مراجعة كتاب
الجزائر الجديدة
بقلم جوستين جوشيم
عرض وتلخيص : عمار بوحوش.
“جوستين” اختار عنوانا براقا ومثيرا لكتابه في حين أن الحقائق التي اشتمل عليها الكتاب قد أصبحت كلها قديمة وبالية. فالفترة التي أجرى فيها المؤلف أبحاثه قد بدأت غداة استقلال الجزائر في سنة 1962 وامتدت إلى نهاية 1963. لقد حاول الكاتب تحليل الوضع الجديد بالجزائر على ضوء ميثاق طرابلس واتفاقية إفيان (وخاصة كيفية استغلال الثروة في الصحراء). وفي الحقيقة أن هناك بعض التعديلات والتغيرات التي طرأت على هذين الوثيقتين. فميثاق الجزائر الذي جاء عقب ميثاق طرابلس واتفاقية 1965 الخاصة بالبترول، قد أدخل تعديلات هامة على كيفية استغلال الوطنية في الصحراء بين الجزائر وفرنسا. وكيفما كان الحال، فان السيد “جوستين” قد بذل أقصى جهده ليعطي صورة صادقة عن سير الأمور في الجزائر حسبما شهد واستنتج من دراساته.
إن أول شيء استهل به الكاتب حديثه عن الجزائر هو مبادرته بأن يهمس في أذن القارئ، بأسف شديد أن الجزائريين قد عاشوا طيلة حياتهم تحت النفوذ الأجنبي ابتداء من اليوم الذي وجدت فيه الجزائر إلى يوم تحريرها.
ومن هنا يشرع المؤلف في سرد قائمة طويلة عن الدول والحضارات التي شهدتها شمال أفريقيا، ولكن الحضارة الوحيدة التي رسخت في هذه المنطقة هي الحضارة العربية التي امتدت على الجزائر في منتصف القرن السابع الميلادي. والسيد “جوستين” لم يتوانى ولو لحظة واحدة ليلفت نظر القارئ إلى أن أقطار المغرب العربي الثلاثة : تونس، الجزائر، المغرب لم تأخذ شكلها الحالي إلا في منتصف القرن الثالث عشر حيث أصبحت فاس عاصمة لدولة المغرب وتلمسان عاصمة دولة الجزائر وتونس عاصمة الدولة الحفصية. والموقع الجزائري الإستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط جعل الجزائر هدفا للغارات الأسبانية من وقت لآخر. فمضايقة الإسبانيين لأهل الجزائر ومحاولتهم المتكررة للاستيلاء على مدينة الجزائر قد دفع سكان هذه المدينة إلى إقامة حلف للدفاع عن المدينة مع أخوين من أصل يوناني و تركي، عروج وخير الدين، ضد الإسبانيين والتخلص من تهديداتهم وإزالة نفوذهم في منطقة شمال إفريقيا. وبالفعل فقد تمكن خير الدين سنة 1569 من إلحاق هزيمة بالأسطول الإسباني وإزالة الخطر الإسباني بصفة نهائية.
وكما هو معروف، فإن خير الدين قد حصل على لقب “باي البايات” من الخليفة العثماني وأصبحت الجزائر جزاء من الإمبراطورية العثمانية عقب ذلك إلى سنة 1930.
ولعل الشيء الذي تجدر الإشارة إليه هنا، في رأي محرر هذه الكلمات، أن بعض الأتراك لا زالوا يؤمنون بأن الجزائر تعتبر أحد الأجزاء المسلوبة من الإمبراطورية العثمانية! والمؤلف لم يطل الحديث عن ماذا حصل سنة 1567 و 1830 لأنه من الواضح أن الأسرة الملكية (بوربون) بفرنسا كانت تتخبط في أزمة سياسية وتخوض معركة خاسرة ضد النواب البورجوازيين ولم يبق أمامها إلا أن تبحث عن انتصار لها في الخارج لتهويل إتجاه الرأي العام والحصول على التأييد اللازم للبقاء في الحكم. وسقوط الجزائر في أيدي فرنسا تلاه سقوط أسرة (بورون) والإطاحة بالحكم الملكي الرجعي.
ومن إنطباعات المؤلف عن الجزائر أن نخبة هامة من سكان الجزائر المستقلة الآن متطبعة بالطابع الأوروبي في كل شيء ولا يوجد هناك أي شيء يفصل بينها وبين المجموعة الأوروبية سوى الملامح الوطنية. ومن الأمثلة التي ضربها لتأكيد صحة كلامه، هو المجلس الوطني الذي كان يعتبر السلطة التشريعية العليا في الوطن.
