العربي الإسلامي.
عمار بوحوش:
إنني اتفق معكم بأن العرب لعبوا دورا حاسما في نقل الحضارة اليونانية والحضارة والإسلامية إلى أوروبا، ولكنني أعتقد أن العلماء العرب قد ركزوا على خدمة أصحاب النفوذ والثروة ولم يعتنوا بالمسائل التي يستفيد منها كل مواطن عربي. فالإنتاج العلمي، إذا، لم يتوسع نطاق استعماله ولم يتركز على خدمة الصالح العام وإنما تركز على خدمة فئات محظوظة.
محمود خضير:
ليس من المفيد أن نعمم ونقول بأن المفكرين العرب قد ارتبطوا بفئة معينة دون فئات أخرى.
عمار بوحوش:
الآن بعد أن أعطينا الجانب التاريخي للمجتمع العربي حقه، دعنا ننتقل إلى صلب الموضوع وهو “مشكلة التخلف”. ما هو، يا ترى، المقياس أو ما هي المقاييس التي يمكن الاعتماد عليها للتفريق بين بلد متخلف وآخر متقدم؟.
محمود خضير:
التخلف بالنسبة لي يعني أن: الدخل الفردي ضعيف، أغلبية السكان تحصل على غذائها من القطاع الزراعي، ارتفاع نسبة الوفيات والولادات، استعمال الوسائل التقليدية لحرث الأرض وحصد غلاتها، صرف نسبة كبيرة من ميزانية الدولة على المواد الاستهلاكية وبصفة خاصة المواد الغذائية، وأنه من الصعب إشباع حاجات الإنسان وتوفير الخدمات العامة بطرق مرضية.
الصغير بن عمار:
اتفق مع الدكتور خضير في كل ما قاله، ولكنني أريد أن ألفت النظر إلى شيء أساسي وهو أن التخلف يثير كثيرا من التساؤلات. فالتخلف بالنسبة لمن؟ وما البلد الذي نقارن أنفسنا به؟ وإذا نحن تعرضنا لخصائص التخلف، فلا بد أن نشير إلى أن هذه الظاهرة تكمن في الوضع الحضاري للفرد، ونقصد بذلك العلاقات الإجتماعية التي تقام بين المواطن العربي والمصالح الإدارية التي تقدم له الخدمات اليومية. ثم إن هناك ظاهرة أخرى جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار ألا وهي الطبقات الاجتماعية التي تختلف كثافتها من مجتمع إلى أخر. ففي المجتمعات المتخلفة أصبحنا نلاحظ إضمحلال نفوذ الطبقات الأرستقراطية وتوسع حجم دور الطبقات الفقيرة، وهذه ظاهرة صحية تبشر بالخير. وأعتقد أن احتكاك الأفراد ببعضهم البعض، ومشاركة المرأة العربية في البناء الاجتماعي، وانتشار وسائل التكنولوجيا، كل هذه العوامل ستساهم في إخراج المجتمع العربي من مرحلة التخلف إلى مرحلة التقدم.
طارق الهاشمي:
في الحقيقة، أود أن أعطى تعريفا لمعنى التخلف. ما هو التخلف؟ هناك عدة تعريفات لهذه الظاهرة ولكن في رأيي المتواضع أن التخلف هو تدني حضاري يبقي شعبا يحيا كيانات اجتماعية واقتصادية وسياسية من الجمود لا يسمح له بالتغيير فيها. أما بالنسبة للمعايير، فأود أن أبين أن هناك بعض الخصائص، وهذا بالإضافة إلى ما ذكره زملائي من قبل ألا وهي: غياب مفهوم الأمة و الدولة، حدة التناقضات وشدة الصراعات الاجتماعية، وهذا العامل الأخير يفضى إلى تواجد ما يسمى بالنخبة في هذه المجتمعات، إضافة إلى عدم تواجد جهاز إداري قدير (أي جهاز خدمات) . وهذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى غياب الشعب، وبالتالي، عدم تحقيق طموحاته المشروعة، فتحدث فجوة عميقة بين الحاكمين والمحكومين. وكذلك يؤدي إلى ضعف الرأي العام وغياب الديمقراطية.
