نظرا للخلل في السياسيات العامة
هل يمكن الفصل بين السياسيين و المختصين ؟
المشاكل التي تتخبط فيها الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، عديدة ومتنوعة ومن الصعب حصرها. غير أنه يمكن أن نركز على نقطة واحدة من بين هذه النقاط التي تتطلب التفكير في مستقبل وطننا و تجنيبه ويلات الصراعات، والاضطرابات. و يتمثل الموضوع الشائك الذي أتطرق إليه في مسألة جوهرية وهي:غياب السياسات الإستراتيجية للدولة في كل تخصص واستفحال الأزمات نتيجة لسياسات الترقيع والمزاجية.
وقبل التطرق إلى موضوعنا الذي أشرت إليه آنفا و هو غياب الإستراتيجيات المدروسة بدقة من طرف المختصين في كل مجال، أريد أن أشير إلى أن كلمة ” السياسات” لا علاقة لها بكلمة ” السياسة ” المنبوذة التي يفهمها العام و الخاص و يمتعض منها. إن كلمة “السياسات” تعني Policies و ليس Politics أو Politique. فالسياسات هي برامج التنمية في التربية و الإدارة والاقتصاد و الثقافة والسياسة والصحة والتكوين المهني .
و السؤال الذي يطرح هنا بإلحاح، من يضع هذه السياسات أو برامج التنمية في كل قطاع؟ ، هل يضعها و يشرف على تنفيذها السياسيون ( أي القادة الذين بيدهم اتخاذ القرارات ) أم المختصون من رجال العلم و الكفاءات المهنية و ذوي التخصصات الدقيقة في كل حقل من حقول المعرفة . .
إن هذا التساؤل يذكرنا بقضية الصراع الذي كان من المفروض أن يقود الثورة : السياسيون أم العسكريون، في حين أنه كان من المفروض أن لا يطرح هذا التساؤل أصلا، لأن رجال الاختصاص في السياسة يتخذون القرارات التي تخص مجال عملهم، ورجال القوات المحاربة يرسمون الإستراتيجية العسكرية و يقترحون على قادة الثورة ما ينبغي عمله و كفى. لكن عدم وجود إستراتيجية واضحة و دقيقة عند السياسيين و معتمدة للعمل كانت تحرك الشعور بالخوف لدى العسكريين من المصلحة الوطنية بمجرد التعرض للضغوط الخارجية أثناء الجلوس على أية طاولة للتفاوض .
و إذا عدنا إلى موضوعنا الأساسي و هو : من يضع السياسات الإستراتيجية: السياسيون أم المختصون، فإنه يمكننا أن نقول بأن كل متأمل أو متمعن في السياسات العامة الجزائرية سيلاحظ من أول وهلة، أن هناك خلل في هذه السياسات قبل أن يكون هناك خلل في عمل المسؤولين على تنفيذ تلك السياسات .
إنه لمن الواضح أن دور الحكومة في بلدنا و في كل بلدان العالم هو تنظيم الصراعات وإشراك الأحزاب و المنظمات المختصة في وضع السياسات و تنمية المهارات في كل قطاع ، غير أن الذي يحصل عمليا هو محاولة الحكومة و كل حزب وكل جمعية متخصصة الانفراد بالسلطة و السيطرة و إخراج الآخرين من دائرة أو حلبة الصراع حتى لا تشاركها الجماعات الأخرى في الحكم. و اتخاذ القرارات التي تخدم مصالحها، و هذا ما حاول أن يفعله قادة الجزائر في عهد الاستقلال حينما طلبوا من جبهة التحرير الوطني الجزائري ( و الآن حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري) أن تقوم الجبهة بتزكية السياسات العامة للحكومة و تبدي موافقاتها الشكلية . أما المناضلون الحقيقيون للجبهة فقد أصروا على ضرورة أن تتكفل الجبهة بوضع السياسات و الحكومة تشرف على التنفيذ.
إن هذا الصراع حول من يحكم و من يقرر السياسات العامة هو جوهر الخلافات والصراعات التي نراها في الساحة الجزائرية حتى الآن. وكما يبدو ، فإن تنظيم الصراع بين الجماعات الضاغطة العلنية و المخفية لن يكون مجديا ما دام التنافس قائما حول من يحكم و ليس السياسات المدروسة و المقترحة من طرف المختصين.