فمن جملة 194 نائبا بالمجلس، كانت هناك “حفنة“ فقط (إثنين أو ثلاثة) من الذين يتكلمون باللغة العربية، أما الباقي، وهي الأغلبية الساحقة، فإنهم يتكلمون بطلاقة باللغة الفرنسية. وفي رأيه الخاص أن السماح للجزائريين بتعلم اللغة الفرنسية يعتبر إحدى المزايا الكبرى التي أنعمت بها فرنسا على الجزائر.
فتعلم الجزائريين هو الذي أدى إلى فشل فرنسا في محاولاتها لتوطيد قدمها في الجزائر. وهنا يبدو أن المؤلف لم يضع في اعتباره حقيقة هامة وهي أن هدف فرنسا من السماح لبعض الجزائريين بالتعلم هو محاولة صهرهم في الحضارة الفرنسية والقضاء على تراثهم الوطني حتى يتسنى لها المحافظة على الجزائر إلى الأبد. لقد غاب على ذهن المؤلف أن أبناء الجزائر قد حرموا من تعلم لغتهم القومية، وهذا شيء إنفرد به غلاة الإستعمار في الجزائر دون بقية المستعمرين على الكرة الأرضية! إنه لا يسع الإنسان إلا أن ينصح المؤلف بإلقاء نظرة على مقال شيق كتبه الأستاذ إدوين كروب بجامعة ولاية أريزونا في مجلة “ذي فرينش ريفيو“ The French Reviw الصادرة في ديسمبر 1966. ففي هذا المقال تطرق الأستاذ كروب إلى تحليل نفسية ذلك الجزائري الذي كان هو محور حديث ألبير كامو في قصته المسماة بـ “ الضيف“. لقد ذكر أن نفسية الجزائري كانت محطمة ومعقدة لسبب بسيط وهو “أن هذا الإنسان وأبناء شعبه قد كانوا يعاملون من طرف الإدارة الأوروبية معاملة الطبقة الثالثة المنحطة… في وطنهم الأصلي“.
ولعل الشيء الذي يثير إنتباه القارئ في هذا الكتاب هو محاولة السيد “جويستين“ تسليط الأضواء على العلاقة الوثيقة التي كانت تربط بين منظمتي “اليد الحمراء“ و“منظمة الجيش السرية“.
فهو يرى أن المنظمة الإرهابية الثانية ما هي إلا امتداد للمنظمة الأولى. لقد حاول أن يثبت أن “منظمة الجيش السرية الإرهابية” قد تكونت يوم أعلن الرئيس ديغول تصميمه على إعطاء تقرير المصير للجزائر، وليس 1961 كما هو شائع الآن. والواجب يفرض علينا أن نقول بأن السيد “جويستين” قد قدم تحليلا رائعا للخطوات التي أتبعت من طرف الرئيس ديغول للمفاوضة مع جبهة التحرير والاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الجزائري.
فمن رأيه مثلا أن فرنسا كانت غير مستعدة للاعتراف بمبدأ “استقلال الجزائر” في منتصف جوان 1960 ولذلك فشلت محادثات مولان. وأكثر من هذا أنها لم تعترف بالمنذوبين عن جبهة التحرير كممثلين وحيدين للشعب الجزائري.
وفي رأيه أن فرنسا بدأت تبدي رغبتها الصادقة لإجراء مفاوضات على أساس الند للند مع الجبهة بعد يوم 8 جانفي 1961 عندما حصل ديغول على ثقة الشعب الفرنسي ونال مشروعه الذي يمنح حق تقرير المصير للجزائر موافقة الأمة الفرنسية. والمؤلف قد أبدى إعجابه الشديد بشجاعة الرئيس الفرنسي الذي واجه المتمردين على نظامه في أفريل 1961 ولو ينحني أما تهديداتهم.
ويبدو أن السيد “جوستين” لم يطلع على بعض الوثائق التي ظهرت حديثا وتثبت أن الرئيس ديغول كان على علم تام بجميع الإستعدادت لانقلاب أفريل وأنه هو الذي شجع الانقلاب حتى يتسنى له التخلص من بعض القادة العسكريين المناوئين لسياسة تقرير المصير.
فالاستناد “وليام اندروس” بجامعة تافت قد أعطى جميع الأدلة التي تثبت صحة هذه الخطة التي اتبعها الرئيس الفرنسي وذلك في كتابه الرائع “السياسة الفرنسية والجزائر” الذي يعد من أحسن ما كتب عن الجزائر.
