وضع استراتيجيات السياسات العامة … إلى أين؟
استراتيجيات السياسات العامة هي عبارة عن خطط وبرامج يتم تسطيرها من طرف موظفين حكوميين في الدول النامية، ومن طرف خبراء اقتصاديين في الدول الغربية.
إن الغاية الأساسية لهذه السياسات العامة هي توفير الأمن، الغذاء، الشغل، العدالة وحسن توزيع الثروة على المواطنين. فالدولة هي عبارة عن آلة عملاقة جاءت لتجسيد الأداء الجيد والمردودية المرتقبة من طرفها ومن طرف الجهاز الإداري. غير أنه في أرض الواقع، نلاحظ وجود فجوات أو تباعد بين ما تم إقراره من طرف أصحاب القرار، وبين ما تم تطبيقه من طرف البيروقراطية الإدارية. والسؤال المطروح هنا: أين يكمن الخلل؟ يتعين على المفكرين العرب أن يتناقشوا ويتباحثوا حتى يعرفوا أسباب إخفاقات السياسات العامة في بلدانهم العربية، هذا هو انشغالي في هذا البحث، وسنحاول فيه الإجابة على أسباب الإخفاقات في مجال الاستراتيجيات التي يتم إعدادها من طرف صناع القرار وتحويلها إلى الجهاز البيروقراطي ليفرغها من محتواها[1].
عدم معاقبة من يأخذ المنصب ولا يعمل
من يقرأ الجرائد الرسمية أو الظهير أو الفرمان لأية دولة عربية يشعر بالطمأنينة والارتياح لأن تلك المراسيم والقوانين تحدد معالم طريق التنمية وتشتمل على الاستراتيجيات البراقة التي تم وضعها للتغلب على الفقر ومواجهة الأزمات الحالية واللاحقة. إن التأمل في تلك الاستراتيجيات والخطط التي وضعها الخبراء في علم السياسة والاقتصاد والقانون تعطي الانطباع بأن الدول العربية في طريقها إلى إنهاء معاناة المواطن العربي من البيروقراطية والقوانين الجائرة والتسلط غير المبرر وقلة اللامبالاة باحتياجات المواطن العربي.
وفي الحقيقة أن الأكاديمي العربي الذي يغير على وطنه ويحب له الخير والتقدم والازدهار في جميع المجالات، يشعر ويحس بأن تلك الاستراتيجيات الموضوعة على الورق ناقصة وغير مجدية لأنه مقتنع بأن خبرته وكفاءته وموضوعيتة وتعامله مع السياسات العامة بواقعية، تؤهله لأن يصدر حكما مؤكدا بأن الاستراتيجيات التي لم تقم على أرض صلبة لا يكتب لها النجاح ولا تصمد في وجه الأزمات والأعاصير. لقد أثبتت تجربة المنتخبات العربية في كأس العالم سنة 2018، فشلها في التأهل إلى الدور الثاني وعادت من روسيا الفدرالية تجر أذيال الفشل والهزيمة بعد أن وضعت استراتيجيات محكمة للدخول في المنافسة على كأس العالم، لكن المدربين الأجانب (معظمهم من المتقاعدين) لم يحققوا أية نتائج إيجابية بسبب كثرة الأخطاء ونقص المهارات وضعف الأداء.
نفهم من هذا أن الإشكال يكمن في اتخاذ القرارات الفردية بسرعة فائقة والاستغناء أو عدم الاستعانة بأصحاب المهارات بسرعة فائقة والاستغناء أو عدم الاستعانة بأصحاب المهارات والكفاءات المحلية والاعتماد عليهم في كل صغيرة أو كبيرة. إنه لمن الصعب على أي متمعن في إدارة التنمية أن يفهم لماذا لا يتم الاعتماد على أصحاب الكفاءات الوطنيين بدلا من الاعتماد على المتسلقين واللاهثين وراء المناصب وجمع الثروة والنقود. إن المواطنين يرون بأم أعينهم بأن بلدانهم تزخر بالكفاءات المتواجدة في الجامعات والمؤسسات الناجحة، بالإضافة إلى مراكز الأبحاث، وفي إمكان العناصر الكفأة إحداث التغيير الملموس والإيجابي في وضع السياسات العامة الصحيحة، لكن لا يوجد من يلتفت إليهم ويستعين بهم للتغلب على الأزمات الاقتصادية والسياسية والقانونية، ولهذا تراهم يهاجرون ويهربون إلى الخارج أين يبدعون ويجدون البيئة المناسبة لإظهار مهاراتهم الاقتصادية للبلدان التي تثق في مهاراتهم وقد رأتهم على خدمة البلدان التي احتضنتهم ووفرت لهم الظروف الجيدة للعمل والقيام بالمبادرات المثمرة.
