نظريــة التنظيــم
كلمة التنظيم تستعمل في غالب الأحيان، عندما نعبر عن رغبتنا في الجهد الإنساني بقصد بلوغ الأهداف المنشودة في الحياة (1). ومهما اختلفت الأساليب وطرق العمل لخدمة المصلحة العامة، فإنه بإمكاننا أن نقول بأن الخطة العامة للتنظيم تقوم أساسا على فكرة العمل الجدي لكي يصل الإنسان إلى مبتغاه.
ولعله قد اتضح من خلال الفترة السابقة بأن الدافع الكبير للتنظيم هو إشباع حاجات الأفراد وتحقيق رغباتهم، لأن الإنسان بطبعه يميل إلى الدفاع عن نفسه وعن حقوقه، وبالتالي يحرص على تقوية نفوذه وحماية ممتلكاته وتحصين نفسه ضد أبناء جنسه. وحسب هذا المفهوم، فإن الإنسان يحاول على الدوام أن ينظم نفسه ويستفيد من طاقته العقلية وذلك لكي يضمن لنفسه ولعائلته العيش اللذيذ في الحياة.
وهنا يطرح السؤال العويص: كيف يمكن للإنسان أن ينجح في تحقيق مشاريعه ما دامت الإمكانيات محدودة وعجلة الزمن تدور بسرعة يصعب إيقافها ؟ وأكثر من ذلك، فإن الإنسان لا يتسابق مع الزمن فقط، بل يتنافس ويتناطح مع الأفراد الأقوياء الذين أظهروا رغبة قوية في تغيير مجرى الأمور لصالحهم. والإجابة على ذلك هي أن الإنسان قد حاول أن يتغلب على الفوضى والعوائق التي تعترض سبيل نجاحه عن طريق تحديد الأهداف ومنح الأولويات للمشاريع التي يكون لها الأثر البالغ على مستقبله. ومن خلال عمليات التصفية والمقارنة سيستطيع الإنسان أن يتعرف على نوعية المشاريع التي في إمكانه تحقيقها ونوعية المشاريع التي يصعب تحقيقها في المدى البعيد والمدى القصير.
ومع أن الناس يختلفون بشأن المقاييس التي يمكن الإعتماد عليها لترتيب الرغبات، فإن علماء التنظيم قد قاموا بمحاولات عديدة لتصنيف الحاجات التي توجه السلوك الإنساني وتؤثر في الإختيارات الأساسية للأفراد. ومن جملة الأشياء التي يحرص الأفراد على اقتنائها، قبل غيرها نخص بالذكر الحاجات الإجتماعية الآتيـة :
1- في المستوى الأول، تأتي الحاجات العضوية التي تعتبر أشياء أساسية للحياة مثل الغذاء والملابس والجنـس.
2- في المستوى الثاني، تأتي المسائل المتعلقة بالأمن الشخصي والمحافظة على الذات وذلك مثل اتخاذ الإجراءات الوقائية من خواطر البطالة والمرض والحوادث التي يترتب عنها تهديد للوجود الإنسانـي.
3- وفي المرتبة الثالثة، تأتي الحاجات الإجتماعية مثل مصادقة الأفراد والإنتماء للجماعات القوية وإظهار الولاء والطاعة للشخصيات البارزة.
4- وفي الدرجة الرابعة، تأتي الأشياء التي تختص بمكانة الفرد في مجتمعه وذلك في مثل الحصول على منصب يكسب الفرد إحترام الآخرين والإنتماء إلى منظمات راقية والإقامة في حي تسكنه الطبقات الأرستوقراطية. وفي جميع هذه الحالات، يسعى الفرد ليثبت أهميته ويقنع الناس بضرورة إحترامه والإعتراف بمواهبـه.
5- وفي المستوى الخامس، يأتي دور المسائل التي تخص التحقيق الذاتي للمثل التي يعتنقها الفرد والتي تتمثل في تحويل المشاريع الخيالية التي كانت تخامر الذهن من نظريات تجريدية إلى أشياء واقعية ملموسـة(1).
وإذا نظرنا بكل موضوعية إلى فكرة استخدام التنظيم كقاعدة أساسية لإشباع الحاجات الإنسانية، فإننا نجد أن الفرد يدرك منذ الصغر، بأن الحياة عبارة عن صراع متواصل مع المشاكل والعراقيل التي تعترض سبيل نجاحه في الدنيا. ولهذا فإن الأنانية التي سادت المجتمعات الإنسانية لا يمكن التغلب عليها إلا بسلاح التنظيم ومعرفة الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف الشخصية. وبكلمة مختصرة، فإن كل فرد مقتنع في قرارة نفسه منذ الصغر بأن البقاء في الحياة للأصلح والأقـوى.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يتأثر ويؤثر الفرد في تغيير الأمور ؟ لماذا يتحتم عليه أن ينظم نفسه للتسابق مع منافسيه الذين يزاحمونه ويخلقون الصعاب في وجهه؟ والجواب على ذلك هو أن البيئة والقيم Values and Environment يتحكمان في تصرفات كل فرد ويحددان المعالم الرئيسية لشخصية كل إنسان في الحياة. ففي المحيط الإجتماعي الذي تسوده المنظمات العائلية والدينية والمدرسية يتعلم كل فرد فنيات التنظيم وتبرز آراؤه الشخصية التي تدفعه تلقائيا إلى التعلق بأفكار ومبادئ تنسجم مع فلسفته في الحيـاة.
كما أن القيم والجانب الخلقي للشخص هو الذي يحدد نظرته إلى القضايا الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي يجابهها كل يوم. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن المقياس الذي يستعمله الفرد لإختيار أصدقائه والإختلاط بمجموعات معينة من الناس. فالقيم هي التي تتحكم في ذلك بصفة تلقائية. وبما أن التنظيم يستمد قوته من الإرادة، فإن القيم هي التي تكون الحافز الرئيسي للعمل وتحقيق الأهداف النبيلة في الحيـاة.
وهذا يعني أن القيم هي التي تساهم في رفع المعنويات وتبرير التضحيات والمواقف التي يتخذها الشخص في الأيام الصعـاب(1).