وتحدث المؤلف عن المرحلة الأخرى من المفاوضات التي أعقبت الانقلاب ووجهة نظره هنا أن فرنسا قد سلمت مبدئيا باستقلال الجزائر ولكنها رفضت أن تعترف بالصحراء كجزء من الجزائر إلى أن تقوم بمساومات وتضمن لنفسها بعض الامتيازات مقابل تسليمها بهذا الحق للجزائريين. وفي رأي مؤلف الكتاب أن الوفد الجزائري كان يهدف إلى ضمان شيئين خلال محادثات إفيان وهما: الإعتراف الكامل بسيادة الجزائر ووحدة الوطن الترابية. والامتحان الأول الذي واجهته الجزائر بعد اتفاقية إفيان هو ضبط الأعصاب وعدم الأخذ بالثأر من الفرنسيين كرد فعل على أعمال المنظمة الإرهابية التي كانت تهدف إلى أثارة الفوضى والنعرات العنصرية. والفضل في فشل هذه الخطة الإجرامية يعود إلى الشعب الجزائري الذي أظهر صبره ووعيه الشديد. إن الجزائر قد حصلت على استقلالها سنة 1962، غير أن سمعتها الطيبة في العالم تفوق سمعة بعض الدول العريقة في الحضارة.
ومن الطرائف التي يرويها المؤلف في كتابه أنه سافر إلى مرسيليا على ظهر باخرة “القرون” وتجادب أطراف الحديث مع بعض المعمرين الذين كانوا في طريق عودتهم إلى الوطن الأم. فتقرب من أحدهم وسأله عن ما إذا كانت هذه هي هجرة الأوربيين من الجزائر. فأجابه ذلك المعمر بقوله: صدقني يا سيدي، أنه لن يبقى أي فرنسي في هذا البلد…. خليهم يعومو في بحرهم الآن”.
ونتيجة لهجرة الأوربيين الجماعية، فإن المؤلف قد وجد أن الجزائر فقدت معلم، 25,000 إخصائي ومدير زراعي و 20,000 مهندس. هذا بالإضافة إلى تهريب رؤوس الأموال الذي أحدث ارتباكا في الإقتصاد الجزائري. وحسب معلوماته فإن مدخول الجزائر من الأموال العائدة إليها من طرف اليد العاملة في فرنسا يبلغ عشرة ملايين فرنك جديد سنويا.
ثم تطرق بالحديث عن مشروع قسنطينة الذي كان عبارة عن محاولة لإنعاش الإقتصاد الجزائري بعد استلام ديغول الحكم في فرنسا. ومن جملة ما رواه المؤلف بهذا الصدد، أن المشروع لم يأخذ العناية الكافية من طرف الفرنسيين على الإطلاق. فقد حدث أن طلب نسخة من مكتب الوزير المكلف بالشؤون الجزائرية ولم يحصل عليها لأنها غير متوفرة لدى المسؤولين! فالمشروع كان يهدف إلى تشييد العمارات في المدن وأيجاد فرص للعمل…والجزائريون شعروا أنه من الأفضل مساعدة المواطنين الذين شردوا من ديارهم في الريف بدلا من تشييد العمارات الضخمة بالمدن الكبرى.
ومن الأشياء المهمة التي ذكرها المؤلف عن الصحافة بالجزائر، أن أغلب الصحف تنشر نفس الأخبار… تحت عناوين مختلفة. والصحافة الفرنسية هي التي تلعب دورا كبيرا في هذا الميدان. ولتدعيم وجهة نظره، فقد أتى على ذكر مقال مطول نشرته مجلة “الأكبريس” في أحدى اعددها الصادر في جانفي 1963. لقد كان المقال حول بيجو وممتلكاته في الجزائر وقد اعتبر بمثابة نقطة تحول في تاريخ الجزائر حيث دفع بالحكومة إلى مصادرة أملاك هذا الشخص عقب نشر المقال وذلك في مدة وجيزة جدا. لقد تمكن المؤلف قد من إقامة مقارنة رائعة بين ما قاله فرحات عباس سنة 1958 لـ “جان لاكوتور” وتربع بيجو على تلك الأملاك الشاسعة سنة 1963 في الجزائر المستقلة. فقد ذكر عباس للصحفي الفرنسي آنذاك بأن الفرنسيين الذين عندهم رغبة صادقة لأن يكونوا جزائريين ويعيشون كأحد منا سيكون في أمكانهم التمتع بنفس الحقوق والواجبات التي يتمتع بها كل مواطن جزائري. وتنبأ بأن حوالي 15 – 20% من كبار المعمرين سيغادرون الجزائر بعد الإستقلال لا محالة. ثم قال له : “كما لا يخفى عليك… فمن الصعب أن تتصورني أعيش جنبا لجنب مع بيجو في جزائر الغد”. وفي جانفي 1963 يطل عباس من أحدى نوافذ المجلس الوطني فيرى ذلك الشخص – بعينه ورجليه – يحتسى قهوة ويستنشق نسيم الشاطئ الجميل… وكأننا يا بدر لارحنا ولا جينا”.