مصداقية مؤسسات الدولة تتوقف على وجود سياسات محلية متماسكة
مشكلة الدولة النامية الحديثة أن العولمة التي تحكم قبضتها على الدولة الوطنية وتغرق أسواقها الوطنية بالمنتوج الأجنبي، تلحق الضرر باقتصاد الدولة الوطنية بحيث يصعب على الإنتاج المحلي أن يتنافس مع الإنتاج المستورد، ومعنى هذا أن سياسات العولمة لا تستهدف إزالة القيود الاقتصادية فقط وإنما تستهدف أيضا إزالة فعالية قوانين الدولة الوطنية[2].
المشكل الرئيسي في استراتيجيات التنمية الاقتصادية والسياسية في البلدان النامية أنها تعتمد على الحصول على المساعدات الخارجية وقلة التركيز على المبادرات الداخلية وعدم وجود خطط مضادة من داخل هذه البلدان. الشيء الغريب في الأمر أن الدول النامية لا تقتدي بالدول المتقدمة وتعطي أهمية كبيرة للسياسات الداخلية وتتعامل بمهنية مع المشاكل التي يواجهها المجتمع المحلي، بل تماطل وتعمل على إبقاء المؤسسات الداخلية مشلولة لأنها لا تستطيع أن تخرج عن الأطر القانونية لأن الجهات العليا هي المسؤولة عن تعديل أو تغيير القوانين وذلك يتطلب وقتا كبيرا ومشاورات قصيرة وقد تكون طويلة.
وانطلاقا من هذه الحقيقة نقول أن الاستراتيجيات الفوقية غير مجدية ولا بد من إفساح المجال أمام المهارات والكفاءات المحلية والاعتماد عليهم في كل صغيرة وكبيرة، بدلا من الاعتماد على الرسميين المعينين واللاهثين وراء المناصب وجمع الثروة والنفوذ، والشيء الأكيد أن هناك قيادات محلية ذات كفاءة متواجدة بكثرة في الجامعات ومراكز الأبحاث وفي إمكان هذه الكفاءات إحداث التغيير الملموس والإيجابي عن طريق وضع سياسات قطاعية في كل المؤسسات، لكن على الأزمات الاقتصادية والسياسات والقانونية.
ولهذا تراهم يهاجرون ويهربون إلى الخارج أين يجدون البيئة المناسبة لإظهار مهاراتهم الحقيقية في التنمية السياسية والاقتصادية للبلدان التي تثق في مهاراتهم وقدراتهم على خدمة البلد الذي احتضنهم ووفر لهم الظروف الجيدة للعمل والقيام بالمبادرات المثمرة.
تغيير السياسات العامة بالمراسيم … وكفى !
من يتابع الاجتماعات المتتالية للهيئات الحكومية في كل بلد عربي لدراسة مشاريع السياسية العامة المعروضة على بساط البحث لاتخاذ قرارت بشأنها، يشعر أن قيام أعضاء الحكومة بواجباتهم واتفاقهم على إصدار القرارات والمراسيم الخاصة بحل المشاكل العالقة، يبشر بالخير وأن المشاكل المدروسة قد تم حلها بصفة نهائية وأن الفرج سيكون عن قريب. غير أن النتائج المحصل عليها في الميدان تجعل الإنسان يشعر بالذهول والإحباط. ففي مارس 2008، مثلا، أطلق رئيس الدولة الجزائري برنامجا خاصا بالإنعاش قيمته 150 مليار دولار أمريكي، وبعد انتهاء فترة إنجازه، تبين له أن النتائج سلبية وأنه لم يعد يعرف الخلل في سياساته العامة. فقد قال لأحد مقربيه:”لقد عملت كل ما أستطيع وما زلت أرى هذا الكم الهائل من المشاكل … لم أجد من ينفذ برنامجي بالطريقة التي أريدها”[3]
وفي نفس السياق أبدى رئيس حكومته انزعاجه من وجود مشاكل وقلاقل في عدة وزارات، وقال: “كلما تحصلت على مزيد من الأموال كلما تضخمت فيها المشاكل، وأشار بالتحديد إلى وزارات الصحة والفلاحة والتجارة والتضامن والتشغيل والعمل والصناعة والشؤون الدينية’[4].
إن المتمعن في هذه الانشغالات التي تقلق كبار المسؤولين في دولة مثل الجزائر، تدفع أي مواطن للتساؤل: لماذا تتعثر السياسات العامة التي تصدر في شكل مراسيم. الغريب في الأمر، أن الموظفين، على مستوى البلديات والولايات، لا يتحركون ويعملون إلا حين تصل الأخبار إلى مسامعهم بأن كبار المسؤولين في الدولة سيقومون بزيادات مفاجئة، حيث يهرعون لتزيين المدن وإنجاز المشاريع المبرمجة للتدشين وإظهار الجدية في نجاح السياسات المرسومة من طرف الحكومة.