المبادئ الأساسية للتنظيـم
لعله قد اتضح من مقدمة الحديث عن التنظيم أن لهذا الموضوع عدة مفاهيم وتعاريف مختلفة وذلك تبعا للإتجاهات الحديثة في ميدان الإدارة العامة. كما أن للتنظيم مستويات مختلفة وآراء متضاربة بشأن أهمية هذه التنظيمات الإجتماعية. ومن بين النظريات السائدة في مجتمعنا الحديث نخص بالذكر المستويات الآتية للتنظيـم :
1. التنظيم الإنسانـي.
2. التنظيم الفــردي.
3. التنظيم الإجتماعي.
4. التنظيم الرسمي أو القانونـي.
5. التنظيم الغير الرسمـي.
ولكن تعدد المدارس والاتجاهات لا يمنعنا من تعريف التنظيم بأنه يعني تحديد أنواع النشاط لتحقيق أي هدف أو خطة، وترتيب تلك النشاطات في شكل وحدات، ثم تعيين الأفراد الذين يترأسون المصالح المسطرة في البرنامج العـام(2).
والفكرة الأساسية التي يمكن إستخلاصها من هذا التعريف هي أن التنظيم، بصفة عامة، يهدف إلى تجنيد الطاقات البشرية والمادية وتوجيههم، في الطريق الصحيح حتى يتسنى للأفراد والجماعات أن يحققوا الأهداف المنشودة (3). ومع أن هذا التعريف يحمل في طياته عدة جوانب أيجابية ودقيقة مكنتنا من أخذ فكرة محددة عن التنظيم، إلا أنه
لا يفىء بالغرض المطلوب من الجانب العملي. فالتنظيم ما هو إلا نظرية مثالية يمكن أن تتحول إلى حقيقة واقعية، كما يمكن أن تبقى تجريدية. ولهذا، فإن جوهر القضية ليس في رسم الخطط على الأوراق، وإنما يكمن في تنظيم البشر الذين يعتبرون رأس المال الأساسي لأي تنظيم ناجح. فالإنسان المشرف على أي تنظيم لا يستطيع أن يجرد أي فرد من طبائعه وتكوينه الثقافي لكي ينسجم مع الوظيفة التي تسند إليه. وهذا يحتم عليه أن يأخذ بعين الإعتبار طبيعة الفرد ومزاجه قبل أن يكلفه بتحمل أية مسؤولية معينـة.
إذا، يعتبر العنصر البشري في التنظيم من أهم العناصر التي يتوقف عليها نجاح أية منظمة في تحقيق أماني وطموح أفرادها أو في فشلها في ذلك، وقد أشرنا أكثر من مرة إلى الغاية من التنظيم وقلنا بأن الهدف منه هو تحقيق الأهداف المنشودة.
والسؤال المطروح هنا : ما هي هذه الأهداف ؟ وجوابا على ذلك يمكننا أن نقول بأن أهداف التنظيم تتمثل فـي :
1. خلق الفعالية ومضاعفة الإنتـاج.
2. تقديم الخدمات للعاملين في كل قطاع وتسوية مشاكلهم.
3. وضع الأسس والإجراات التي تكون قاعدة للعمـل.
4. الحرص على فتح مجال الخدمات لجميع المواطنين بحيث لا تهضم حقوق الضعفاء والفقـراء(1).
5. تسطير برامج التنمية والإستثمارات التي تساعد على توفير الشغل وتوزيع الدخل القومي وتحقيق العدالة الإجتماعيـة.
6. توفير الأمن والاستقرار بحيث يتفرغ كل شخص لأداء واجبـه.
7. تسهيل وسائل الإتصال بين المسؤولين في ميادين العمل والمسؤولية في الإدارات المركزيـة.
8. تعميم نشر المعرفة بحيث يجيد كل فرد فن التغلب على المشاكل التقنية التي تواجهه في أية لحظـة(2).
وقبل أن أتعرض لمبادئ التنظيم، أرى أنه من واجبي أن أشير إلى أن أهداف أية منظمة إجتماعية قد لا تكون هي نفسها أهداف كل الأشخاص الذين التفوا حول منظمة معينة. فإذا كانت الغاية من إنشاء أية منظمة إجتماعية هي خدمة الصالح العام وتقوية المؤسسة التي أنشئت بقصد الدفاع عن إختياراتها ومشاريعها الأساسية، فإن العناصر الإنسانية التي تتشكل منها أية منظمة، لا يمكن اعتبارها بأنها مجموعة من الأفراد تستخدم كأداة مطيعة للمنظمة، بل أن للأفراد الذين تسربوا إلى أية منظمة، غايات وأغراض خاصة بهم، وفي إمكانهم استعمال المنظمة كأداة في أيديهم لتحقيق مآربهم الشخصيـة.
ولهذا، فإن قوة أي تنظيم تكمن في مدى مقدرة القيادة على توجيه الأمور بلباقة وحكمة كبيرة بحيث تتمكن المنظمة من التحكم في جميع التيارات وتقضي بطريقة دبلوماسية على جميع الضغوط والاختلافات التي تبرز داخل كل منظمة. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن الطاقة المغذية لأية منظمة هي الطاقة البشرية. ومن المستحيل أن نستغني عن هذه القوة الإنسانية الدافعة لركب الحضارة الإنسانية، وبناء على ذلك، فإن التوجيه السليم للطاقات الإنسانية هو الذي يساعدعلى نجاح المنظمات في تحقيق أهدافها ويزيد في فعاليتها وفي انتعاشـها(1).
وبالنسبة لجوهر الموضوع وهو المبادئ الأساسية للتنظيم، فإننا نستطيع أن نوجزها فيما يلـي:
المبدأ الأول والأساسي للتنظيم هو التخصص وتقسيم العمل. لماذا تقسيم
العمـل ؟
1. لأن للناس مستويات مختلفة في الذكاء والمواهب والأذواق.
2. لأن شخصا واحدا لا يستطيع أن يكون هنا وهناك في آن واحد.
3. لأن فردا واحدا لا يستطيع أن يقوم بعملين يدويين في وقت واحد.
4. لأن حياة الإنسان قصيرة ومن الصعب عليه أن يتقن كل شيء في هذه الدنيـا.
5. لأن الآلات العصرية تتطلب التخصص في العمل والفعالية في تقديم الخدمات
أو مضاعفة الإنتـاج(1).
