مفهوم الوظيفـة العامــة
مقدمــــة
عندما يتحدث الإنسان عن توصيف الوظائف وتقييمها لابد أن لا ينسى الشيء الأساسي في وصف الوظائف العامة وهو المفهوم العام للوظيفة في النظام السياسي الموجود. فالوظيفة (1) في النظام الفرنسي، مثلا، هي رسالة وخدمة، والموظفون هم الذين يقومون بتقديم الخدمات إلى الشعب بإسم الدولة التي لا يقتصر دورها على القيام بدور الحكم بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، وإنما يتمثل دورها في تحقيق النفع العام عن طريق سن القوانين التي تحقق رغبات الأفراد والجماعات. وانطلاقا من هذه الحقيقة، فإن الدولة تحظى بالإحترام والتقدير، وتنفرد بالسلطة واتخاذ القرارات التي تجسم الإرادة العامة. وهذا معناه أن ” الموظفين العموميين هم عمال الدولة وأدواتها في تسيير مرافقها، وهم بذلك جزء لا يتجزأ من بنيانها الإداري ويتماثلون مع السلطة العامة ليكونوا معها وحدة غير قابلة للإنفصام “. (2)
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن الوظيفة عبارة عن مجرد مهنة يقوم بها أي موظف تختاره الحكومة للقيام بهذه المهمة. ولهذا، فالوظيفة، في النظام الأمريكي شيء مفصول عن الموظف أو المواطن العادي الذي يقوم بها. وفي جميع الحالات
لا يمكن اعتبار عمال الدولة، هم الدولة نفسها، لأن انفراد الموظفين بالسلطة والضمانات القانونية يتضارب مع سيادة الشعب وخضوع البيروقراطيين لنفس القوانين التي يخضع لها كافة أبناء الشعب. وبناء على هذا المفهوم للوظيفة العامة في المجتمع الأمريكي نلاحظ بأنه لا يعترف للموظفين العامين الأمريكيين ” بحقوق معينة ولا ينفردون بميزات لا يرتبها القانون لغيرهم من موظفي الشركات أو غيرها من فروع القطاع الخاص أو لباقي أفراد المجتمع “. (1)
المفهوم الشخصي للوظيفة في النظام الأوروبي
يعتبر الموظف في النظام الأوروبي هو الشخص الذي يعمل للدولة أو إحدى المصالح الحكومية. وهذا معناه أن الموظف غير مرتبط بوظيفة معينة ومحددة مقدما وإنما هو مرتبط بالخدمة في سلك معين. فالجهة التي يلتحق بها الموظف هي التي تقرر إسناد وظيفة معينة إليه وذلك حسب احتياجات المؤسسة الحكومية والميول العامة للموظف ومؤهلاته العلمية.
وفي العادة يطلق اسم ” المفهوم الشخصي للوظائف ” على هذا النوع من أنظمة الوظائف العامة لأن التركيز على شاغل الوظيفة، سواء من ناحية مؤهلاته العلمية وموقعه في المؤسسة الحكومية، أو حقوقه ورتبته الشخصية (بخلاف الترتيب الموضوعي للوظائف الذي يرتكز فيه كل شيء على الوظيفة نفسها وليس الموظف). وبصفة إجمالية فإن النظام الأوروبي يتميز بما يلي :
1. أن الوظيفة تعتبر مهنة دائمة. فالقانون يضمن للموظف حقوقه ويحميه من القرارات التعسفية التي قد تتخذ ضده بطريقة غير شرعية. وزوال الوظيفة
لا يعني زوال مهنته. والمطلوب في هذه الحالة نقله إلى وظيفة أخرى وليس طرده أو التخلص منه.
2. أن الوظيفة تضمن لشاغلها الإستقرار والترسيم في المنصب. ونقصد بذلك أن العلاقة بين الموظف والدولة ليست تعاقدية وإنما تنظيمية. فالموظف محصن في موقعه عندما يتم ترسيمه، ولا يوجد أي عقد بينه وبين مؤسسته يجبره على إنهاء عقده في أي وقت تشاء تلك المؤسسة.
3. أن الترقية في الوظيفة لا تعني شغل وظيفة جديدة أعلى من الوظيفة التي يشتغلها الموظف. فقد يحصل الموظف على ترقية وينتقل في السلم الإداري من درجة إلى أخرى أعلى منها، لكنه قد يبقى يقوم بنفس الواجبات والمسؤوليات التي أسندت إليه قبل الترقية.