عمار بوحوش:
يبدو لي أن الأستاذ خضير قد أتى على ذكر العناصر العامة للتخلف ولكنه لم يتطرق إلى الجوانب الهامة التي أعتبرها أهم من غيرها. فالجانب الرئيسي، في رأيي، هو انعدام وجود طبقة اجتماعية متوسطة تكون قادرة على بعث الحيوية والنشاط، وعندها الإمكانيات التقنية والمادية لمجابهة الشركات الاحتكارية العالمية، بحيث تقوم تلك الفئة الاجتماعية، في النهاية، بدور الفئة الواعية والخادمة للمصلحة العامة. ثم أن تخلف العرب، في رأيي، يرجع إلى قلة العناية بالفرد وعدم تشجيعه على الإنتاج وإعطائه المكانة المرقومة والتي يستحقها في مجتمعه. فحسن استعمال طاقات الأفراد وخلق الفعالية في الأجهزة الإدارية المسيرة والحرص على إعطاء الأولوية للقضايا التي اعتمد عليها للتفريق بين مجتمع متخلف وآخر متقدم. وبدون إطالة، فإن مشكلتنا، نحن العرب، تكمن في تعلقنا الشديد بالآلات التقنية مع تفريطنا وإهمالنا للإنسان الذي يتحكم في تلك الأجهزة العصرية.
والآن وحيث أن كل أستاذ أعطى رأيه في مشكلة التخلف وبين المقاييس التي يستعملها للتعرف على المجتمعات المتخلفة، يجدربنا أن نتطرق إلى تحليل العناصر الرئيسية للتخلف حتى نتعرف جيدا على خبايا هذه الظاهرة المأساوية. وفي هذا الإطار، فإنني أود أن أعرف رأيكم في أهمية كل عنصر من عناصر التخلف. فهل تعتبر العناصر: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية متساوية، أم أن هناك عنصرا واحدا يطغى على بقية العناصر ويؤثر في قضايا التنمية بالعالم العربي.
الصغير بن عمار:
العناصر متداخلة وكل عنصر يؤثر ويتأثر بدوره. وفي اعتقادي الخاص أن الجانب السياسي هو أهم هذه العناصر التي ذكرتها آنفا لأنه هو الذي يحدد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والفكرية للمجتمع العربي. ولعل أهم مشكلة يجابهها الوطن العربي اليوم هي نظرة المجتمع إلى مفهوم السياسة حيث ينظر إليها نظرة ارتياب وتخوف في حين أن التوعية السياسية للمجتمع العربي هي الضمان لتحقيق أي مشروع اقتصادي أو اجتماعي. ثم، هناك ظاهرة أخرى للتخلف ويمكن ملاحظتها في بعض الدول العربية وذلك بإلقاء نظرة على الجهاز السياسي الذي تفصله فجوة كبيرة عن الجهاز الإداري. وبسبب هذا الانفصال بين القادة الذين يتخذون القرارات والقادة الذين يمارسون الأعمال الإدارية، يبرز سوء التفاهم وتزداد حدة الصراعات والخلافات التي تعرقل مسيرة العمل.
طارق الهاشمي:
في كل مجتمع متخلف نجد أن هناك طبقتين : الأولى قلة وهي طبقة حاكمة متخومة، وطبقة كبيرة وهي طبقة محرومة ومحكومة. إن هذا الوضع يولد انفجاراً في التناقضات والصراعات. وأيضا وبنفس الفكرة، فإن هناك تناقضات بين غني وفقير. عند ذاك، فإن النظام السياسية وهو في مواجهة هذه الظاهرة، أي ظاهرة التخلف، لا بد له من شد الجماهير الكادحة إلى ما يحقق عملية التنمية. ولكن بالخصائص التي ذكرناها آنفا، فإن الجهاز السياسي لا يستطيع – محكوما بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والفكرية السائدة – أن يحقق عملية التنمية، لأنها تستلزم تظافر الجهود ووحدة القاعدة مع القمة. ولا بد من تبيان أهمية العامل الثقافي في التغيير، فإنه أساسي ما دام المجتمع يسوده فقر وجوع ومرض. وهنا تلعب الأجهزة الإعلامية دورها الأساسي والرئيسي.