المبدأ الثاني للتنظيم هو التنسيق في العمل وتوزيع المسؤوليات حسب مقاييس دقيقة (Hierarchy). ومثلما يوجد في العائلة المسؤول الأول ومساعده الأول والثاني والثالث، فإن كل منظمة إدارية تتكون من عناصر بشرية، كل واحد يتمتع بسلطات معينة تسمح له بتحقيق الأهداف المرسومة. وبكلمة وجيزة، فإن كيفية استعمال السلطة لتحقيق الفعالية تعتبر هي المحور الرئيسي لأي تنظيم عائلي أو إداري، وحسب خطط التدرج في السلطة فـإن :
1. كل شخص مسؤول يتلقى التعليمات من رئيسه فقـط.
2. كل إنسان يحاسب على أعماله من طرف رئيسه المباشـر.
3. كل فرد يتلقى التعليمات من رئيس المصلحة التي يشتغل فيها فقـط.
وبفضل هذا النوع من التسلسل الإداري في السلطة يمكن التحكم في زمام الأمور وفرض مراقبة دقيقة تسمح للشخص المسؤول أن يعرف ما أنجزه وما ينتظره من أعمال قادمـة.
وفي الواقع إن المقياس العملي لتوزيع المسؤوليات وتحديد السلطات لا تبرز متانته أو يظهر ضعفه إلا في المنظمات الكبيرة التي أصبحت ظاهرة عادية في المجتمع الحديث. وإذا كان التعاون ضروريا لتحقيق الأهداف المنشودة، فإن الصراعات التي تنشب بين الخبراء ورجال التسيير الذين بيدهم السلطة هي التي تقود في غالب الأحيان إلى فشل المنظمات. ولهذا، فإن التفاهم بين الرؤساء ومعاونيهم في السلطة أو التجاوب بين المتخصصين والمسيرين هو الأساس المتين لأي تنظيم ناجـح.
المبدأ الثالث للتنظيم هو القيادة أو الشخصية، وبدون شك فإن العالم الإنساني يعتبر من أهم المقومات الأساسية لأي تنظيم، لمـاذا ؟
1. لأن القائد هو الذي يضع الخطط ويحدد المعالم الرئيسية للمؤسسة التي يديرها.
2. لأن الشخص المسؤول في القمة هو الذي يضع الهياكل الأساسية التي تفئ بالحاجة، ويقرر عدد المساعدين ونوعية الأعمال التي يقومون بها.
3. لأن الإنسان المسير هو الذي يختار الأشخاص الذين يتوقف عليهم مصير المؤسسة وإمكانية تحقيق الآمال المعلقة عليهـا.
4. لأن رئيس المؤسسة هو الذي يعطي التعليمات وبغير مجرى الأمور سواء خلال فترة البناء والتشييد أو أثناء أداء الأعمال الروتينية اليوميـة.
5. لأن القائد هو الذي يتولى تنسيق العمليات والتأكد بأن جميع المصالح تعمل بطريقة منسجمـة.
6. لأن السيد المدير هو الذي يكون بمثابة همزة وصل بين كبار المسؤولين في دولته وبين رؤوساء الأقسام التابعة لإدارتـه. وفي جميع الحالات، فإن الإتصالات التي تجرى سواء مع القيادة السياسية أو المساعدين للمسؤول عن أي إدارة، تتم عن طريق تلقي المعلومات وكتابة التقارير وإتخاذ الإجراءات التي يتوقف عليها مصير المؤسسة العمومية التي يشرف عليها السيد المديـر.
7. لأن القائد هو الذي يشرف على الميزانية ويؤثر في مسائل الأولويات والتخطيطات المادية وكيفية استغلال الثروات المتوفرة لدى مؤسستـه(1).
مزايــا التنظيـم
لعله قد اتضح من خلال حديثنا عن المبادئ الأساسية للتنظيم بأنه شيء مفيد
ولا يمكن للبشرية أن تستغني عنه. وحرصا منا على إبراز الفوائد العديدة التي يجينيها كل فرد ملتزم بالتنظيم، رأينا أنه من واجبنا أن نتعرض إلى مزايا التنظيم حتى تتضح الفكرة العامة ونعرف خصائصه. وبإختصار، فإن ميزات التنظيم تكمن في العوامل الآتية :
1. الدقة في العمـل.
2. السرعة في التنفيـذ.
3. إزالة الغموض.
4. الكفاءة والمعرفة التقنيـة.
5. الإستمرارية في العمل وعدم توقف النشاط بعد حصول أي تغيير في القيادة.
6. استعمال السلطة التقديرية في الوقت المناسـب.
7. الإنتظام في العمـل.
8. إتباع السلم التصاعدي في السلطـة.
9. ربح الوقت وتخفيض نسبة التكاليـف. (1)
بهذه الوسائل الفعالة تستطيع بعض العناصر، سواء في إطار منظمات بيروقراطية أو خارجها، أن تفرض نفسها على الأغلبية الساحقة من أبناء أي شعب صناعي أو نامي. وبناء عليه، فإن العمل المنظم هو الذي يخلق القوة ويسمح للبيروقراطيين وللقادة البارعين، بصفة عامة، أن يتفوقوا على غيرهم ويتحكموا حتى في الأفراد المنتخبين من طرف المجتمع المخول لهم اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية وثقافية باسمهـم.
وبطبيعة الحال، فإن معرفة عناصر التنظيم والإلمام بالنقاط التي تتكون منها معالمه الرئيسية لا تكفي لجعل كل الناس ملتزمين بالنظام وقدوة لغيرهم في الأعمال الناجحة. فلو قمنا بإلقاء نظرة على تصرفات بعض الأشخاص الذين نحتك بهم في حياتنا اليومية لا تضح لنا أن كلهم يحبون النظام لكنهم ليسوا كلهم منظميـن، والسبب في ذلك أن التنظيم يتطلب الإرادة القوية، واستشارة من هم أكثر دراية بالمهنة، وإجادة فن الإستفادة من تجربة وخبرة الأوائل، ثم العثور على العناصر الملتزمة بالعمل والمتفانية في الخدمة. كل هذه العوامل الهامة، التي يحاول العديد من البشر أن يتجاهلها، تعتبر هي المحور الذي يتوقف عليه مصير الأفراد والمجتمعات الإنسانيـة.