4. أن التوظيف لا يتم، بالضرورة، بناء على استيفاء شروط الوظيفة وتطابق المؤهلات العلمية مع الوظيفة المترشح لشغلها أي موظف، بل يمكن توفير التدريب واكتساب التخصص المطلوب بعد الإلتحاق بالوظيفة.
5. أن الموظف ملزم، في جميع الحالات، بأن يمر بمرحلة انتقالية يوضع فيها تحت التجربة وذلك للتعرف على مدى انسجامه في العمل مع زملائه وصلاحيته للعمل بالمؤسسة الحكومية التي ينوي أن يلتحق بها.
6. أن الراتب الذي يتقاضاه الموظف والمزايا المصاحبة له من علاوات والتي يحددها القانون لا يعتبر كمقابل للإلتزامات التي يقوم بها الموظف، ولكنها كمنح للموظف لكي يتوفر له وضعا ماديا ومعنويا مناسبا للوظيفة التي
يضطلع بها. (1)
7. أن الموظف يعين بإحدى المجموعات الوظيفية التي يقع في إطارها اختصاصه العام. وفي العادة، يبتدئ العمل كمتمرن ثم يترقى إلى أول درجة بعد ترسيمه. والمجموعات الوظيفية تعتبر في الحقيقة، عبارة عن مراتب للوظائف التي تعتمد كوحدات مالية لدفع رواتب جميع الموظفين في مختلف المجموعات الوظيفيــة. (2)
8. إن الموظف العام يتعهد كتابيا منذ تعيينه بقبوله كافة قواعد ونظم الوظيفة العامة.
وبإختصار، فإن النظام الأوروبي للوظيفة العامة يتميز بالبساطة والوضوح. فلا توجد أية مبالغة في تحديد الوظيفة والأشياء الثانوية الملحقة بها، الشيء الذي يجعلها معقدة وجامدة. فالموظفون يوزعون على المجموعات الوظيفية حسب شهاداتهم العلمية واختصاصاتهم وفي إمكان المؤسسة الإدارية أن تسند أي منصب إلى الموظف الذي يلتحق بها، وعدم تحديد الوظيفة واختلاف الأعمال التي يقوم بها الموظف، يعتبر مفيدا للمؤسسة لأنه يتميز بالمرونة وإعطاء فرص للمسؤولين في القمة أن يتصرفوا ويخففوا من الضغوط التي تفرض على مصالح خدمات ادارية وذلك بتحويل الفائض من الموظفين إلى الإدارات التي تعاني من ضغوط العمل بها.
كما أن نظام الوظيفة العامة الأوروبي يعتبر جيدا من ناحية فصل الدرجة عن الوظيفة. فقيام الموظف بنفس الواجبات يسمح له بالترقية من درجة إلى أخرى أعلى منها وذلك بعد سنوات محددة من الخدمة. كما يحتفظ الموظف الأوروبي بدرجته حتى ولو ألغي المنصب الذي كان يشغله. أما في النظام الأنجلوساكسوني، فالدرجة مرتبطة بالوظيفة، والترقية تعني تغيير الوظيفة والإرتقاء إلى وظيفة أعلى من الأولى.
إلا أن النظام الأوروبي في الواقع يعاني من بعض النقائص التي أنهكت قواه. والمشكل الأول الذي يجابه هذا النظام أن حصر الموظفين وترتيبهم وفق مؤهلاتهم العلمية في مجموعات من الدرجات، بدلا من حصر الوظائف وتقييمها على أساس ما تتضمنه من واجبات ومسؤوليات، لا يقوم على أي أساس موضوعي (1). وانطلاقا من هذا المفهوم، فإن هذا النظام الأوروبي يعطي الأهمية للفئات الموجودة بدرجات معينة، ويهمل مستوى الوظيفة ونوع صعوبة العمل وأهميته في المؤسسة. وهو بهذا يخفق
“في تحقيق قاعدة الأجر على قدر العمل وتساوي الأجور إذا تساوت الأعمال في أعبائها ومسؤولياتها ومستواها “. (2)
وهناك نقطة أخرى تجدر الإشارة إليها هنا وهي أن نظام الوظيفة الأوروبي يقوم أساسا على تسعير الشهادات، فمن حصل على شهادة من جامعة مرموقة ومن بلد معين يستطيع أن يحصل على منصب راقي وبكل سهولة. ومن تخرج من جامعة عادية ومن بلد صغير، يلاقي كل أنواع الصعوبات للحصول على وظيفة ملائمة لكفاءته وقدرته الحقيقية. ونتيجة لهذا التمايز والإختلاف بين مستوى الجامعات والشهادات، في العادة يحصل صراع بين المترشحين للوظائف وذلك لأسباب لا علاقة لها بالوظيفة، ومقتضياتها. ” وفي ضوء هذا الوضع الخاطئ يمكن أن يعطي أي موظف حاصل على مؤهل دراسي معين أجرا معينا بصرف النظر عن العمل الذي يؤديه وعن المسؤوليات التي يمارسها، وبصرف النظر أيضا عن مدى حاجة الوظيفة إلى المؤهل الدراسي الذي يحمله المترشح “. (1)