محمود خضير:
هناك عنصران مهمان من مظاهر التخلف، أولهما التخلف الاقتصادي، وثانيهما التخلف الاجتماعي. فبالنسبة لظاهرة التخلف الاقتصادي يمكن أن تحدد بصورة عامة في نقص الاستثمار بالنسبة لرؤوس الأموال والوسائل التقنية، أي عدم الاستخدام الكلي للمصادر الإنتاجية سواء كان منها المصادر البشرية أو المواد الأولية. أما الظاهرة الاجتماعية فيمكن أن توضح في النقاط التالية: (1) التخلف في العمل، وهذا لا يعني البطالة وإنما يعني وجود جيش من غير المنتجين (مثال ذلك فئات الشباب من سن معين). (2) عدم مشاركة المواطن في الإدارة وهذا يعني أن المواطنين الذين يستفيدون من الخدمات يتخذون مواقف سلبية بحيث لا يتحركون للدفاع عن أنفسهم ولا يظهرون غيرة على مصلحة العامة. (3) ظهور النقابات التي جاءت بقصد خدمة أعضائها لكنها انحرفت عن غاياتها الأساسية واتخذت صبغة سياسية بدلا من الصبغة الاجتماعية والاقتصادية. (4) أن المجتمع العربي حافظ على صفاته القديمة بحيث بقيت فئة قليلة فيه تستأثر بمعظم الثروات والنفوذ.
الصغير بن عمار:
إنني أرى من واجبي أن ألفت نظر الدكتور خضير إلى أن دور النقابة في العالم العربي يختلف عن الدور الذي تقوم به في الدول الرأسمالية. فدور النقابة، بصفة عامة، هو التعبئة العامة والتوعية السياسية من أجل رفع الإنتاج. وعلى هذا، فالنقابة في الدول الاشتراكية تطالب بالحقوق فقط لكن تطالب بالتعبئة العامة وتجنيد العمال لخوض المعارك الوطنية. وعلى سبيل المثال، أقول أن دور النقابة في عهد الإحتلال بالجزائر كان يتمثل في معاكسة النظام الاستعماري والقضاء على فكرة استغلال العامل، لكن في عهد الإستقلال أصبح دور النقابة هو تجنيد العمال وخلق التوعية السياسية. والخلاصة أن الأنظمة السياسية هي التي تحدد الأدوار التي تلعبها المنظمات.
عمار بوحوش:
بعد الإستماع إلى آرائكم القيمة حول مظاهر التخلف، لم يبق أمامي، أيها الزملاء الأفاضل، سوى إبداء بعض الملاحظات حول هذه العناصر. وفي رأيي الخاص، أن مظاهر التخلف في الوطن العربي تكمن فيما بلي : (1) أن أجهزة الخدمات العامة تكاد تكون منفصلة تماما عن زبائنها الذين هم أبناء الشعب بصفة عامة. وما دامت الجماهير العربية لا تملك وسائل ضغط على البيروقراطيين لكي تجبرهم على تصحيح أخطائهم، فلا يمكن تحسين وسائل العمل وخلق الفعالية في الأجهزة الإدارية. (2) أن معظم الأنظمة السياسية في الوطن العربي لا تفصل بين السياسة، التي هي مثار خلافات معقدة، وبين بقية مجالات العمل في الميادين الإقتصادية والاجتماعية والقانونية. فمن المؤسف أن نرى بعض البلدان العربية تستعين بالشركات الأجنبية التي تقوم بخلق وظائف عمل جديدة لإطاراتها الأجنبية ولا تستعين بالشركات العربية التي يمكنها توظيف عمال عرب. والسبب في كل هذا أن الخلافات السياسية تطغى على بقية قطاعات التعاون الأخرى. (3) أن التخلف في المجتمع العربي يكمن في قلة الاهتمام بالعلماء العرب الذين يكونون الركيزة الأساسية لسياسة الإعتماد على النفس والحد من نفوذ الخبراء الأجانب الذين تشغل بالهم الأجوانب المادية وليس تطوير الصناعات المحلية في الوطن العربي.
طارق الهاشمي:
لدى ملاحظة أريد أن أبديها بشأن دور النقابات في الدول النامية. فمن المعلوم أنه لا توجد صناعات ثقيلة في هذه الدول، وأن اقتصاد هذه الدول النامية زراعي، وعند ذاك لا توجد طبقة عاملة، وهذا ما يجعل دور النقابات في هذه المجتمعات ضعيفا و لا غير.