ونستخلص من كل ما نقدم أن الهدف من التنظيم والحرص على إتباع إستراتيجيات في غاية من الدقة والتنسيق، هو خلق القوة والنفوذ الذي يسمح للأفراد والمنظمات أن يوجهوا المجتمعات ويؤثروا في تصرفات الأفراد والحكام بحيث يحصلون في نهاية الأمر، على كسب التأييد الشعبي وانتصار القضايا التي تجندوا للدفاع عنها وتحويلها من فكرة إلى حقيقة ملموسة.
التنظيــم بخلـق القــوة
لقد حاولنا في الفقرات السابقة أن نتكلم عن التنظيم بدون أن نتعمق في ربط ذلك بالقوة والنفوذ في المجتمعات الإنسانية. والواقع أن القوة Strength والتي يمقتها الناس لأسباب معقولة وذلك نظرا لإرتباط هذه الظاهرة بالإضطهاد والتعسف واستعمال العنف من طرف الأقوياء لقهر الضعفاء، لا يمكن فصلها عن التنظيم. فبدون قوة تدعمه، يتحول التنظيم إلى كلمة جوفاء لا معنى لها. وفي إمكان أي إنسان أن يلاحظ ويتأكد من ذلك بنفسه وذلك عن طريق المقارنة بين أحوال الأقوياء والضعفاء في بيئته. فالأشخاص الذين لا يملكون قوة يصعب عليهم التأثير في مجرى الأمور لكن الأفراد الذين نظموا أنفسهم، يخلقوا القوة التي تمكنهم من تحقيق أمانيهم في الحيـاة.
ومادامت القوة أساسية للتنظيم، فإنه يتحتم علينا، في هذا السياق، أن نتطرق إلى ظاهرة القوة لكي نلفت الإنتباه إلى أن هذه الكلمة تستعمل في ميدان التنظيم، بمعناها الحسن ومعناها السيء. فطريقة استعمال القوة والهدف من الإلتجاء إليها والنتيجة المحققة، هي العوامل التي تحدد مفهوم القوة وتترك في النفوس انطباعات حسنة
أو سيئة. وعلى هذا الأساس، فإن القوة عبارة عن آلة طيعة في يد الأفراد الذين يمكنهم أن يجيدوا استعمالها بقصد خدمة الصالح العام أو يسيئوا استعمالها ويحتكرونها بقصد خدمة مصالحهم الخاصـة.
ونستخلص من كل ما تقدم أن القوة تعني مقدرة أفراد على استعمال وتجنيد الطاقات الإنسانية والثروات لتحقيق أهداف أولئك الذين يملكونها (1). ومع أن كلمة
” القوة ” تنطوي على معنى سلبي، كما أشرنا آنفا، فإن الناس في العادة يقبلونها لأنهم يرفضون بديلها الذي يسمى ” بالفوضى ” والسبب في ذلك أن انتشار (الفوضى) يعني بالدرجة الأولى انعدام الأمن واستحالة الحصول على الفوائد والمزايا التي يجنيها الأفراد عن طريق تنسيق المجهودات الإنسانية لتحقيق الأهداف المنشـودة(2).
ولكي يكون الحديث عن القوة التي يخلقها التنظيم مكتملا، لا بد أن أشير إلى أن السلطة (Authority) هي الوليد الشرعي للقوة. والفرق الجوهري بين القوة والسلطة هو أن الأولى لا تعتمد بالدرجة الأولى على الأسس الشرعية والتفويض الرسمي بينما تستند (السلطة) على الإجراءات القانونية وتحظى بتزكية من طرف السلطات العليا. وحسب هذا المنطلق، فالسلطة هي وليدة القوة، والناس يعترفون بشرعية هذه الأخيرة وذلك عندما تتم عليها الموافقة من المؤسسات الرسمية والمنظمات الإجتماعية المتعرف بها قانونيـا.
وكيفما كان الحال فإن الشيء الذي يهمنا، بالنسبة للتنظيم هو أن تجمع القوة في يد الأفراد والمنظمات هو العمل الأساسي والكفيل بخلق الفعالية والمقدرة على حسن استغلال الطاقات الإنسانية وتجنيدها لخدمة الأهداف العامة. وكل ما ينبغي أن نضيفه إلى هذه الحقيقة هو أن مصادر القوة المتنوعة وكل مجموعة إنسانية أو قيادة تحاول أن تعتمد على أكبر عدد ممكن من مصادر القوة حتى يتسنى لها أن تحصل على أكبر دعم اجتماعي ممكن. وبناء عليه، فإن القوة الأساسية لنجاح أي تنظيم يمكن أن تأتي من أحد أنواع القوة التاليـة :
1. القوة الطبيعيـة : التي تستعملها الجيوش في الحروب ورجال الشرطة لتفريق المتظاهرين أو ضد كل من يقوم بعمل يخل بالأمن العمومـي.
2. القوة الإقتصاديـة : المتمثلة في الأموال المسخرة لمكافأة وتشجيع الأفراد العاملين، أو المستعملة كوسيلة لمحاربة الخصوم والقيام بضغوط ماليـة.
3. القوة المستمدة من المعرفة والتخصص : وهو السلاح الفعال الذي يستغله قادة المنظمات للتحكم في مساعديهم وفي الرأي العام بصفة خاصة. فقائد أية منظمة يعتبر في مركز قوة لأنه يملك المعلومات الدقيقة التي تسمح له بمعرفة أسرار إطارات منظمتـه.
4. القوة المستمدة من المقدرة الفردية في العمـل : أو المهارة بحيث أن الشخص البارع الذي يظهر مهارته في الميدان العملي يحظى بإعجاب رؤسائه ويحصل على ترقيات متوالية من قادة مؤسسته الذين يتوسمون فيه الخير والكفـاءة.
5. القوة المستمدة من شخصية الفـرد : والتي يطلق عليها في بعض الأحيان القيادة الملهمة (Charismatic Leadership) وتبرز هذه الظاهرة بوضوح في مقدرة بعض الأفراد على قيادة الناس وتنظيمهم بحيث يتمكنون، في النهاية، من الإستيلاء على مشاعرهم ونيل ثقتهم بعد أن يثبتوا تفهمهم الكبير لمشاعرهم وقضاياهم المصيريـة.
6. القوة النابعة من الإلتزام بمذهب عقائدي أو دينـي : وخلافا للقوة المستمدة من قوة الشخص، فإن القوة، في هذه الحالة، مستمدة من المذهب العقائدي وأنصاره الذين يظهرون تعلقهم الكبيـر بقيمه ومبادئـه.