هل معنى هذا أن المسؤولين المعينين لتنفيذ السياسات العامة لا يتحركون ولا يحرصون على تنفيذ السياسات العامة إلا إذا زارهم ميدانيا من يملك حق إصدار المراسيم وذلك خوفا على مناصبهم وتجنبا لتنحيتهم وعزلهم بجرة قلم؟. إن هذا السلوك الغريب يثير تساؤلات عدة. لماذا تبقى السياسات العامة التي صدرت في شكل مراسيم حبرا على ورق وكل ما يهم الموظف الحكومي هو تفانيه في المحافظة على منصبه وعلى المزايا الوظيفية التي يتمتع بها؟
وبناء على ما تقدم، نستخلص أن مشكل السياسات العامة لا يكمن في القوانين والأموال والتجهيزات، وإنما يكمن في غياب آليات العمل والعناصر البشرية المؤهلة أو المتخصصة. وفي هذا السياق تشير بعض الدراسات إلى أن عدم استغلال رأس المال البشري بطريقة فعالة، هي المشكلة الرئيسية التي تواجه الدول النامية بصفة عامة. ولذلك نجد علماء الاقتصاد والسياسة في البنك الدولي يشيرون إلى أن الأبحاث التي أجروها على 192 دولة بالأمم المتحدة تبين أن رأس المال المادي لا يمثل في المتوسط سوى 16% من إجمال الثروة وأن رأس المال الطبيعي يمثل 20% بينما أهم من الإثنين هو رأس المال البشري الذي يمثل 60% من الثروة الإنتاجية[5].
إن الأشكال في بلداننا النامية يكمن في هشاشة المؤسسات حيث لا يوجد تحديد للصلاحيات وتقاسم المسؤوليات بين جهات سياسية تضع السياسات العامة، وجهات متخصصة تشرف على تنفيذها بمهنية عالية. كما أن أسلوب هيمنة السلطة المركزية على المؤسسات المحلية وتكليف أفراد حزبيين بتسيير البلديات والولايات، بعد تزكيتهم من طرف أحزابهم والمنتمين لعصب معينة على المستوى المحلي والوطني، لازالت إلى اليوم هي الطريقة المستعملة لتسيير المؤسسات البلدية والولائية. والعيب في الحقيقة ليس فقط في انتقاء أو انتخاب أفراد يغلب عليهم هاجس السياسة والسعي بجميع الوسائل للارتقاء إلى مناصب عليا في الدولة، لكن الخطأ الفادح يكمن في التنظيم الحالي وعدم وجود ميكانيزمات أو آليات ذات مصداقية لتنفيذ السياسات العامة التي تم إقرارها من طرف المجالس المنتخبة أو الوصاية.. ولهذا، فإن الجدية في العمل وتنفيذ برامج رئيس الدولة بفعالية ومهنية احترافية يتطلبان تغيير نظام البلديات والولايات والمؤسسات التابعة للدولة بحيث يتم خلق ميكانيزمات ذات مصداقية لتنفيذ السياسات المسطرة من طرف القيادة بكفاءة عالية في إطار نظام فعال بعيد عن المتسلقين والمدمنين على التربع على كراسي المسؤولية، بدون مؤهلات علمية أو كفاءات مهنية مفقودة.
تغيير السياسات العامة يصطدم بالقوانين الظرفية
لو سألني أي إنسان، ما هو المشكل الصعب الذي تصطدم به مسألة عملية وضع استراتيجية فعالة للسياسات العامة في بلداننا العربية، لقلت له بأن الخلل الكبير يكمن في النظرة الخاطئة للقوانين وتقديسها والالتجاء إليها لمعالجة الأزمات في تنفيذ السياسات العامة. والبرهان على ذلك ما قاله رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في خطاب له بولاية تيبازة بعد إعادة انتخابه ” بأن الجزائر يعشعش فيها الفساد… وأن العصابات (Bandits) تتحكم في سوق الاستيراد بالقوة، أحينا، والإرهاب، أحيانا أخرى… والاحتكارات الفردية للسوق تتم على أساس النصوص القانونية للجمهورية … إن الضمانات والتسهيلات تعطي لهذه العصابات من البنوك. ولهذا فالجزائر الآن في مستنقع ملوث، وهي في حاجة إلى تطهير قبل أن يتم تسييرها من طرف أفراد نزهاء.[6] كما أشار رئيس الجمهورية إلى وجود مافيا سياسية مالية، تتشكل من 12 شخص يحتكرون التجارة الخارجية.