وفيما يخص التسيير الذاتي فقد حلله المؤلف بشيء من الموضوعية والنقد البناء. فوجهة نظره أن هذا المشروع لم يحظى بالعناية الكافية والدراسة الشاملة فرغبة أبناء الشعب كانت الحصول على قطعة من الأرض واستغلالها بأحسن طريقة ممكنة لتوفير العيش لبقية أفراد الأسرة. وهذه الرغبة جاءت نتيجة طبيعية لتعود الناس على الملكية الخاصة واعتبار الأرض مصدرا للضرورة وكسب العيش. ولهذا نجد أن كثيرا من الناس قد أصيبوا بخيبة الأمل عندما وجدوا أن التخلص من مدير أوربي قد أعقبه تعيين مدير آخر جزائري لا غير. وبهذا الصدد ذكر المؤلف أن نائب عامل تيارت قد أعلن بصراحة أن هذه أكبر مشكلة تواجه التسيير الذاتي في الجزائر.
وباختصار، فإن المؤلف قد أتى بشيء جديد لم يأت به أي كاتب عن الجزائر حتى الآن. لقد ترجم إلى الإنجليزية ميثاق طرابلس، والدستور الجزائر، السياسة الجزائرية والطريق الذي تسير فيه الجزائر. والمؤلف لم يتوانى ولو لحظة واحدة ليذكر القارئ بأن هذين الوثيقتين قد حررتا من طرف أفراد لهم اتجاهات وميول يسارية متطرفة.
إن مبادرة الكاتب بجمع حقائق هامة عن الجزائر ومحاولته الجريئة لكتابة هذا المجلد بدون إستعمال أي مرجع ليعتبر أروع شيء في هذا الميدان. فالكاتب في الحقيقة يعبر عن وجهة نظر المؤلف عن الجزائر ومستقبلها. ولو أننا وضعنا إنتاج الكاتب تحت المجهر وألقينا عليه نظرة عابرة لوجدناه لا يخلوا من السطحية وعدم التعمق. فالمؤلف قد تكلم عن أشياء عامة ولم يأت بشيء يعتبر مساهمة كبرى بالنسبة للتراث الوطني الجزائري. ومع أنه ليس من حقنا أن نعاقب المؤلف على عدم تطرقه بالحديث عن أشياء هامة في وجهة نظرنا، لأننا نطمح للكمال، وتمنينا لو حاول معالجة بعض المواضيع الهامة التي طرقها أساتذة آخرون عن الدول الناشئة. إن القارئ دائما يطمح للعثور على أجوبة لأسئلة كثيرة أثيرت حول المصاعب التي تعترض الدول الحديثة العهد بالإستقلال. فمن ذلك مثلا “فريد ريجس“ أستاذ بمعهد. M.I.T الذي يرى ان أكبر مشكلة تواجه الدول الناشئة هي ضعف الحكومة المحلية وعدم إستطاعة المسؤولين الحصول على مساعدة أبناء الريف ومساهمتهم في بناء مجتمع تسوده العدالة والأخوة.
وأستاذ آخر، مثل “فريد هيدي“ مدير معهد الإدارة بجامعة ميتشغان الذي يرى أن أكبر صعوبة تعترض الدول النامية هي وجود عناصر بيروقراطية متحفظة، وعناصر مثقفة وخبيرة، ثم عناصر يسارية وتقدمية، والجميع يعيشون في صراع متواصل وليس في عمل جدي ومثمر. بالإضافة إلى هذا يوجد أساتذة آخرون مثل “ميليكني“ الذين يرون أن مصدر الداء هو عجز المسؤولين عن التعريف بالمشاكل وأيجاد الحلول المناسبة لها. وقد حدث في بعض الأحيان أن المشاكل قد درست ولكن الذي كان ينقص هو وجود الخبراء والإطارات القادرة على تحقيق الأهداف المنشودة. وكيفما كان الحال، فالمستقبل طويل وعريض ونأمل أن يكون هناك من يسلط بعض الأضواء على هذه النظريات ونرى ما إذا كانت هذه المشاكل بالذات التي تواجه الجزائر أم أن هناك مشاكل أخرى تنفرد بها الجزائر عن بقية الدول الناشئة.
* Joesten Joachim, The new Algeria. Chicago: Follett pub. co. 1964