المفهوم الموضوعي للوظيفة في النظام الأمريكي
في هذا النظام تعتبر الوظيفة عملا تخصصيا وتتميز بتفاصيل دقيقة بحيث
لا يستطيع أن يقوم بأداء الواجبات والمسؤوليات المحددة فيها إلا الشخص الذي عنده دراية أو خبرة كبيرة بفنيات هذه الوظيفة. فالتركيز على الوظيفة بإعتبارها مجموعة محددة من الواجبات والمسؤوليات وذلك بصرف النظر عن من يشغلها وما يحمله من مؤهلات دراسية أو أقدميته في الخدمة وغير ذلك من الظروف الشخصية (2). ولهذا، أطلق على الوظيفة في النظام الأمريكي اسم ” الوظيفة الموضوعية ” لأنها تقوم على أساس التحليل الموضوعي لمحتوياتها وخصائصها ومكوناتها ومدى الصعوبات التي تتضمنها، وكذلك مستوى التعليم والخبرة والدراية والقدرات وغير ذلك من المؤهلات اللازمة لشغل الوظيفة. وكنتيجة حتمية لترتيب الوظائف ترتيبا موضوعيا وتحديد أهمية كل وظيفة ومستواها من الصعوبة والمسؤولية ومقارنتها بمثيلاتها من نفس المستوى، يتقاضى الموظف الأجر الذي يتناسب مع مسؤوليات الوظيفة والواجبات المطلوب منه القيام بها. (1)
وهكذا نستخلص بأن فلسفة التوظيف بالولايات المتحدة الأمريكية تقوم على عدة خصائص يمكن تلخيص معظمها فيما يلي :
1) أن الأجر يمنح على قدر العمل.
2) أن الموظف يتم اختياره لأي منصب على أساس صلاحيته للوظيفة ومقدرته على أداء المسؤوليات والواجبات المحددة.
3) أن الوظيفة مرتبطة بمبدأ الجدارة والكفاءة في العمل، أي أن الموظف
لا يحصل على ترقية لأية وظيفة إلا إذا توفرت فيه شروط شغل الوظيفة التي يرشح نفسه إليها.
4) أن الترقية، في هذا النظام، تأخذ صيغة تعيين في وظيفة أعلى وبشروط أفضل. ولهذا فقضاء نسبة معينة من السنوات في الخدمة لا يعني بالضرورة الصعود إلى رتبة أعلى. فالترقية إذا مرتبطة بالجدارة والكفاءة في العمل وليس بأية مدة زمنية.
5) أن الوظيفة مرتبطة بالدرجة، أي أن نوع العمل ومستوى صعوبة الواجبات وطبيعة الوظيفة هي التي تؤخذ بعين الإعتبار عند تحديد الراتب الذي يكون للوظيفة ومستواها وليس للشخص.
6) أن ” الوظيفة ليست رسالة لها صفة الدوام والإستمرار وإنما مهنة عارضة مثل سائر المهن”، ولهذا لا توجد نظم وقواعد تحكم السن والمؤهل والخبرة.
7) أن الوظيفة العامة نظام يقوم على أسس قانونية وقواعد تنظيمية وشرعية. وبناء عليه، فالموظف لا يخضع لرئيسه بالدرجة الأولى وإنما يخضع للقانون. فالموظف لا يتميز عن أي إنسان آخر بحقوق خاصة، وأن احترام المواطن العادي يكون للوظيفة وليس للموظف الفرد. (1)
وبإختصار، فإن الأمريكيين يتخوفون كثيرا من الموظفين المحترفين الذين يتخذون من الوظيفة مهنة يرتبون عليها معاشهم مدى الحياة، ويكونون بمنأى عن التيارات السياسية. فالبيروقراطيون لا ينتخبهم الشعب، وعليهم أن يخضعوا للرئيس المنتخب من طرف الشعب ولأعضاء الكونجرس الذين يمثلون الإرادة الشعبية. (2)
كما أن النظام الموضوعي للوظيفة يتميز بالمساواة بين الموظفين حيث أن الأجور تتساوى مع الواجبات والمسؤوليات الحقيقية التي يقوم بها كل موظف. ففي هذا النظام لا يمكن إعطاء أسماء وهمية لوظائف بقصد رفع درجة وراتب الوظيفة، لأن الدرجة تعطي للوظيفة وليس للشخص الذي يحتلها. ونفس الشيء، يمكن أن يقال عن الترقية في هذا النظام. فالتقييم يكون على أساس العمل الحقيقي الذي يقوم به الموظف. فإذا نجح الموظف في القيام بواجباته والمسؤوليات التي مارسها، فإنه يستحق أن ينتقل إلى وظيفة أخرى أعلى من الأولى التي كان يشغلها.