إن هذا الاعتراف باستغلال قوانين حكومية صادرة عن القيادة المركزية للدولة، تثبت أن القوانين في جوهرها، ما هي إلى وسيلة عمل، وليست قرآن أو تنزيل من حكيم حميد.
إن المشكلة في ذهنيتنا وتفكيرنا واعتقادنا أن القوانين مقدسة، وأن احترام النصوص القانونية وتطبيقها حرفيا هو الطريق السليم للعمل. وفي الحقيقة أن ما ينبغي عمله والاقتناع بجدواه هو رفع الحظر عن المبادرات الفردية والجماعية، وإعطاء كل مؤسسة حرية العمل وفق قوانينها الداخلية بحيث يكون في إمكانها تعديل نظام عملها وإثراءه أو إلغائه إذا اقتضى الأمر ذلك، بدون الرجوع إلى الوصاية أو المؤسسات المركزية التي تتحكم في كل شيء عن بعد وهي غير دارية بما يجري في بيئة العمل.
وباختصار، فإن المشكل يكمن في عدم وجود الثقة في المؤسسات التي من الفرروض أن تكون لها ميزانياتها الخاصة بها، وعليها أن تتصرف فيها كما تشاء، وهي مسؤولة عن نتائجها إيجابا أو سلبا. وفي هذا الصدد دعني أعرج على مشكل النقل العام أو نقل الطلبة في الجزائر، مثلا. إنه لمن الواضح أن الحكومة الآن تسعى بجميع الوسائل المتاحة لها، تخصيص قطاع النقل العام والتخلي عنه للقطاع الخاص الذي يعرفه العام والخاص بأنه يلهث وراء الربح السريع و تكديس الثروة. كما أنها قامت بالتعاقد مع القطاع الخاص بتأجير حافلات لنقل الطلبة لا يعلمها إلا الله ما إذا كانت تذهب الحافلات وتأتي فارغة أم ممتلئة. ولكن الشيء الأكيد أن هذه الحافلات خلقت ازدحاما كبيرا في الطرق وشكاوي منها وصلت إلى العدالة. ونحن هنا نتساءل: لماذا نقل موحدمثلما هو الحال في فرنسا، مثلا، حيث توجد مؤسسات حكومية للنقل، سواء كانت حافلات، قطارات، أو سكك حديدية، وكلها توفر النقل الجيد للطلبة والمواطنين الذين يشترون بطاقة واحدة، للنقل بهذه الوسائل؟ إنها مؤسسات تابعة للقطاع العام … وناجحة 100%، وكل واحد يصل إلى مؤسسة في الوقت، ويدفع من جيبه إلى المؤسسة ثمن اشتراكه أو تذكرة سفره. وبالتأكيد، إن ما تحصل عليه مؤسسات النقل التابعة للقطاع العام، تكون كافية لتجديد الحافلات وتكييفها إذا اقتضى الأمر ذلك.
والسؤال المطروح هنا: لماذا تتجه سياساتنا العامة إلى اهمال القطاع العام ودفعه إلى الإفلاس والتخلص منه بسرعة فائقة، في حين تعمل دول أخرى على إنجاحه، وتسهيل تنقل المواطنين والطلبة ومساعدتهم على دفع أثمان معقولة للتنقل؟ إن الشيء الأكيد هو أن قانون التعاقد مع القطاع الخاص، سيسهل عملية امتصاص أموال الدولة والاستفادة من تجارة رابحة وتضخيم الفاتورات والتحايل على قوانين الجمهورية للحصول على صفقات مربحة.
ثم إن إصدار القوانين والمراسيم والتعليمات من أعلى، وحتمية تطبيقها على جميع المستويات في المؤسسات، قد يخلق مشكلا آخر في مجال انتهاج السياسات العامة. إن القوانين التي تصدر من هيئات عليا، لا يمكن معاقبة من يعمل بها إذا أخطأ، وإخضاعه للتحقيق والمتابعة القضائية لأن تلك الهيئة تعتبر رمزا من رموز الدولة والمس بها يعتبر بمثابة تحطيم مصداقية الدولة أمام الرأي العام. إنني تعمدت أن لا أقول أن كبار الشخصيات في الدولة، بصفة عامة، يتمتعون بحماية قانونية وعلاقات مع من ساعدوهم على الجلوس على كراسي القيادة، ولكنه واضح أن التخلي عن حصان رابح، عملية صعبة.
وباختصار، فإن القوانين التي ينظر إليها أنها أساسية للعمل، تفقد خصوصيتها ويبطل مفعولها، إذا كانت تتعلق أو تمس بشخصيات في أعلى هرم السلطة، لأن المنفذين للقوانين لا يستطيعون أن يسبحوا ضد التيار ويعاقبون رؤسائهم إذا أخلوا بالقوانين.