عمار بوحوش:
بعد التعرف على أعراض الأمراض التي تعرقل المجتمع العربي من اللحاق بركب التقدم ومضاهاة مجتمعات الدول الصناعية، دعنا نتحول إلى ميدان البحث عن الحلول و الأدوية الناجعة للتغلب على الصعاب التي عرقلت المسيرة العربية نحو الحياة الأفضل والتقدم الملموس في جميع الميادين. والسؤال المطروح هو : ماذا نفعل لكي نخرج من مرحلة التخلف إلى مرحلة التقدم؟ هل نقتدي بتجارب الأنظمة الغربية أو تجارب الأنظمة الشرقية أم ينبغي على العرب الإعتماد على أنفسهم بالدرجة الأولى؟
طارق الهاشمي:
حدثت في العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تغييرات عميقة لعل في مقدمتها: (1) تصفية الاستعمار القديم في كثير من أجزاء العالم النامي. إن الشمس التي كانت لا تغيب اشراقا على الاستعمار قد غابت. فلقد حدثت تحولات جذرية في البيئة الإجتماعية والسياسية. (2) ظهور المعسكر الاشتراكي كقوة ثانية بعد أن كان النظام الرأسمالي قوة تسود العالم. (3) هذا الظهور قد طرح تسابقا ومنافسة فيما بينهما. (4) ظهور العالم الثالث على مسرح السياسة الدولية وحرص شعوب هذا العالم على أن يسلكوا طريقا يبعدهم عن صراع الكتلتين، إلى جانب حرص أنظمة العالم النامي على اشباع رغبات شعوبها وطموحاتهم المشروعة في حياة سعيدة ورغيدة أفضل من تلك التي كانت تحت سلطان الاستعمار. هذه العوامل جعلت العالم الثالث يستشعر ما يلي : (أ) ضرورة إحداث تحولات جذرية في البنية الإجتماعية والإقتصادية وذلك عن طريق التنمية حتى يستطيع هذا الجزاء من العالم العمل على تلافي المشاكل الضخمة التي تركها التخلف الذي كان الاستعمار أبرز عامل فيه. (ب) إن رغبة العالم النامي في التغيير جعلته مترددا في أي طريق يسلك وصولا إلى مجتمع متقدم وخاصة أن هناك تجربة رأسمالية، وهناك تجربة اشتراكية طبقت في الإتحاد السوفياتي وفي العالم الشيوعي. وليست الحيرة وحدها في أخذ نموذج للتجربة بل إن المجتمعات حتى ولو ضمتها عناصر التشابه أحيانا، فإن عناصر الاختلاف تبعدها أحيانا. وكذلك ربما يكون الإعتماد على الذات طريقا أفضل وأمثل، إذ يجعل هذه الدول بعيدة عن التبعية وبعيدة عن التقليد، دون حسبان للظروف الإجتماعية والإقتصادية التي يمتاز بها كل مجتمع عن مجتمع آخر. إن هذه المجتمعات تحددها الرغبة العامة في تجديد كياناتها مع حرصها على أن لا تقع فريسة للتبعية، مطالبة بالاعتماد على قواها الذاتية مع الأخذ بما يتلاعم ويتواءم وظروف المجتمع وتراثه الحضاري. وبعد، فإن عوامل التنمية إنما تحددها ظروف كل مجتمع.
محمود خضير:
بالنظر لتوفر كافة الوسائل الضرورية لمعالجة مشكلة التخلف في الوطن العربي، فإن الإعتماد على الذات هو الحل الأفضل،في رأيي الشخصي. واستطيع أن أرجع معالجة هذا الموضوع إلى عنصر أساسي واحد وهو العنصر البشري سواء كان يتعلق بالسلطة أو بالمواطنين. وعلى هذا الأساس، فان الحلول العملية التي يمكن بها معالجة التخلف هي، على سبيل المثال وليس الحصر : (1)التخطيط الشامل والكامل في كافة المجالات (إنتاجية واستهلاكية). (2) القضاء على الأمية. (3) نشر الثقافة العامة والتوعية الشاملة وذلك بالقيام بحملات إعلامية واسعة. (4) تحسين الإعلام العربي وتطويره. (5) القضاء على الخلافات، من أي نوع كان في الوطن العربي.