وبالرغم من هذه المزايا العديدة، فإن النظام الأمريكي قد اشتهر بعدة عيوب، يمكن تلخيص معظمها فيما يلي :
1. هناك مغالاة في التفاصيل والأوصاف الدقيقة لكل وظيفة بحيث يترتب عن ذلك تعقيدات لا داعي لها.
2. كما أن التخصص ضيق جدا إلى درجة أن ذلك اقتضى إنشاء معاهد متخصصة في ميادين معينة لسد حاجات المؤسسات.
3. لابد من صرف وقت وجهد وأموال كبيرة لحصر مهام كل وظيفة، وهذا شيء ليس بمستطاع كل دولة.
4. أن تحديد مهام كل موظف، يقود في العادة إلى نقص المرونة في العمل
أو صعوبة انجاز مهام أخرى، كان بالإمكان تدريب الموظف عليها وتكليفه بمهامها.
5. من السهل تحديد المسؤوليات والواجبات بالنسبة للوظائف الفنية، لكنه من الصعب وضع كشف شامل للمسؤوليات الإدارية المتداخلة مع بعضها البعض.
6. إن نسبة المتخصصين جدا في وظائف دقيقة، قليلة، وهذا يعني تفاقم حدة البطالة بسبب الشروط المجحفة لشغل الوظائف التخصصية.
7. إن هذا النظام مفيد فقط للبلدان المصنعة والمتقدمة تكنولوجيا والتي توجد بها معاهد على مستوى رفيع جدا من التخصص والتنسيق بين مؤسسات التوظيف ومراكز إعداد الإطارات الكفأة للوظائف التخصصية.
(*) دراسة منشورة بمجلة الإداري، معهد الإدارة العامة بسلطنة عمان، العدد الأول، يناير، 1982، ص 29-38.
(**) كبير الخبراء بالمنظمة العربية للعلوم الإدارية، عمان، الأردن
(1) ينبغي التأكيد هنا بأن الوظيفة تعني، في النظام الفرنسي عملا أو شغلا، أي Emploi بينما تعني في النظام الأمريكي Position أي عمل محدد ودقيق.
(2) د. عبد الحميد كمال حشيش، دراسات في الوظيفة العامة في النظام الفرنسي، القاهرة، دار النهضة العربية، 1977، ص 99.
(1) د. زكي محمود هاشم، ترتيب الوظائف في الجهاز الحكومي. القاهرة: المنظمة العربية للعلوم الإدارية، 1970، ص 71.
(1) د. عبد الحميد كمال حشيش، دراسات في الوظيفة العامة : في النظام الفرنسي. القاهرة: دار النهضة العربية، 1977، ص 60.
(2) د. زكي محمود هاشم، توصيف وتقييم الوظائف. الكويت: مؤسسة الصباح، 1979، ص 140-209.
(1) نفس المصدر المشار إليه آنفا، ص 207.
(2) نفس المصدر، ص 208.
(1) د. نادر أبو شيخة، ” ترتيب الوظائف العامة “، في دراسة قدمت للقاء العلمي حول تطوير مهارات اختصاصي تصنيف الوظائف الذي عقد بطرابلس-ليبيا من 1/11 – 20/11/1980 تحت اشراف المنظمة العربية للعلوم الإدارية.
(2) د. محمد أنيس قاسم جعفر، نظم الترقية في الوظيفة العامة. القاهرة: دار النهضة العربية، 1973، ص 32.
(1) د. زكي محمود هاشم، ترتيب الوظائف في الجهاز الحكومي. القاهرة: المنظمة العربية للعلوم الإدارية، 1970، ص 92.
(1) د. عبد الحميد كمال حشيش، دراسات في الوظيفة العامة في النظام الفرنسي. القاهرة: دار النهضة العربية، 1977، ص 15-16.
(2) المصدر السابق، ص 14.