وما يهمنا في هذا الموضوع، أن الاعتبارات السياسية وعدم كشف أسرار العمل في الدولة، قد تنعكس سلبا على سياسات الحكومة، وهذا يقودنا إلى القول بأن اعتماد كل مؤسسة على قانونها الداخلي ومحاسبة كل مسؤول فيها وفقا للقانون الداخلي للمؤسسة، هو المخرج الحقيقي والوحيد لهذه المعضلة. إنه من السهل تطبيق القوانين على مستوى المؤسسة التي وقع بها الحادث الذي يعاقب عليه القانون.
إن ما نهدف إليه من هذا الكلام هو أن قوانين تسيير المؤسسات ينبغي أن تكون مفصولة عن السياسة وبعيدة عن التدخلات الفوقية، لأن الوصاية هي التي قد تستغل القوانين لإفراغها من محتواها واستعمالها لأغراض ذاتية ومنافع شخصية.
الاستئثار بالقرار هو سبب الخلل في صياغة السياسات العامة
المشكل الرئيسي في عملية رسم السياسات أن هناك عدة جهات أو جماعات أو شرائح اجتماعية تسعى لنيل نصيبها الكبير من الثروة والمنافع والمزايا التي تحصل عليها يوم يتم إقرارها من طرف السلطات العليا بالبلاد. وعليه، فإن مشاكل السياسات العامة يكمن في التنافس الحاد بين الجماعات والهيئات القوية في كل بلد وأصحاب النفوذ هم الذين يحصلون على النصيب الأكبر من الثروة، لهذا تظهر قيمة الفرد القوي الذي يفصل في قرارات توزيع الثروة.
من الناحية النظرية، فإن الأطراف الرسمية الحكومية المتمثلة في السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، بالإضافة إلى الأطراف غير الرسمية مثل الجماعات الضاغطة، الأحزاب السياسية والرأي العام. غير أنه من الواضح، أن السلطة التنفيذية هي التي تستأثر برسم السياسات العامة. إن دور السلطة التنفيذية لا يمكن إخفاءه، إذ أن الشعوب تعيش عصر هيمنة السلطة التنفيذية بسبب الاعتماد بشكل كبير على القيادة التنفيذية في رسم سياسات والإشراف على تنفيذها في نفس الوقت. ولهذا، فإن أنظار الناس تتجه باستمرار إلى القيادة وما تفعله. إن القيادة تتحمل المسؤولية شبه الكاملة على كل ما يحصل في الميدان، أي عند تطبيق القوانين على المجتمع. إن أفراد المجتمع ينظرون باستمرار إلى السلطة التنفيذية لأنها هي التي تقوم بتنظيم الصراعات الاجتماعية. ولهذا فإن مشاركة جميع الفئات الاجتماعية في صنع السياسات العامة تعتبر قضية جوهرية في مسألة صياغة أي قرار يتم الاتفاق عليها من طرف الفرقاء في أي مجتمع. إن اتفاق القوات الاجتماعية الفاعلة في البيئة الداخلية هو الذي يسهل عملية تطبيق القوانين التي تصدرها الحكومات.
المشكل في سياساتنا العامة في الوقت الحاضر هو أن الدولة تتجاهل آراء ووجهات نظر الفئات التي لا تقبل الخضوع لإرادة قادة السلطة التنفيذية وتزكية أية سياسة تخدم مصلحة الحكومة، أولا، وقبل كل شيء. فمن يعارض السياسات الحكومية يتم تجاهله وعدم الاستماع إلى انشغالاته، ومن يظهر مناصرته وتأييده لسياسات الحكومة يتم تبجيله والسماح له بتوظيف أجهزة الإعلام لقضيته. ونستخلص من ما تقدم، أن السياسات الحكومية، بصفة عامة، تقوم على أساس تغييب القوى المعارضة وإقصائها من المشاركة في وضع سياسات عامة تخدم المجتمع وتساعد على خلق دعم سياسي من الجماعات التي تظهر استقلالها عن القيادة السياسية الحاكمة. والسؤال المطروح هنا: ما فائدة أن تكون الحكومة قوية والجماعات المهنية والأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية ضعيفة وخاضعة للجماعة الحاكمة؟ ثم، ما هي قيمة تغيير وقيادة المجتمع بمراسيم حكومية؟ هل أحقية الحكومة في إصدار القوانين التي يسري مفعولها على جميع المواطنين يضمن لها تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية؟.