7. القوة التي يكون مصدرها المنصـب : وهذه القوة، في العادة، ترتبط بالمنصب وليس بالضرورة بشخصية الفرد. فالطبيب الذي يجري عملية جراحية للمرضى يتحكم في مصير زبائنه خلال المعالجة، لكنه لا يملك أية قوة ولا يتحكم فيهم بعد خروجهم من مستشفى المعالجـة(1).
ونخرج من كل هذا بنتيجة واضحة وهي أن النشاطات الإنسانية والأهداف العامة، سواء للأفراد أو للمنظمات، تتأثر إلى حد كبير بأحد أنواع القوة التي ذكرناها آنفا. وطبعا، فإن القوة التي تتجسد في المنظمات تأتي نتيجة للتحالفات والتكتلات التي تحصل بين أنصار أية فئة إجتماعيـة.
ولهذا، فإن نجاح أي تنظيم يتوقف على مدى مقدرة قيادته على تحسين العلاقات مع الأفراد، وتوضيح الأهداف، وتقديم الخدمات الجيدة للأعضاء حتى يؤازروا منظمتهم بحيث تكون قوية وقادرة على تحقيق المزيد من الإنجازات الجديـدة.
وما دمنا قد طرحنا قضية القوة وأثرها على التنظيم، فإن السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا : من أين تأتي قوة المنظمات ومقدرتهم على تنظيم الأفراد وتوجيههم حسبما تقتضي مصلحتهم ؟ والجواب على ذلك هو أن المنظمات تعتمد على قوتها المتمثلة في مكافأة العاملين في إطارها ومعاقبة الذين لا يلتزمون بتقديم الخدمات على أحسن
وجـه(1). فالإنسان إذا، يخضع لإرادة المنظمة التي يعمل في إطارها، وترقيته أو منحه وظائف هامة تتوقف على مدى ولائه وطاعته لرؤسائه في منظمتـه.
أنـواع التنظيم الإجتماعـي
وفي مدخل الحديث عن التنظيمات الإجتماعية لابد أن نشير إلى أن تصرفات الأفراد لا يمكن ضبطها أو وضع مقاييس محددة لها. فمثلما تحاول المنظمات إخضاع الأفراد وجعلهم آلة مسخرة لخدمة أغراضها، يسعى الأفراد، من جهتهم، لاستغلال نفوذ منظماتهم وتحويلهم إلى أجهزة متخصصة في خدمة الأفكار والمبادئ التي
يؤمنون بـها.
وبصفة عامة، فإن العلاقات الإجتماعية التي يترتب عنها تحديد نوعية الإتصالات وتقوية الروابط التي تتحول إلى قوة إجتماعية متماسكة متجسمة في منظمات تأخذ إحدى الأشكال الآتيـة :
1. التنظيم الرسمي في إطار هيئة لها هياكل إجتماعية وقوانين تضبط أسس أنشطتها وطرق الإنضمام إليـها.
2. التنظيم الغير الرسمي الذي يستمد قوته من القيم والمعتقدات الراسخة التي تدفع بالأفراد إلى التعاون فيما بينهم بقصد تقوية أواصر العلاقات التي تربط بينهم من دينية وثقافية وسياسية واجتماعية وعقائديـة(1).
وفي العادة يطلق على النوع الأول في التنظيم الرسمي
(Formal Organization) وذلك لما يتميز به من الإستمرارية ووجود هياكل إدارية وقع تصميمها وفقا لنوعية النشاط الذي تمارسه والذي يتفق الأفراد على تأسيسها أو الإنتماء إليها. وبفضل القوانين التي تسير عليها المنظمات، تتحدد الأهداف وتبرز معالم السلم التصاعدي للسلطة وتتضح المسؤوليات وتوزيع الوظائف على المشاركين في التسيير. ولعل الفائدة الكبيرة التي يجنيها الأفراد من التنظيم الرسمي تكمن في إسناد الأدوار إلى الشخصيات المقتدرة وذلك وفقا لاختصاصاتها ومؤهلاتها بحيث تكون نوعية العمل مطابقة لنوعية الخدمات المقدمة من طرف كل فـرد(2).
أما بالنسبة للنوع الثاني من التنظيم الذي يعرف بالتنظيم الغير الرسمي (Informal Organization) فيتمثل في القيم وشعور الأفراد وتصرفاتهم وهي أشياء
لا تتحكم فيها قوانين رسمية متكوبة وإنما تنبع من ضمائر الأشخاص مستمدة من أخلاقهم والبيئة والأحداث التي يتفاعلون معـها.
وإذا كان التنظيم الرسمي هو الذي يحظى على الدوام بالأهمية البالغة، فهذا شيء طبيعي لأن التنظيم بدون قوانين وقواعد للعمل وأهداف محددة لا فائدة تجدي منه. ولكن الحقيقة البديهية الي يعرفها كل شخص له يد في أي تنظيم هي أن التنظيم الغير الرسمي يعتبر جزءا مكملا للتنظيم الرسمـي.
وقبل أن نتطرق إلى المشاكل التي تبرز نتيجة لإنتشار المنظمات الغير الرسمية، دعنا نركز ونتوسع في شرح ظاهرة التنظيم الغير الرسمـي. فلماذا، يا ترى تعطى أهمية بالغة للتنظيم الرسمي ؟ والجواب على ذلك يمكن تلخيصه في الآتـي :
1. أن القوانين والهياكل الرسمية تتصف على الدوام بالدقة والصرامة، وبمضي الوقت تصير غير ملائمة ولا تفي بالغرض، ولذلك يضطر الأفراد إلى التحايل على تلك القوانين وتعويضها بمفاهمات ثنائية تخدم أغراضهم وتجنبهم العواقب السيئـة(1).
2. أن إحجام بعض المسؤولين عن تقديم الدعم لمساعديهم أو عدم توفر رغبة صادقة لقبول الإقتراحات المقدمة من رؤساء المصالح إلى رؤسائهم بقصد خدمة المصلحة العامة، قد تجبرهم على عدم إتباع السلم الإداري، والإتصال بأناس آخرين بالهاتف
أو مقابلتهم وعرض القضايا المعلقة عليهم فلعلهم يساهمون في حلها، وإلا فإن الهدف المنشود لن يتحقق أبـدا.
