مقدمة كتاب: الأقليات القومية والإثنية في العالم بين التوظيف والاضطهاد،
عندما وصلني مخطوط الأقليات القومية والإثنية في العالم بين التوظيف والاضطهاد، واطلعت على عناوين الأبحاث الموجودة به، لاحظت أن أغلب الباحثين انساقوا وراء العنوان الرئيسي لمشروع الكتاب وركزوا على مشاكل الأقليات القومية والإثنية في العالم ولم يتفطنوا إلى جوهر الموضوع وهو أن معظم الأقليات تتعرض للاضطهاد الديني أو الأيديولوجي وتزايد السكان المسلمين بشكل مخيف، سواء في داخل البلدان العربية والإسلامية أو البلدان غير الإسلامية والتي توجد بها أقليات إسلامية. إن الإحصائيات التي نشرها مركز ” بيو ” الأمريكي لأبحاث التغيرات الديمغرافية تشير إلى أن معدلات الخصوبة من بين الأسباب التي قد تفسر تخوف الدول الأوروبية والأمريكية من التزايد الهائل في عدد المسلمين حيث أن المسلمين يمتلكون أعلى معدل خصوبة في العالم، بواقع 3.1 طفل لكل امرأة، مقارنة بـ 2.7 طفل لكل امرأة مسيحية. كما أن عدد السكان المسلمين سينمو بنسبة 73% بين أعوام 2010 و2050 في حين سيكون النمو عند المسيحيين بنسبة 35% فقط، حسب صحيفة التلغراف البريطانية.
إن كل محلل سياسي يدرك في وقتنا الحاضر، أن العالم الإسلامي مقسم إلى قسمين متصارعين هما السنة والشيعة، وكل فريق تقف خلفه قوات أجنبية وتعينه على مواجهة خصمه. فالأتراك ودول الخليج العربي يجاهرون بانتمائهم إلى المعسكر السني، وإيران والحوثيين في اليمن وحزب الله يتصدون لهم ويعلنون وقوفهم ضد السنة الذين تدعمهم الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وإسرائيل.
إنه لمن الواضح، أن أغلب الأقليات والأحزاب الإسلامية، تعاني من الاضطهاد والتعسف سواء في بلدها الأصلي أو الخارج، بسبب تمسكها بالجوانب الروحية للإسلام ومعارضة الحكومات القومية والاستعانة بالدول الخارجية لمحاربة خصومها في الداخل. وعليه، فإن الالتجاء إلى العنف لفرض الشريعة الإسلامية وإقامة عدالة عمر بن الخطاب بالقوة في القرن الواحد والعشرين، هي استراتيجية ذات عواقب وخيمة على المجتمعات المحلية أو الدولية. إن التطرف في الإسلام وخلق مواجهات غير متكافئة مع الأحزاب القومية الحاكمة في الوطن العربي والدول الأوروبية، قد نتج عنه إراقة دماء المواطنين الأبرياء سواء في الجزائر (1962 – 2000) أو في سوريا ومصر، وليبيا وتونس. وبكلمة وجيزة، إن ابتعاد الحكام عن مبادئ التشريع الإسلامي، والاعتماد على القوانين الوضعية، وتوظيف القوات الأمنية لفرض سياسات القمع والتعذيب وحرمان الناس من التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم لا تبرر التجاء الجماعات الإسلامية إلى القتال ومحاولة القضاء على الآخر.
مشكل الأقليات في وقتنا الحالي، يكمن في النزعة الانفصالية وتهديد أمن الدولة، وخاصة إذا كانت الأقلية قوية وتمتلك موارد اقتصادية داخل البلاد، وهذه حالة الأكراد في تركيا وسوريا والعراق وحالة الحوثيين في اليمن وحالة الصومال وحالة لبنان. إن الأقليات في هذه البلدان تهدف إلى فرض نفسها والاستيلاء على السلطة والإطاحة بالحكام المعادين لها. فهي تشكل خطرا على الأمن الوطني وتدهور الأوضاع الاجتماعية. إن الحل الواقعي لهذه الصراعات الاثنية والعرقية هو التسامح وقبول الآخر وتبني التعددية السياسية والثقافية واللغوية، وإذا لم يتم التعقل والتأني في معالجة التوترات الداخلية بحكمة فإن البديل هو الحل السوداني الذي انتهى بتقسيم البلاد إلى دولتين في الشمال والجنوب وهو مآل لا يخدم مصلحة أية أقلية انفصالية.