إن المفكر العربي الذي يحترم نفسه وشعبه وقيمه العربية الإسلامية لا يستطيع أن يجيب بالإيجاب على هذه الأسئلة المطروحة، ولا بد أن يقر أو يعترف بأنه غير قادر على تجسيد أفكاره في أرض الواقع، حتى ولو كانت جيدة وصائبة. ولهذا فإن الأمانة العلمية تقتضي القول أن العدالة موجودة بالفعل في القواميس ولكنها مغيبة أو غائبة في المجتمعات النامية بسبب تهميش الجماعات الواعية بقضايا أمتها وتهميشها عن طريق السلطات العليا في البلد. فمن يخرج عن تلك القوانين يعرض نفسه للمساءلة ويتهم بالتطاول على قادة بلاده الذين يحيطون أنفسهم بهالة من القداسة لا تقبل النقد أو الجدل، والبعيدون عن كل رقابة.
إنه لمن الواضح، أن مسألة إنصاف الناس وتحقيق العدالة الاجتماعية وخلق الطمأنينة في نفوس المواطنين، هي قضايا حيوية لكل مجتمع، ومن الصعب منازعة القيادة الحاكمة فيها أو مجابهتها. إن عملية إصدار القوانين وتطبيقها تنبع من الحكومة التي تملك جيشا كبيرا من الموظفين التابعين لها والذين يتقاضون رواتب عالية منها جزاء لهم على تنفيذ قوانينها ومعاقبة من يعترض على سياساتها المقررة بصفة رسمية.
إن الواقع يفرض علينا هنا، أن نتوقف لحظة عند الجهات التي كان من المفروض أن تتحرك وتطالب بالمشاركة في صياغة السياسات العامة ولا تسكت عن انفراد السلطة التنفيذية بوضع وتنفيذ السياسات العامة. إنها بدون شك، الأحزاب والنقابات والرأي العام، لأن أعضاء السلطات الحكومية من الهيئتين التشريعيتين والسلطة القضائية، قد يتفاهمون فيما بينهم على وضع سياسات معينة بحيث لا يطفو على السطح أي انشقاق أو خلاف يزعجهم ويخلق استياء لدى المواطنين. فالأحزاب والنقابات الوطنية، هي المعول عليها لتغيير السياسات وقيادة حرية التعبير وتخليص البلاد من هيمنة الحزب الواحد ومن معارضة قادته للإصلاحات الليبيرالية، ولو أن الإصلاحات هي دائما مصحوبة بعقلية قديمة وهي أشبه بالمساحيق التجميلية التي توضع بين الحين والآخر بقصد إخفاء تجاعيد وجهها.
غير أن تجربة التعددية الحزبية في الجزائر منذ دستور 23 فبراير 1989، قد أثبتت عدم فعاليتها ووجودها باهت على خريطة الفعل السياسي. فالمحلل الثاقب النظر يرى أن هناك تراجعا كبيرا في المشهد الحزبي والنقابي. إن مشكل الأحزاب أنها تجمعت حول أشخاص وليس حول أفكار، والهدف الرئيسي لهؤلاء الأشخاص هو اختزال الفعل والممارسة في مجرد احتلال مواقع، والظفر ببعض الحقائب الوزارية تحت طائلة أن النضال الديمقراطي لا معنى ولا قيمة له إذا لم يفض ويؤدي مباشر إلى السلطة[7]
في بداية التسعينات من القرن الماضي راهنت فئات اجتماعية عديدة على نجاح الأحزاب في زرع مفاهيم المواطنة والوطنية وبناء المجتمع العادل والدولة الديمقراطية، وتحمست للبرامج والسياسات العامة والشعارات البراقة، والتزمت بالقضاء على المشاكل المتمثلة في البطالة والفقر والزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية وتنامي الفوارق الاجتماعية والجهوية. لكن بعد تجربة ما يقارب عشرين سنة من الممارسة، أثبتت الأحزاب أنها غير قادرة على الوفاء بوعودها، وفكت ارتباطها بالشعارات التي رفعتها، وضربت عرض الحائط بالمبادئ التي تعهدت الالتزام بها في عملها. إنها غير قادرة على المبادرة والابقاء على صلة قوية بالمواطنين والتعبير عن طموحاتهم، ولا ترغب في إحراج السلطة حتى لا تفقد المعونات المالية في الانتخابات الوطنية والمشاركة في التظاهرات الاحتفالية.
وكيف كان الحال، فإن معظم الحكومات التي لجأت إلى الإصلاحات السياسية والحزبية والاقتصادية قد اكتشفت أن نظام الحكم قائم على أرضية صلبة، ويسير وفق معايير إيديولوجية تسيطرعليها فئة حزبية وحيدة، تضع ما تراه مناسبا من برامج، وتنسف ما لا يتوافق مع تفكيرها، وبالتالي، ما يتناسب معها، ينتقل تدريجيا إلى واقعة سياسية تتماثل مع رؤيتها السابقة المبنية على النفعية المتحصلة من الأمر الواقع. وفي نفس الوقت تسعى نفس الفئة الحزبية لإحلال هالة من القداسة لا تقبل النقد أو الجدل، على رؤوس زعمائها البعيدين عن أية رقابة، بحيث لا يجوز إلحاق الضرر بهم، وبالتالي، فإن خطة الدفاع تعتمد دوما على التمركز حول القيادة.