الصغير بن عمار:
إنني اعتبر وسائل الإعلام من أهم عناصر التوعية والقضاء على التخلف. فوسائل الإعلام في الوطن العربي لم تقم بالدور المناط بها كجهاز، لأننا لو قمنا بتحليل مضمون مختلف البرامج الإذاعية والتلفزيونية والمقالات التي تنشرها المجلات العربية لتبين لنا، لسوء الحظ، أن المعلومات التي تخصص لمحاربة الآفات الإجتماعية ضيئلة جدا. وأبعد من ذلك، فلو أردنا تحليلها من الناحية الكيفية لوجدناها تأخذ عادة طرق الوعظ والإرشاد واستعمال الكلمات والمصطلحات التي لا يستوعبها جل المستمعين أو المتفرجين العرب، لأن الأغلبية، للأسف، أمية. وعندما نتكلم عن وسائل الإعلام، فعلينا أن نثير مشكلة هامة وهي حرية التعبير التي تكمن المثقف من النقد لا للنقد وإنما للبناء.
عمار بوحوش:
إنني أتفق مع الأستاذ طارق الهاشمي فيما قاله بشأن عوامل التنمية حيث أن هذه القضية تحددها ظروف كل مجتمع، لكن المشكل الأساسي يكمن في عدم وجود قواعد مشتركة للأعمال المنسقة بين المواطنين وحكوماتهم. وما أقصده بذلك هو أن الحكومات تعمل، على انفراد، ما تراه مناسبا، والبيروقراطيون يتصرفون حسب أهوائهم ووفقا للتعليمات الواردة إليهم. أما المواطنون فيعيشون في عزلة تامة عن مجرى الأحداث السياسية والإقتصادية والاجتماعية. وانطلاقا من هذه الحقيقة، فإن العلاج الأساسي للتخلف يكمن في إيجاد استراتيجيات مشتركة تساهم في ضبط خطوطها العريضة ونجتزها كل الأطراف الثلاثة. فمن الناحية العملية، لا يمكن إنجاز أي مشروع للتنمية بمعزل عن المواطنين الذين يعتبرون رأس مال كل دولة. ولهذا، فان المساهمة الأيجابية والتعاون المثمر بين المستفيدين وبين من يقومون بتقديم الخدمات، هما شرطان أساسيان لأي تقدم اقتصادي واجتماعي.
طارق الهاشمي:
يلاحظ في عمليات التنمية أن الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والفكرية، تتحكم كثيرا في قضايا التنمية. فلو أخذنا مجتمعا إفريقيا ومجتمعا هنديا، وكلاهما ينتمي إلى العالم الثالث، لوجدنا أن ظروف التنمية تختلف بين الإثنين. وعليه، فإن ظروف علاج التخلف إنما تخضع لأحكام الزمان والمكان.
عمار بوحوش:
نستخلص من كل ما تقدم أنه لا بد من حدوث تحولات إجتماعية، وأن محاربة التخلف قضية يتوقف النجاح فيها على مدى مقدرة الأنظمة السياسية العربية على تجنيد الطاقات البشرية والمادية للنهوض بالمجتمع العربي. فما هو، يا ترى، دور الأنظمة السياسية في هذا المضمار؟ ثم ما هي العلاقة التي يجب أن تقوم بين الحاكمين والمحكومين؟ هل للرأي العام قوة معتبرة في المجتمعات العربية؟.
طارق الهاشمي:
الأصل أن النظام السياسي – وكذلك الدستور- إنما يستجيب في الأساس لآمال الشعب لأنه يعكس حقيقة الظروف الإجتماعية والاقتصادية للبيئة التي فيها تكون ولادته. وهذا الامر يقودنا إلى حقيقة أخرى وهي أن كل نظام سياسي ينفرد بمزايا وخصائص تغاير صفات الأنظمة السياسية الأخرى. ومرد ذلك يعود، ومن غير أدنى شك، إلى طبيعة البلد وتراثه الحضاري وعوامل التاريخ والدين، إلى جانب الأبنية الإجتماعية والإقتصادية. وعليه، فلا إمكانية لتطبيق نظام نجح في بلد على آخر. لقد فشلت الديمقراطية الغربية عند تطبيقها في الدول النامية لأنها لم تكن نابعة من الأرض التي عليها فرضت. وعليه، فالأصل في النظام السياسي أن يكون كهندسة إجتماعية لتذويب الفوارق الإجتماعية ولإحلال التعاون والتضامن مكان التشاحن والتطاحن. وحين يكون النظام الإجتماعي مصنع خدمات فإنه يستطيع أن يضمن حاجات الناس وبالتالي يشدهم إليه شدا وثيقا ولصيقا. ولكن في المجتمعات النامية حيث أن الطبيعة الإجتماعية على ما هي عليه، فعند ذلك لا يمكن لشعب وهو غريق مشكلاته ومعضلاته القومية أن يكون سيد نفسه. إن الشعب الجائع والجاهل لا يستطيع أن يسهم بصورة فعالة في العمليات الكبرى للتحولات الإجتماعية. وعليه، وبالضرورة، فإن هذه التحولات لا تمس النظام الإجتماعي مسا جذريا بسبب تواجد الشقة والخلاف بين طموحات شعب يريد الحياة الحرة الكريمة وبين نظام يحرص على سلطته أولا. إن مشكلة السلطة والحرية إنما هي أعسر مشكلة تواجه علم السياسة في الوقت الحاضر. وبسبب هذه الناحية، نجد أن الرأي العام في الدول النامية ضعيف لأن المواطن الذي لا يجد قوت يومه لا يفكر في المشكلات السياسية.وبناء عليه، فلابد من تطبيق ما يسمى بديمقراطية البطون، فإنها سبيل إلى ترابط القاعدة بالقمة وعند ذاك يسهل أمر عملية التنمية.