إن الحقائق الواردة في هذا الكتاب تكشف عن معاناة الأقليات الاثنية في البلدان الأجنبية والعربية. ولعل أكبر إثنية تعرضت للانقراض وفقدان تواجدها في الوقت الحاضر هي الهنود الأمريكيين الذين دخلوا في حرب دامية مع الغزاة الأوروبيين وخسروا المعركة. فإذا كان عددهم يزيد عن 18 مليون نسمة عند الغزو الأوروبي، فإن عددهم تقلص الآن إلى 4,1 مليون نسمة، وهم يشكلون في الوقت الحاضر نسبة من المجتمع الأمريكي لا تزيد عن 1,5%. لقد تغير اسمهم الآن وأصبحوا يلقبون بـ ” الأمريكيين الأصليين Native Americans ” وهم ينقسمون إلى 556 قبيلة معترف بها فدراليا، ويعيش نصفهم في محميات مستقلة، وما يزيد عن 80% منهم بدون شغل. ورأفة بالأقلية التي لا زال أفرادها على قيد الحياة، فقد قرر الكونغرس الأمريكي سنة 1924 منح الجنسية الأمريكية إلى جميع السكان الأصليين الذين يتواجدون بداخل الولايات المتحدة الأمريكية.
وبدون نقاش، فإن الجالية التي يتم اضطهاد أفرادها بقوة هي الأقلية الإسلامية في الصين والتي يطلق عليها اسم ” الأيقور “. وحسب الإحصاءات الرسمية، فإن عدد الجالية الإسلامية بالصين يبلغ 24 مليون نسمة، 45% منهم يقيمون في إقليم شينغ يانغ الذي وقع تحت سيطرة الصين الشعبية في عام 1949 والحكومة الصينية تعتبر هذه الأقلية الإسلامية من مواطنيها التي تشكل 1,8% من أبناء الشعب الصيني، بمثابة أقلية متشددة وانفصالية، وتهدف إلى إثارة الفوضى في إقليم شينغ يانغ. وحسب مفوضية حقوق الإنسان عام 2018 فإن السلطات الصينية ألقت القبض على كل من له أقارب في 26 دولة حول العالم، وعلى كل من اتصل بشخص في الخارج عبر تطبيق واتساب. ونظرا للعلاقات الطيبة التي تربط الدول العربية والإسلامية بالصين الشعبية، فإن جميع الدول العربية والإسلامية، ساكتة على هذا الاضطهاد والعنف المسلط على أبناء الأقلية الإسلامية بالصين الشعبية. إن السلطة الصينية متشددة وتقوم بفصل الأبناء عن أسرهم بعد وضع الآباء والأمهات في المعسكرات التي تزيد عن 380 معسكر. كما أن الحكومة الصينية تقوم بوضع الأطفال في مدارس داخلية. إن هذه المدارس، بالنسبة للصين الشعبية تمثل البيئة المثالية لمحو الثقافة الانفصالية في المجتمع الأصلي.
وفي الهند، نلاحظ أن الأقلية الإسلامية في هذا البلد تعيش محنة لا مثيل لها. فمنذ اليوم الذي نجح في الانتخابات التشريعية التي جرت في سنة 2014، حزب بهاراتيا جاناتا (حزب الشعب الهندي)، قام زعيمه الهندوسي المتطرف نارندا مودي، باضطهاد المسلمين في الهند وكأنهم اقلية انفصالية في بلده. فبالإضافة إلى قيام ميليشيات من حزبه بتهديم المساجد وبناء المعابد، قام بسن قانون مثير للجدل يقضي بتشريع إجراءات الحصول على الجنسية الهندية للجميع باستثناء المسلمين الذين يطلبون اللجوء السياسي. وباختصار، فإن رئيس وزراء الهند، مصمم على انصهار الأقلية الإسلامية في المجتمع الهندوسي وإبراز القومية الهندية في المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية. وتبرز هذه الخطة في هدم مسجد البايري في ديسمبر 1992 وبناء معبد هندي في محله، حيث وقعت اشتباكات بين المسلمين والهنود ومات فيها ما يزيد عن 100 مسلم. وفي شهر أوت عام 2020 قررت الحكومة الهندية تجريد ولاية كشمير من الحكم الذاتي وقامت الحكومة باعتقالات جماعية، وألغت الوضع الخاص لجامو وكشمير. إن سياسة طمس الشخصية الإسلامية في الهند التي يبلغ عدد سكانها 1,3 مليار نسمة، منهم 170 مليون مسلم، ستنجر عنها عواقب وخيمة إذا لم يتم إيجاد حلول سلمية والتعايش بين الأغلبية الهندية والأقلية الإسلامية التي تشكل 14% من سكان الهند.