نستخلص من ما تنقدم، أن تغيبر السياسات العامة ينبع من القيادة وليس من برامج الأحزاب والنقابات. إن تراجع شعبية الأحزاب التقليدية وإحجام الناخبين عن المشاركة في المناسبات الانتخابية أفسح المجال أمام جهاز السلطة لكي يمرر أي تغيير يراه القائد لازما.
كما أن ديناميكية العولمة قد أخرجت القرارات الحيوية من نطاق الغرف التشريعية الوطنية إلى قاعات الشراكة الدولية. ففي دول أوربا الشرقية وخاصة روسيا نلاحظ أن الاقتراع التعددي يجري بطريقة عادية والانتخابات تتم بطريقة نزيهة، بدون أن تتغير تركيبة السلطة الفعلية.
ضرورة إعادة النظر في سياسة التكاثر السكاني
بكل تأكيد، أن الحكومات الإسلامية والعربية لا تبالي ولا تهتم بتكاثر الأولاد والإلقاء بهم في الشوارع، وفي نهاية المطاف يطالب الأولياء حكوماتهم بتوفير التعليم والعناية الصحية والسكن لهم. وحسب معلوماتي، لا توجد حكومة عربية أو إسلامية قد وضعت إستراتيجية عملية لتحديد النسل والاعتراف بعدم قدرتها على توظيف أو تشغيل هذا الكم الهائل من البشر، بالإضافة إلى صعوبة الاستجابة لحاجيات الشباب والتحكم فيهم من قريب أو من بعيد، مع العلم أن الدين الإسلامي يسمح بتعدد الزوجات ولكن لا يفرض علينا الكثرة المبالغ فيها في الإنجاب، وخاصة إذا كنا غير قادرين على توفير السكن المناسب والعناية الصحية والتعليمية للأطفال. إن الإنسان يتساءل هنا: لماذا لا توضع إستراتيجية فعالة لتحديد النسل حتى تستطيع كل دولة أن توفر التعليم والعمل والتدريب لكل شاب وشابة؟ إن الغزارة في إنتاج البشر بدون وجود قدرات مالية كافية قد خلقت ارتباكات اجتماعية ترتب عنها صرف أموال كثيرة وفرار العاطلين عن الشغل إلى الخارج، وانتشار الجرائم والتهافت على المنح العائلية لتغذية الأطفال. إن التحكم في زيادة النسل تفرضه الضرورة، فالصين الشعبية التجأت إلى تطبيق هذه السياسة وفرضت على سكانها تحديد العدد، بينما نلاحظ أن فرنسا في عهد ديغول قد شجعت العائلات على إنجاب أكثر من طفل للحصول على المنح العائلية، نظرا للنقص في الكثافة السكانية، وفي كوريا الجنوبية قررت الحكومة انتهاج سياسة تشجيع العائلات على كثرة الإنجاب بعد أن اخفض العدد السنوي إلى 360 ألف نسمة. ما هو غائب في مجتمعاتنا العربية هو وضع إستراتيجية التحكم في الكثافة السكانية والتركيز على النوعية وانتهاج سياسات اجتماعية عادلة ذات مغزى حضاري وواقعي.
الخلل في توطين التكنولوجيا ومخابر البحث العلمي
ليس هناك جدل بأن الدول العربية غير قادرة على مواكبة التطور التكنولوجي وتسهيل المعيشة للمواطنين العرب. ومن يتمعن في نتائج استطلاعات الرأي العام عن تقييم الجامعات العربية سيلاحظ أننا في آخر قوائم الترتيب لأننا نعاني من اللامبالاة وعدم احترام المقاييس الدولية للبحث العلمي. وفي كثير من الأحيان يضع المسؤولون الكبار استراتيجيات هائلة لتوطين التكنولوجيا على الورق، وفي أرض الواقع لا يتم تجسيد الإستراتيجيات بسبب التلاعب في الاستثمارات المخصصة لذلك، وعدم الاعتماد على الخبراء المختصين في تلك البرامج المسطرة من قبل السلطات العليا. إننا نلاحظ، مثلا، في مخابر البحث العلمي المعتمدة من طرف وزارة التعليم العالي بأنها جاءت لدراسة وتوطين برامج التعليم العالي وتدريب طلبة الدكتوراه وإنتاج المراجع العلمية للتدريس. غير أن الذي يحصل أن معظم المخابر في العلوم الاجتماعية ليس لها مكاتب أو مقرات للقيام بواجباتها والأساتذة الباحثون ليس لهم مكاتب لتدريب الطلبة والأموال تصرف بطريقة فوضوية وتقييم الإنتاج العلمي يقوم على أساس براءة الاختراع والتعاقد مع المؤسسات الدولية المرموقة في عالم التكنولوجيا !! .