محمود خضير:
أرى أن التحولات الإجتماعية لا تتعلق بنوع النظام السياسي بقدر ما تتعلق بالتحسس بحاجة وشعور المواطنين، وأن حاجة الأفراد في الوطن العربي هي التي تحدد الإجراءات وخطط التنمية التي تتخذها السلطات السياسية لمعالجة التخلف. ولهذا، ينبغي على كل نظام سياسي في البلاد العربية أن يتبنى عمليات التغيير في كافة المجالات السياسية منها والإدارية كأساس للتحولات الإجتماعية الأمر الذي يترتب عليه تقويض أو تقليل الهوة الموجودة بين الحاكمين والمحكومين.
الصغير بن عمار:
التحولات الإجتماعية، في أي مجتمع من المجتمعات، يقوم بها الفرد المعني بالقضية، وبالتالي، فالمواطن لا بد أن يشعر بأنه خلية في إطار مجموعة. ولكي يشعر بذلك فلا بد أن يجد المقابل لهذا الشعور.
وانطلاقا من هذه النقطة، نستطيع أن نقول بأن الخطوة الأولى والأساسية هي خلق مؤسسات تضمن حياة مجتمعية للمواطن، وبالتالي، تفرض عليه واجبات، أي أن كل تخطيط للتحولات الإجتماعية لا بد أن يكون مطابقا للواقع.
عمار بوحوش:
يبدو لي أن عمليات التحول وإدخال التغيرات على البنيات الإجتماعية في الوطن العربي، تخلق اضطرابات نفسية عميقة في نفوس المواطنين العرب. والسبب في ذلك هو عدم اتضاح الرؤية المستقبلة والخوف من عواقب الغموض الذي يسود كل مجتمع نام. ولكي يكون كلامي معبرا عن حقيقة الأزمات النفسية التي يعيشها أبناء الأمة العربية، يجدر بي أن أشير إلى أنه توجد فوارق شاسعة بين النظرية والتطبيق، أي عدم تطابق بين القرارات المتخذة وبين الممارسة الفعلية. القوى المسيطرة على عمليات التغيير والتجديد في معظم أقطار مجتمعنا العربي هي الفئات التي لها نفوذ كبير وتلعب دورا هاما في توجيه الأمور بروح تسلطية. فهي، بتواطؤ مع البيروقراطية، تعمل للحد من فعالية القانون الذي يجسم مصلحة الجميع وتتصرف كأنها قوة ضاغطة ومسيرة وليس كفئة إجتماعية جاءت لتكون خادمة لأبناء الشعب. فعمليات التحول، إذا، لا يمكن لها معنى الا إذا قبل المشرفون على عمليات التغيير الإجتماعي أن يكونوا خداما للمواطنين، ويعملون بإخلاص لتطبيق القوانين وجعلها أداة لتجسيم المصلحة العامة، لأنه كما قال جون لوك “عندما ينتهي القانون يبتدئ الطغيان”.
طارق الهاشمي:
هناك ملاحظات بصدد المجتمعات النامية. إن بعض الإنجازات تميل إلى الخصوصية وليست إلى العمومية، وهذا عامل يوسع في شقة الخلاف بين الحاكمين والمحكومين في حين أن واجب النظام السياسي أن يتوجه إلى الناس كافة فيما يقدم من انجازات وخدمات.