يبدو أن هناك من نسي بأننا الآن نعيش في عصر العولمة و الشراكة و الأسواق المفتوحة، و التعامل مع مؤسسات عملاقة مثل الاتحاد الأوروبي ، و كلها تتعامل معنا على أساس برامج مسطرة من طرف خبرائها و باحثيها و منظريها و لا يمكن أن تحيد عنها قيد أنملة. أما نحن فلا نملك رؤية واضحة لقضايانا، أو قد تكون الخطط موجودة في أذهان قادتنا ولكنها غير مبلورة و لا يمكن أن تكون فعالة لأنها غير مصممة من طرف المختصين الذين لا تهمهم الشعارات و التباهي بإلقاء الخطب الرنانة و إيهام الناس أن كل شيء على ما يرام، في حين أن محتوى السياسات فارغ و ليس لنا الإستراتيجيات المضادة لمواجهة من نتعامل معهم .
إن من يجلس في مقهى أو يلتقي مع الناس في عرس أو في ندوات علمية ، سيسمع الناس يتكلمون عن غياب دور الدولة ، وعن قلة الوفاء بالتزاماتها أو ضعف مصداقيتها. وفي الحقيقة إنهم يقصدون بذلك غياب السياسات وعدم وجود استراتيجيات مرسومة بدقة، سواء أثناء دراسة المواضيع أو عند تنفيذ السياسات. وعليه، فإذا كانت ارتجالية في صياغة السياسات و فيها خلل ، فالإداري الذي تحول إليه السياسات لتنفيذها، لا يستطيع أن يتصرف حسب مزاجه ، و لا يمكنه أن يتخذ أي قرار تصحيحي إلا إذا جاءت التعليمات المكتوبة من أعلى .
لو سألت ، مثلا، رئيس جامعة التعليم المتواصل ، ما هو دور جامعته أو سألت مدير المدرسة الوطنية للإدارة، ما هو دور مدرسته، و كيف تختلف هاتان المؤسستان عن الجامعات الجزائرية، فإنهما سيجيبانك بأنهما يقومان بتنفيذ السياسة المرسومة من طرف الحكومة، وأن مؤسساتهما يمنحان نفس الشهادة التي تمنحها بقية الجامعات الجزائرية. والسؤال المطروح : هل هذا يعني إزدواجية في التكوين ؟ نعم، إنها إزدواجية في التكوين وهدر أموال الخزينة العامة في نظر المختصين في مناهج التعليم . إن الغلط يكمن في وضع السياسات و ليس في تنفيذ السياسات و ليس في وجود المؤسستين. و الغلط نابع من الذين قرروا وضع السياسات الذين لا يفرقون بين الجامعات التي تختص بتدريس العلوم النظرية و مدارس التكوين التطبيقية للعلوم. فالمفروض أن يكون دور جامعة التعليم المتواصل هو تكوين أصحاب مهارات تطبيقية في مهن محددة تحتاجها المؤسسات الاقتصادية و الصحية والقانونية و الإدارية ، و المدرسة الوطنية للإدارة تقوم بدور التدريب و التأهيل المهنيين في العلوم الإدارية ، هذا من جهة. و من جهة أخرى فإن الغلط الثاني في رسم السياسات يكمن في سوء تقييم الشهادات العلمية. فالهدف في رأي واضعي السياسات العامة هو تثمين أو تفضيل الشهادات الجامعية و منح أصحاب حامليها حق الانتماء إلى فئة القادة الإداريين (Administrateurs ) و رتب عليا في سلالم الوظيف العمومي أو إدارات القطاع الخاص، في حين أن شهادات التدريب المهني أعطيت لها قيم رمزية .
صحيح، أن الشهادة الجامعية تحظى بقيمة علمية نظرية كبيرة، و من حق الحاصل عليها أن يفتخر و يعتز بمستواه العلمي المرموق. لكن من الناحية الواقعية، أن الحاصل على الشهادة الجامعية لا يفيد مجتمعه كثيرا في أية وظيفة مهنية تتطلب تجربة و خبرة ومهارة عملية تستفيد منها المؤسسات المهنية التي تخدم المواطنين. إنه لمن الواضح أن المجتمع في حاجة إلى متخصصين في مهن عملية ، قادرة على حل المشاكل الواقعية التي تحتاج إلى تقنيات، و عندهم كفاءات عالية في الحرف و المهن، و ليس في حاجة إلى منظرين ومفكرين و متثقفين قد يكونون عباقرة في تخصصهم ولكنهم لا يملكون المؤهلات والتجارب الميدانية التي تساعد كل مواطن على إيجاد حل عملي لمشاكله .
وبعبارة أخرى، أن الخلل موجود في مؤسساتنا التي لا تولي أهمية للتدريب الميداني والتخصص الدقيق في كل مهنة .