إن نظام الإدارة بالأهداف مغيب تماما، والجامعات تطلب من المخابر العلمية توطين برامج التعليم بها مع أنها لم تخصص مكاتب لهذه الهيئات العلمية.
السياسات العامة تصنع من أعلى أو من أسفل
من الأشياء الغريبة التي تزعج الباحث العربي، هي مسألة وضع السياسات العامة للدولة، هل يتم وضعها من أعلى أو من أسفل؟
إن من يقرأ دساتيرنا (والحمد لله أن جميع دولنا العربية، تتمتع بوجود دساتير مكتوبة، ولسنا مثل بريطانيا العظمى التي ليس لها دستور مكتوب) سيلاحظ أن هناك فقرات في دساتيرنا تشير إلى أن الشعب هو صاحب السيادة، وهو المرجع، واختياراته في الانتخابات هي التي تسود، لكن الواقع يثبت عكس ذلك حيث أن قادة الأحزاب لا يأبهون ولا يستشيرون المواطنين في مسألة وضع السياسات العامة التي تخدم مصالح الشعب وإنما يستغلون هيبتهم ومكانتهم الاجتماعية وأفكارهم الشخصية لفرض أنفسهم على المجتمع. وعليه، فالشعب ليس هو المرجع عند وضع السياسات العامة، وإنما المرجع هو قائد الحزب الذي يسعى لتحقيق الأهداف التي اقتنع بها ورسمها لنفسه. ولهذا، فإن ما نقوم بتدريسه في العلوم السياسية وإعطاء انطباع للطلبة بأن الشعب هو صاحب السيادة وفقا للدستور، هو خطأ شائع والصحيح أن السياسات العامة تنبع من أعلى وليس من أسفل.
وخلاصة القول، أنه من السهل وضع الاستراتيجيات وتحديد معالم السياسات العامة بدقة لأن المعلومات متوفرة في كل ميدان من ميادين المعرفة . نحن في حاجة ماسة إلى خلق آليات أو ميكانيزمات لكشف الغش والتحايل واستنزاف الثروات واختلاس الأموال والتهرب من المسؤوليات ولسنا في حاجة إلى التلذذ بوضع الاستراتيجيات وإصدار القوانين وتقديسها ثم تكديسها. إنه من الأفضل لنا، إذا أظلمت الدنيا في وجوهنا أن نكون واقعيين في التعامل مع الاستراتيجيات وأن لا نستسلم لليأس ونكتفي بلعن الظلام، بل يجب علينا أن نضيء شمعة لتبديد الظلام الذي يحيط بنا ونعيد الثقة لكفاءاتنا والطمأنينة والأمل لأبنائنا في مؤسساتهم الوطنية.
إنه لمن الواضح أن مشكل السياسات العامة يكمن أساسا في عدم جدوى مشاريع التنمية الاقتصادية، وننسى في معظم الأحيان، أن الاقتصاد (الذي يقوم على المهارات والكفاءات والمبادرات) تحكمه السياسة، ومن الصعب الفصل بينهما. وفي الحقيقة أن القرار السياسي هو المسيطر ويحتكره رئيس الدولة الذي يتمتع بصلاحيات كبيرة يخولها له الدستور. إن القائد السياسي هو الذي يهيمن على القرار الاقتصادي من حيث أولويات الإنفاق وتوزيع الثروة وتخصيص الموارد المالية لكل قطاعات الدولة. إنه ينفرد باتخاذ القرارات الإستراتيجية، ولا يعود بالضرورة إلى أهل الخبرة والكفاءات والمهارات في حل الأزمات الاقتصادية وتوزيع الثروة ونشر العدالة الاجتماعية. والسؤال المطروح هنا: متى نضع حدا لأولوية السياسة على الاقتصاد؟
[2] لطفي العبيدي، “النظام الرأسمالي ومأزق الدولة الوطنية “القدس العربي، العدد الصادر يوم 06/07/2018
[3] المحقق، العدد 105، الصادر بتاريخ 15-21 مارس 2008، ص 24.
[4] نفس المصدر الأنف الذكر
[5] آفاق جديدة في التنمية البشرية والتدريب، القاهرة: المنظمة العربية للتنمية الإدارية، 2007، ص12.
[6] El Watan, du 8 Avril, 2008
[7] عبد الصمد بن شريف، الحياة، 9 فبراير 2006