3. أن الإنسجام في العمل قد يأتي نتيجة الإتصالات والإحتكاك بين المسؤولين ومساعديهم وليس نتيجة للترتيبات الإدارية الجاري بها العمـل.
4. أن الضغط من الأصدقاء والأفراد المتعاطفين مع بعضهم البعض له مفعول أقوى من مفعول القوانين الصارمة التي تكون في بعض الأحيان غير متماشية مع روح العصر. فإذا شعر الفرد أن رئيسه ليس جذير بالثقة أو لم يكن له أي حب وتقدير فإنه قد يخفي عنه بعض المعلومات ولا يتطوع لإفادته وإبلاغه عن كل ما يجري داخل مؤسسة العمـل(2).
5. أن العمال قد يضطرون لحماية أنفسهم من القرارات الإدارية المجحفة وذلك عن طريق التقلي من المجهودات التي تبذل لتحقيق الأهداف المنشودة بحيث يصعب على أي مسؤول أن يعاقب أي فرد معين ما دامت ظاهرة الإستياء عامة ولا تنحصر في شخص معين. فبهذا الأسلوب يستطيع العمال أن يؤثروا في الإدارة ويحموا أنفسهم من الإجراءات الإدارية التعسفيـة.
وإذا كان لكل شيء مزاياه وعيوبه، فإن نقائص التنظيم الغير الرسمي عديدة
ولا يمكن تجاهلها. وأولى هذه النقائص أن استعمال الصداقة وإطلاع الآخرين على
ما يجري داخل المؤسسة يخلق، في العادة، صعوبات ومشاكل للقيادة والمسؤولين في مختلف المستويات. فعلى سبيل المثال، إذا كانت إدارة معينة تنوي التخلص من أحد موظفيها، وصادف أن أطلعه أحد زملائه على ذلك مقدما، فإن ذلك الشخص الغير المرغوب فيه قد يستعمل جميع الحيل لعرقلة سير العمل بإدارته قبل أن يصله قرار إبعـاده.
العيب الثاني الذي يوجد في التنظيم الغير الرسمي هو الحرب النفسية التي يمكن أن نسميها ” حرب الإشاعات “. وسواء كانت المعلومات المتسربة إلى الخارج صحيحة أو غير صحيحة، فإن نتيجتها الحتمية هي خلق جو مشحون بالتوتر وشل حركة العمل والتأثير على معنويات العاملين بكل قطـاع.
والعيب الثالث للإتصالات الخفية في كل مؤسسة هو القضاء على الموضوعية والتأثير على الأحكام والقرارات التي يتخذها كبار المسؤولين عند الترقية أو إسناد المهمات إلى الشخصية العاملة في أية مؤسسة. فإذا تلقى أي مدير معلومات خاطئة عن أحد العاملين بإدراته فإنه قد يفضل عليه أحد الأشخاص المقربين إليه. وفي هذه الحالة تكون النتيجة الحتمية لهذا التصرف هي الإساءة إلى إدارته والتأثير في معنويات الموظفين وفي سير العمـل.
والعيب الرابع للتنظيم الغير الرسمي هو أن الخلط بين العلاقات الشخصية والتسلسل الإداري يؤدي في العادة، إلى خلق الإرتباك والفوضى في أوساط الفئات العاملة. وقد أثبت العديد من الدراسات أن إنحياز كبار المسؤولين إلى فئة معينة من الأفراد وتفضيلهم على غيرهم من العاملين الأكفاء، قد أدى إلى نتائج سلبية في العمل وقلة الرغبة في تنفيذ القرارات بإخلاص ونزاهـة.
وقبل أن نتطرق إلى أنواع التنظيم الرسمي، التي هي العمود الفقري لنجاح أية خطة اجتماعية، دعنا نسلط بعض الأضواء على التنظيم البيروقراطي الذي يسود كل المجتمعات الإنسانية سواء كانت متقدمة أو متخلفة. وقد وقع التركيز على هذا النوع من التنظيم نتيجة لرغبة الأغلبية الكبيرة من الأشخاص للإحتكام إلى العقل واستعمال القدرات اليدوية والذهنية لتحقيق الأهداف المنشـودة.
وبدون شك، فإن علماء التنظيم كانوا يطمحون من وراء استعمال القدرات العقلية إلى التغلب على مشاكل الأنانية الفردية وخاصة إستئثار بعض الأفراد بالسلطة واتخاذهم القرارات المصيرية بدون مراعاة للمصلحة العامة. ولهذا نلاحظ أن كل التنظيمات البيروقراطية تقوم على مبادئ أساسية للتغلب على المشاكل التي تعاني منها مختلف المجموعات البشرية، وتتمثل قواعد العمل فـي :
1. التخصـص.
2. ترتيب الوظائف حسب الكفـاءات.
3. العمل وفق قوانين وتعليمات مكتوبـة.
4. الكفاءة المهنيـة.
5. العمل يكون بمثابة مهنة دائمـة.
6. تطبيق القوانين بدون مراعاة للرقابة أو العلاقات الشخصيـة.
7. الترقية وفقا للمهارة في العمـل(1).
وعند دراسة أي تنظيم، نجد أن أهداف مصالح الأشخاص أو مصالح الدولة متعددة ومختلفة. وتبعا لذلك، تتنوع التنظيمات الإجتماعية وتختلف نماذجها من قطاع إلى آخـر. وفي العادة يقسم العلماء التنظيمات الإجتماعية إلى خمسة نماذج تتمثل في الآتـي:
1. التنظيم العسكري الذي يقوم أساسا على السلطة الثابتة والرتب المتفاوتة في القيمة.
2. التنظيم المهني والمتمثل في الجمعيات والنوادي التي تؤسس بقصد تقديم الخدمات إلى أعضائها الذين يتمتعون بحقوق متساويـة.
3. التنظيم الذي يخدم الفائدة العامة وذلك مثل المستشفيات والجامعات التي تحرص على تقديم الخدمات الإنسانية للمرضى والطلبـة.
4. التنظيم العمومي الذي يأخذ أشكالا مختلفة، ولعل أحسن مثل على هذا النموذج هو الجمعيات التعاونية التي يدفع أعضاؤها الإشتراك فيها مقابل الخدمات التي تقدم لهم. وفي العادة يتكون مجلس الإدارة من الممثلين المساهمين ومن المسيريـن.
5. التنظيم التجاري بين أفراد العائلات بقصد القيام بعمليات تجارية
مربحـة(1).