ولعل أكبر أقلية إسلامية تتعرض للاضطهاد والإبادة العنصرية هي أقلية الروهينقا التي تقطن بإقليم أراكان المتاخم للحدود البنغلاديشية. إن الروهينقيين يشكلون 15% من سكان نيانمار الذين يبلغ عددهم 56 مليون نسمة. وحسب الإحصائيات الرسمية فإن أقلية الروهينقا تشكل 70% من سكان إقليم أراكان. وفي الحقيقة، أن أقلية الروهينقا، أقلية فقيرة جدا، ولا توجد دولة تقبل أن تأوي هذه الجماعة، لأنهم شكلوا فرقا مسلحة وقاموا باعتداءات على الجيش البورمي. ونستطيع أن نقول بأن هناك حرب قائمة بين الجيش البورمي وجيش الروهينقا. إن دولة نيانمار قد دخلت في حرب مع الأقلية الروهينقية في عام 1974 حين قررت الدولة تجريد الروهينقيين من هويتهم وتصنيفهم بأنهم ” أجانب “. وفي عام 1982 صدر قانون المواطنة الذي حرمهم من الحق بالعيش في الدولة البورمية ما لم يكن لديهم دليل دامغ يظهر أن أجدادهم عاشوا في هذا البلد قبل الاستقلال. وترتب عن هذا القانون حرمان مسلمي الروهينقا من تملك العقار وممارسة أعمال التجارة وتقلد الوظائف بالجيش والهيئات الحكومية وعدم التصويت في الانتخابات البرلمانية. وكما هو معروف، فقد فر 750 ألف من الروهينقا في عام 2017 إلى بنغلاديش بعد أن قام الجيش بإحراق منازلهم وملاحقتهم في جميع أنحاء البلاد.
وفي يوغسلافيا سابقا، تعرض المسلمون إلى اضطهاد تعسفي لا مثيل له في تاريخ البشرية حيث تعرضت الجالية الإسلامية في البوسنة والهرسك إلى حملة تطهير عرقي وتدمير 60% من مساكن المسلمين و33% من المستشفيات و50% من المدارس. وفي عام 1995 قام الجيش الصربي بقتل ما يزيد عن 8 آلاف مسلم. وقد نفذت عملية الذبح وحدات من جيش الصرب تحت قيادة رانكو ميلاديتش في مدينة سربرنيتشا. وباختصار، فإن حرب البوسنة والهرسك قد خلفت ما لا يقل عن 200 ألف قتيل وأكثر من 200 ألف جريح. وفي شهر جويلية من عام 2008 تم إلقاء القبض على كراديتش وتقديمه للمحاكمة على جرائمه في البوسنة والهرسك، وحكمت عليه المحكمة الجنائية الدولية بالسجن 40 سنة جزاء له على الجرائم التي ارتكبها ضد الإنسانية والقتل الجماعي. وفي الأخير، تمكنت الأقلية المسلمة في يوغوسلافيا سابقا، من إقامة دولة البوسنة والهرسك وهي تنعم بالاستقلال التام في عصرنا هذا.
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن هناك أقلية مسلمة تعرضت للاضطهاد والتعذيب في دولة إفريقيا الوسطى حيث تعرض ما يزيد عن 1.8 مليون مسلم إلى اضطهاد ومواجهات مسلحة ضد ميليشيا مسلحة مسيحية في بانغي عاصمة دولة إفريقيا الوسطى، ومع أن عدد أفراد الجالية الإسلامية هناك لا يتجاوز 15%، فإن عدم الاستقرار السياسي قد سمح للميليشيات المسيحية أن تطيح برئيس الدولة فرانسوا بوزيري في مارس 2013، وتفرض سلطتها في داخل الدولة.