واعترف أنني ذهلت ذات يوم من سياستنا المعتمدة في مجال الترقية في الوظيف العمومي. ففي عام 1982 كنت مشرفا على برنامج تدريبي في النقل الحضري بالمدن وذلك بصفتي كبير الخبراء في المنظمة العربية للعلوم الإدارية ، و الذي انعقد بمؤسسة جورجيو الأكاديمية بمدينة بوخاريست الرومانية، وصادف أن ناقش خبراء منظمة الأمم المتحدة مسألة الترقية في وظائف النقل الحضري، و اتفقوا على أن الترقية آنذاك تتم عن طريق المشاركة في الدورات التدريبية لتحسين المستوى، و ليس عن طريق التنقيط من طرف الرؤساء في الوظيفة ، وفي نهاية البرنامج التدريبي قمنا بتوزيع شهادات النجاح في الدورة، لأنها تعتبر أساسية للترقية في دول المشرق العربي، أما المشارك الجزائري في تلك الدورة التدريبية فإن شهادة التدريب لا تفيده، لأن الترقية تتم عن طريق الرؤساء في العمل و ليس عن طريق المشاركة في الدورات التدريبية و تحسين المستوى .
و مع أنني لا أريد أن أستمر في تبيان العيوب في السياسات الحكومية، إلا أنني أرى أنه لزاما علي أن أشير إلى ما لاحظته في جامع نايف العربية للعلوم الأمنية بالمملكة العربية السعودية ، حيث لا يستطيع الطالب أن يعالجه في رسالة الماجستير أو الدكتوراه إلا إذا كان الموضوع الذي يعالج أي موضوع في رسالة الماجستير أو أطروحة الدكتوراه عبارة عن دراسة ميدانية على مؤسسة حكومية أو مؤسسة قطاع خاص، أي أن الشهادة التي يحصل عليها المتخرج في تخصص معين لابد أن تكون مطعمة بجانب تطبيقي ، فما الفائدة من المعرفة النظرية التي لا ترتبط بتطبيقاتها في أرض الميدان .
و بإيجاز، هناك خطا شائع في بداننا النامية، خلاصته أن الكثير من الناس يبتهجون ويفرحون لإنهاء مهام مسؤول قوي، أو عنده نفوذ معتبر، و يتوقعون أن تنحيته من منصبه ستعود بالفائدة على الوطن ، و هذا خطأ كبير ، لأن من يحل محله قد يكون أسوأ منه ، و الشيء الجديد في الموضوع هو أن البطانة القديمة للموظف المفصول تختفي باختفاء نفوذه لكن بطانة أخرى تلتف حول من يخلفه ويأتي دورها للاستفادة من نفوذه وقوته .
و السؤال المطروح: إلى متى يرتفع مستوى وعينا و ندرك أن مصلحة الوطن تكمن في وضع السياسات و الإستراتيجيات وتطبيقها من أي طرف مسؤول يتمتع بكفاءة عالية وتخصص دقيق في مجال عمله .
على الناس أن يفهموا أن تغيير الأشخاص لا يغير من أحوالهم شيئا، و لكن الذي يغير من أحوالهم هو وضع السياسات و الإستراتيجيات التي تخدم مصالحهم والتي يتعين وضعها من طرف أهل الاختصاص في كل قطاع .
إنه لمن السذاجة أن يعتقد بعض الناس، مثلما نرى في تعليقات بعض القوميين العرب وقناتين الجزيرة و العربية، بأن الرئيس الأمريكي قد أخطأ و أن شعبيته في تدهور، و أن قراراته خاطئة. إن منطلق هذه التحليلات نابع و مستمد من الأوضاع السائدة في مجتمعاتنا العربية التي يغلب عليها طابع الفردية في اتخذا القرارات و رسم السياسات والتفاف مجموعات أصحاب المصالح حول من يكون بيده القرار لكي يحصلوا على منافع منه. الواقع ، هو أن الرئيس الأمريكي الحالي أو الذي سيأتي بعده، ينتهج سياسة مسطرة من طرف أكفأ الشخصيات العلمية الموجودة ببلده، و ما هو إلا منفذ للإستراتيجيات المرسومة من طرف كبار العلماء الموجودين في البيت الأبيض وفي كل تخصص. ولهذا فالمفروض أن يتحدثوا عن خطا الإستراتيجية و ليس خطا الرئيس .
وكما هو واضح للعيان ، فإن الخطط الموضوعة من طرف الخبراء تقوم على أساس تأمين النفط من بحر قزوين و الخليج العربي ، و إذا اقتضت مصالح الولايات المتحدة نقل المعركة العسكرية إلى أفغانستان و العراق و إسكات خصوم الولايات المتحدة الأمريكية في هذين البلدين، فعلى الرئيس الأمريكي تنفيذ ذلك،و هذه الإستراتيجية طبقتها روما لمدة 14 قرنا ، أي بادر إلى القضاء على خصمك قبل أن يستفحل خطره و يتمكن من إرباكك و القضاء عليك .