إرادة الأفـراد أقـوى من السلطـة الشرعيـة
ليس هناك جدال بأن السلطة (Authority) هي التي تجسم التنظيم وتعطيه قيمته الفعلية. وبفضلها يستطيع الإنسان المسـؤول :
1. أن يخطط ويضع مشاريع المستقبـل.
2. أن يرسم الأهداف ويعمل على تحقيقـها.
3. أن يتخذ القرارات الإلزاميـة.
4. أن يقوم بتعيين الأشخاص الأكفاء في المناصب المناسبـة.
5. أن يوزع المسؤوليات ويقوم بتنسيق المجهودات في العمل بحيث لا يبقى أي موظف تائه أو عرضه للأوامر المتضاربة التي قد تأتيه من بعض المسؤولين الغير المنجسمين في العمـل.
وقبل أن نتطرق إلى التعقيدات التي تصاحب السلطة، دعنا نعرفها حتى يسهل علينا فهم محتواها. ما هي السلطة إذا ؟ إنها المقدرة (وليس القوة) على إتخاذ القرارات الإلزامية التي تطبق من طرف الآخرين وإقناع الأفراد بالإمتثال والتماشي مع السياسة المرسومـة(1). والسلطة بهذا المعنى تنفرد بظاهرة هامة هي المرونة ثم كيفية فهمها من طرف كل شخـص.
وبما أن مقدرة كبار المسؤولين على توجيه الأفراد متفاوتة وتختلف من قائد إلى آخر، فإن هذه النسبية تبرز بوضوح في السلطة، أيضا. ولعل الإشكال الأساسي يكمن في اعتبار كل شيء قابل للأخذ والرد، والمساومات والمعاملة بالمثـل.
ومن أبرز المسائل التي تزيد في تعقيدات السلطة، أن هذه الأخيرة تنبني على الثقة والتفاهم بين المسؤولين ومساعديهم. ففي كل مسألة تتم المفاهمة بشأنها، يتنازل كل طرف عن جزء من أفكاره إلى درجة أن تلك المشاورات والمفاوضات قد تؤدي إلى بروز خطة جديدة مغايرة للخطط السابقـة. كما أن الثقة ترمز إلى حرية التصرف، والشخص الذي تعهد إليه المهمات هو الذي يعطي صبغة خاصة للسلطة وذلك من خلال تصرفاته الفردية ونظرته إلى القضايا التي يعالجـها.
وهنا أيضا مشكل آخر لا يمكن تجاهله عند الحديث عن السلطة وهو أنها مرتبطة، إلى حد كبير، بالعلاقات الشخصية التي يمكن أن تقام بين مسؤولين تجمعهما رابطة العمـل. فالإنسان المسؤول يحاول دائما أن يتكيف مع الظروف ويعمل ما يرضى رؤسائه وضميره. فـروح المبادرة في العمل لا تبرز إلى الوجـود إلا إذا قرأ لها الموظف ألف حساب وتأكد بأن الطرف الآخر لن يحرجه عندما يتقدم إليه باقتراحاته وإنما سيرحب بما يعرض عليه من أفكار جديـدة.
وفي جميع الحالات، فإن قبول مبادئ التنظيم والتماشي مع القرارات التي تتخذها السلطات العليا يتوقف على نوعية المسائل التي تمس أفراد أي مجتمـع.
ثم أن القيم الإجتماعية والعادات والتقاليد تؤثر هي الأخرى في نظرة الأفراد إلى السلطة وتعلقهم بها أو نفورهم منـها. وبناء عليه، فإننا نعتبر التنظيم الفعال هو ذلك الذي يعطي الدليل القوي للأفراد بأنه من مصلحتهم إطاعة القرارات والتماشي مع السياسة العامة المرسومـة.
وإذا نحن ألقينا نظرة على الدوافع التي تجعل الأفراد يطيعون ويتماشون مع قرارات التنظيم، لوجدنا أن هناك عدة عوامل واعتبارات نفسية تتحكم في الإعتراف بشرعية السلطات الرسمية في أي تنظيم اجتماعي، ومن أبرز ظواهر قبول القرارات التي تتخذها أية سلطة العوامل الآتيـة :
العامل الأول هو أن الأفراد قد يطيعون قرارات السلطة وذلك لأنهم يثقون في القائد الذي يتزعم منظمتهم، وفي العادة تتدعم تلك الثقة بفضل المواقف البطولية للقائد والكفاءة في العمـل.
العامل الثاني هو أن الأشخاص قد يمتثلون ويطيعون لأن الإنسان الذي اتخذ القرار له مؤهلات مهنية تسمح له بأن يتخذ أي قرار تفرضه الضرورة وتقبل كلمته في الحال. وهذه حالة الطبيب الذي يسمح له الأفراد بشقهم وإجراء العمليات الجراحية على الأماكن الحساسة من أجسامهم. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الحلاق الذي لا يتردد أي فرد في تقديم رقبته إليه ليمرر سكينـه الحاد عليـها.
العامل الثالث هو أن الأفراد قد يطيعوا القرارات الصادرة من أعلى وذلك لأنها جاءت من الشخص المسؤول في القمة وذلك حق من حقوقه الطبيعية. وهذا النوع نجده بكثـرة في التنظيـم الإداري التقليـدي.
العامل الرابع هو أن الطاعة تأتي نتيجة لتعلق الأفراد بقائد معين يعتبرونه بمثابة قائد عملهم ولا يمكن الإستغناء عنه. وهذا النوع من الطاعة العمياء أو رفض إثارة الشكوك في تصرفات القائد، يبرز بصفة خاصة، عند قيام بعض الزعماء بأدوار هامة بحيث أن القائد، في مثل هذه الحالات، يؤثر في مجرى الأمور ويعطي طابعا خاصا لشخصية شعبـه.
العامل الخامس هو أن الطاعة قد تأتي تلقائيا وذلك بسبب انتماء الأشخاص إلى منظمة معينة تأسست لكي تدافع عن مصالحهم وتحمي مكتسباتهم. فمنظمات العمال، مثلا، تتخذ قراراتها باسم العمال، وهي في العادة قرارات مكتسباتهم. لصالحهم وذلك لأن نقابات العمال وجدت بقصد حماية من أعضائها ومحاربة كل من يحاول النيل منــها.