ولعل القرار الصائب الذي تنوي أن تتخذه حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بشأن تعويض الأقلية الزنجية عن ” الظلم والقسوة والوحشية اللاإنسانية التي شكلت العبودية “، وكذلك اللامساواة التي لا تزال الأقلية السوداء تعاني منها، يبشر بصحوة الضمير وإنصاف الأقلية الزنجية التي عانت من ظلم الأغلبية الساحقة في المجتمع الأمريكي. لقد وافقت لجنة الشؤون القضائية في مجلس النواب الأمريكي في أفريل 2021 بأغلبية 25 صوتا مقابل 17 على مشروع قانون يتعلق بتقديم تعويضات مالية لتصحيح جرائم العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تعهد جو بايدن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بدعم هذا المشروع إذا تمت الموافقة عليه من طرف الكونغرس الأمريكي في الأيام القادمة. إن المشروع ينص على دفع الحكومة الفدرالية تعويضات لأحفاد حوالي 4 ملايين زنجي أمريكي تم جلبهم قسرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1619 و1865، تاريخ إلغاء العبودية.
وفي سياق الحديث عن الأقليات المضطهدة، ينبغي أن نسجل هنا اضطهاد فرنسا للجزائريين ونفيهم إلى كاليدونيا الجديدة وكايان. لقد التجأت فرنسا في أعقاب الثورات ضدها في الجزائر وخاصة بعد ثورة المقراني في سنة 1871، إلى ترحيل ما يزيد عن 2166 مقاوم جزائري عن طريق 42 رحلة بحرية إلى مستعمرتها في كاليدونيا الجديدة التي استعمرتها سنة 1853، والآن يزيد عددهم عن 20 ألف نسمة، مقارنة بعدد السكان الذين يبلغ عددهم 250 ألف نسمة. لقد قامت فرنسا بنفي المقاومين الجزائريين إلى كاليدونيا الجديدة التي عاصمتها نوميا، بقصد إبعادهم عن وطنهم حتى لا يقوموا بثورات أخرى في وطنهم أو يلاقون حتفهم في جنوب المحيط الهادي.
الخلاصة، أن هناك بعض الحالات التي نجد فيها الشعب هو الذي يقوم باضطهاد الأقليات وليس الحكومات فقط. فقد رأينا أن الشعب اليهودي يصوت بالأغلبية الساحقة لليمين المتطرف في إسرائيل لكي يتم اختلاس الأراضي الفلسطينية وتوزيع أراضي الفلسطينيين على المستوطنين الدخلاء. كما أن الدول المتقدمة تسرق الكفاءات من الدول النامية وتغريها بالهجرة إليها للاستفادة من الكفاءات والخبراء البارعين، وفي نهاية الأمر، يتحول أولئك العلماء والمفكرين إلى موارد بشرية منتجة في الدول المتقدمة، وفي أغلب الأحيان تتحول هذه الفئة من العلماء والمفكرين إلى أقلية أو جالية مقيمة في الخارج.
لقد تعلمت من صديقي الأستاذ الدكتور كروفرد يونق Crawford young، وهو عالم مرموق في جامعة ويسكونسون الأمريكية والذي كلفني مرة بتقييم كتابه عن الاثنيات في إفريقيا سنة 1992، عندما كنت أستاذ زائر بهذه الجامعة المرموقة، أن الأقليات والقبائل والعروش في إفريقيا، تتميز بقدراتها الهائلة على مقاومة الغزاة الأجانب، لكن مشكلة العروش أنها تتحصن بالجبال وتتصارع فيما بينها وتدمر نفسها بنفسها. كما أن الأقليات تحرص على توزيع أعضائها بالتساوي في مؤسسات الدولة بحيث يتواجد افرادها في بطانة الحكام الأقوياء. فإذا كان الحاكم القوي من اليمين فالعناصر اليمينية من الأقليات تقدم له الخدمات الجليلة وتستفيد منه إلى أقصى الحدود وتحمي الأقلية من شره. وإذا كان الحاكم من اليسار المتطرف، فإن اليساريين من القبيلة يلتفون حوله وينتفعون منه إلى أقصى الحدود. المهم أن القبيلة دائما رابحة من عناصرها اليمينية واليسارية ولا خوف عليها !
ولا يفوتني أن أثني على جهود الباحثين الأفاضل الذين أمتعونا بمقالاتهم الجيدة عن الأقليات وملؤوا الفراغ الموجود في مكتبات جامعاتنا. إنني أتمنى أن يستفيد القراء من جهود هذه الباقة المتألقة من الباحثين في الجامعات العربية والأجنبية.
الأستاذ عمار بوحوش
الجزائر يوم أول ماي 2021