عمار بوحوش:
يعتبر هذا العصر عصر التكتلات والأحلاف الجهوية والدولية لربح المعارك السياسية والإقتصادية والعسكرية ونشر التكنولوجيا، فهل تقوية الروابط الثقافية والإقتصادية والسياسية والعسكرية بين الدول العربية تؤدي إلى قيام نهضة شاملة تساعد العرب على الخروج من مرحلة التخلف إلى مرحلة التقدم؟
طارق الهاشمي:
إن الوطن العربي محكوم بالوحدة اليوم أو غدا. ولست أريد بالوحدة هنا الأطر الشكلية وإنما أريد بها وحدة الهدف في التصدي لكل ما يتواجد من تحديات التخلف والفساد والاستعمار. إن الوحدة صمام الأمان الذي يقي الأمة العربية من الأخطار التي تحيق بها وهي كثيرة. وبقدر تعلق الأمر بموضوع التخلف، فإنه تشكل من ما لا شك فيه، أن الوحدة الإقتصادية وكذلك الثقافية، إنما تشكل اللبنة الأولى لصرح الوحدة وبالتالي عسكريا وسياسيا. إن بعثرة أموال التنمية هنا وهناك في أجزاء شتى من الأمة العربية لو أحسن التصرف فيها جماعيا لعادت بالخير الوفير والعميم على أبناء الشعب الواحد.
محمود خضير:
تعتبر الوحدة العربية من الوسائل الرئيسية للخروج من التخلف حيث تساهم إلى حد بعيد في تطبيق خطط التنمية الموضوعة من قبل السلطات السياسية في الدول العربية. في الظروف الراهنة إذا كانت هناك عوامل تعيق الوحدة الجذرية، فينبغي أن تكون هناك، على الأقل، وحدة في المجالات الإقتصادية والثقافية والعسكرية. ويمكن تحقيق ذلك بوضع خطط شاملة بين الدول العربية. وفي اعتقادي أن الخطوة الأولي تكون في مجال رفع الحواجز (الثقافية) بين الدول العربية، أي تسهيل المبادلات الثقافية والبرامج التعليمية بين المدارس والجامعات.
عمار بوحوش:
لقد جرت العادة، للأسف الشديد، أن نتطرق إلى النظريات، ونهمل الجوانب العملية. فالأستاذ خضير عندما يدعو، بتفاؤل، إلى القضاء على الحواجز الثقافية وتبادل الخبرات بين الأقطار العربية، قد نسي أن التعاون أن جوهر التعاون، في أي ميدان، يكمن في شعور كل طرف بأنه في حاجة ماسة إلى الطرف الثاني. وبما أن أهداف الدول العربية غير موحدة وارتباطاتها مع الدول الأجنبية متنوعة ومعقدة، فإنه لمن البديهي أن يقع ارتباك في صفوف الدول العربية وتضمحل المجهودات التي تبذل لتعزيز الروابط الثقافية والإقتصادية والعسكرية. وفي اعتقادي أن طغيان الثقافات الأجنبية على الثقافية العربية في داخل الوطن، وضعفنا نحن العرب، في ميدان التكنولوجيا، وانعدام التعاون والعمل الجماعي بين الخبراء العرب في كل ميدان، بالإضافة إلى عوامل أخرى،كل هذه الأشياء عرقلت مجهودات الدول العربية لتحقيق نهضة عملية واقتصادية شاملة في الوطن العربي.
الصغير بن عمار:
أجل، إن الوحدة العربية هي الوسيلة الفعالة للقضاء على التخلف. إن النظرة الإقتصادية تبين لنا بأن التكامل الإقتصادي بين أطراف الوطن العربي يعتبر حلا سلميا وناجعا. وهذا، طبعا، بالإضافة إلى العوامل الأخرى كالتاريخ واللغة والدين التي هي عوامل تعزيز لهذه الوحدة.
عمار بوحوش:
اعتقد أننا قد ناقشنا الموضوع بما فيه الكفاية حيث ألقينا نظرة شاملة على مشكلة التخلف في الوطن العربي، وأبرزنا الجوانب الإيجابية والسلبية في عمليات التنمية بالوطن العبي. وأملي كبير هو أن يتفطن العرب، قبل فوات الأوان، إلى أن قضية التخلف هي قضية مصيرية.
* – دراسة منشورة بمجلة العلوم الاجتماعية (بجامعة الكويت) العدد 62، السنة الثانية (يوليو) 1978، ص 85 – 98.
** – أستاذ بمعهد العلوم السياسية والإعلامية في جامعة الجزائر.