العامل السادس هو أن الطاعة تأتي عن طريق الإجبار واستعمال البنود القانونية التي تسمح لكل مسؤول أن يعاقب كل من لا يتماشى مع الخطة العامة للتنظيم. وهذا النوع من العقوبات يأتي، في الغالب عن طريق التسلسـل الإداري.
إن ما يمكن أن نستخلصه من هذه العوامل المتعددة لقبول قرارات التنظيم والتماشي معها، هو أن نجاح أية مؤسسة يتوقف على مدى مقدرة الشخص المسير على خلق التأييد الشعبي لمنظمته وجعل الأفراد يتماشون مع سياستها المرسومة طواعية وبدون ضغوط خارجية. لهذا فمن الخطأ أن يعتمد أي مسؤول على القوة القانونية وحقه في اتخاذ القرارات وحدهما لكي ينجح في عمله ويصل إلى هدفه المنشود. فالسلطة كما أشرت سابقا، ظاهرة نسبية وموزعة بين مسؤولين في مختلف المستويات. ومثلما تنشأ المنظمات ويتدعم وجودها بمرور السنين، فقد يحين الوقت الذي تفقد فيه أية منظمة رصيدها القديم من التأييد الشعبي ويصعب على رؤسائها التحكم في مجرى الأمور وخاصة عندما لا تتجدد الهياكل وتصعب الإستجابة لرغبات الأفراد. وفي هذه الحالات تنشأ منظمات منافسة أو منشقة، وتنجح في جلب عطف وتأييد الشخصيات التي تناصرها وتعزز مكانتها. وهكذا تصير المنظمة الجديدة أداة في خدمة الموالين لها ويصعب فصلها عن جمهورها الذي تسدد له الخدمـات.
(*) دراسة منشورة بمجلة العلوم القانونية والإقتصادية والسياسية، جامعة الجزائر، العدد 3، المجلد 16 (سبتمبر) 1979، ص 599-616.
(**) أستاذ محاضر بمعهد العلوم السياسية والإعلام، جامعة الجزائر.
(1) الأستاذ علي محمد عبد الوهاب يرى بأن كلمة (تنظيم) (Organization) تعني شيئين : وظيفة وشكلا. فالأولى عبارة عن عملية جمع الناس في منظمة وتقسيم العمل فيما بينهم وتوزيع الأدوار عليهم حسب قدراتهم ورغباتهم والتنسيق بين جهودهم وإنشاء شبكة متناسقة من الإتصالات بينهم حتى يستطيعوا أن يصلوا إلى أهداف محددة لهم ومعروفة للجميع. أما الشكل أو هيكل التنظيم (Structure) فيقصد به الجماعات والإدارات والأقسام التي يعمل بها الناس والعلاقات التي تنظم أعمالهم بطريقة متعاونة منسقة ليصلوا إلى هدف محدد. أنظر كتابه القيم :
السلوك الإنساني في الإدارة الذي نشرته مكتبة عين شمس بالقاهرة سنة 1976 (الطبعة الثانية)، ص 82.
(1) عبد الغفور يونس، دراسات في الإدارة العامة، القاهرة دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1972،
ص 41-42.
(1) Robert N. Mc Murry, « Conflict in Human Values », Harvard Business Review, Volume 41 (July – August) 1963, pp 130-138.
(2) Luther Gulick in Basic Issues in Public Administration, Edited by Donald C. Rowat, New York : The Mc Millan Company, 1961, p 101.
(3) Philip Selznick, « Leadership in Administration », in Public Administration (Edited by Gobert T, Golembiewski), Chicago : Rand Mc Nally & Company, 1966, pp 412-419.
(1) John D. Millet, in Elements of Public Administration, (Edited by Fritz Morstein Marx), Englewood Cliffs, N.J. Prentice-Hall, Inc. 1959 (Second Edition), p 137.
(2) Victor A. Thompson, Modern Organization, New York : Alfred A. Knopf, 1961, p 8.
(1) Philip Selznick, « Leadership in Administration », in Public Administration (Edited by Gobert T, Golembiewski), Chicago : Rand Mc Nally & Company, 1966, pp 412-413.
(1) Luther Gulick, « The Division and Co-ordination of Work » in Basic Issues in Public Administration, New York : The Mc Millan Company, 1961, pp 49-55.
(1) Luther Gulick, « Notes on the Theory of Organization » in Papers on the Science of Administration (Edited by Gulick and Urwick), Columbia University, 1937, p13.
(1) Max Weber in Basic Issues in Public Administration (Edited by Donald C. Rowat), New York : The Mc Millan Company, 1961, p 95.
(1) Herbert G. Hicks and C. Ray Gullett, Organizations : Theory and Behavior, Tokyo : Mc-graw-Hill Kogakusha Limited, 1975, p 240.
(2) Weber definies power as : The Probability that one actor within a social relationship will be in a position to carry out his own will despite resistance, See : Max Weber, The Theory of Social and Economic Organization (Edited and Translated by Talcott Parsons), Glencoe, Illinois : Free Press and Falcon’s Press Wing Press, 1947, p 152.
(1) Herbert G. Hicks and C. Ray Gullêtt : Theory and Organizations : Theory and Behavior, Tokyo : MC Graw-Hill Kogakusha Limited, 1975, pp 246-248.
(1) Chris Argyris, Personality an Organization, New York : Harper and Row, 1957, p 103.
(1) Peter M. Blau and W, Richard Scott, Formal Organization, San Fransisco : Chandler Publishing Co, 1962, pp. 2-3.
(2) Herbert G Hicks, Organizations : Theory and Behavior, Tokyo : Mc Graw-Hill Kogakusha, 1975, pp. 62-80.
(1) Nicos P. Mouzelis, Organization and Bureaucracy London : Routledge and Kegan Paul, 1975, p. 101.
(2) Felix A. Negro, Modern Public Administration, New York : Harper and Row, Publishers, 1965, pp. 64-68.
(1) Herbert G. Hicks and C. Ray Gullett, Organizations : Theory and Behavior, Tokyo :
Mc Graw-Hill Kogakusha Limited, 1975, pp 130-138.
(1) Blau and Scott, Formal Organizations. San Francisco : Chandler Publishing Co, 1962, p.41.
(1) Robert Presthus, « Authority in Organizations » in The Administrative Process and Democratic Theory, (Edited by Louis C. Gawthrop), New York : Houghton Mifflin Company, 1970, p 170.