المشكل هنا أن من يعمل و يجتهد و يتفانى في تنفيذ خططه الإستراتيجية لابد أن يقع في أخطاء جسيمة ، و في هذه الحالة يتعين عليه أن يكشف عن بدائله الجاهزة لتصويب الأوضاع.
ولعل الشيء الذي يهمنا في هذا الموضوع، هو أن الخبراء الأمريكيين في وضع الإستراتيجيات كانوا منذ مدة طويلة على علم بثلاث كوارث قادمة للولايات المتحدة الأمريكية و هي: حصول كارثة بسبب أعمال إرهابية ، و حدوث زلزال بولاية كاليفورنيا، و احتمال هبوب عاصفة قوية في خليج المكسيك تتسبب في غرق مدينة نيو أورليانز ( بولاية لويزيانا ) بسبب وجودها تحت مستوى سطح البحر. لكن الخبراء في وضع السياسات لم يكن في إمكانهم التحكم في أوقات حصول هذه الكوارث، و هذا هو المشكل. كما أن الأخطاء التي وقعت فيها الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن ناتجة عن خطأ في السياسات الهادفة إلى تأمين البترول و التخلص من خصوم أمريكا المناوئين لها، وإنما هي ناتجة عن المعلومات المضللة التي كانت تحصل عليها من عملائها الذين هربوا إلى خارج أوطانهم و أمنيتهم الكبيرة هي الإطاحة بقادة وطنهم. وقد اعترف بهذه الحقيقة كولن باول الذي صرح منذ أيام بأن دفاعه في مجلس الأمن عن السياسية الأمريكية في العراق يعتبر وصمة عار في جبينه وأن تلك السياسات الأمريكية كانت خاطئة و مضللة من طرف وكالة المخابرات المركزية و عملائها في الخارج .
إن التعرض إلى هذه الوقائع يكشف لنا بوضوح ، أن مشاكلنا في الدول النامية ، بصفة عامة ، تنبع من الخلل الموجود في السياسات العامة و أن الإداريين يعانون في تطبيق السياسات الغامضة، مثل السياسيين الذين يأمرونهم بتحقيق نجاحات باهرة في غياب سياسات عامة تنقصها الدقة في تحديد الأهداف و الصرامة في تطبيق الإستراتيجيات المدروسة بعناية و دقة متناهية .
إنه يتعين علينا أن نفصل بين الإخلاص للوطن و التمسك بالثوابت الوطنية وغيرتنا على بلدنا، و بين التخصص المهني انتهاج سياسة مبنية على إستراتيجية مرسومة حسب الأصول أو القواعد العلمية ( حتى و لو كانت مغايرة لقناعتنا و وجهات نظرنا الشخصية الفردية ) لأن العبرة هي تحقيق النتيجة التي تخدم المصلحة العامة و ليس تحقيق أهواء الشخص أو المزاج الفردي .و علينا كذلك أن لا نقع في خطأ آخر و هو أن نعتقد، مثلما حاول أن يقنعني ذات يوم العقيد صالح بوبنيدر ( رحمه الله )، أن الجزائري إذا خرج إلى الخارج ينجح في وظيفته إلى درجة أنه يتحول إلى عبقري. و الحقيقة هي أن الجزائري إذا وجد البيئة المحفزة للعمل، و السياسات المرسومة بدقة و عقلانية، يتحول بسرعة إلى إنسان فعال و محقق للمعجزات، لأن السياسات المرسومة بدقة تساعده على إنجاز عمله بأسلوب فعال .
وما أردت أن أقوله في هذه العجالة، من سرد هذه الأمثلة و الحقائق، أن العبرة من التعلم والتخصص لا تكمن في نشر المعرفة و إنما تكمن في الاستخدام الأمثل لمختلف العلوم وتجسيد الأفكار الجديدة و توظيف التقنيات الحديثة و الاعتماد عليها في رسم السياسات والإستراتيجيات التي لا تزول بزوال القيادات . إن مشكلتنا تكمن في شفعنا في التباهي بالجامعات و تلقين الطلبة المعرفة في السبورة و كفى ! أتمنى لو أجد مسؤولا يعطيني جوابا مقنعا على السؤال التالي: ” ما فائدة أن تعرف و لا تطبق؟
(*) : دراسة منشورة في جريدة الشروق اليومي بتاريخ 24 سبتمبر 2005 .