البيروقراطية في النظرية والتطبيق
لقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن دور البيروقراطية السلبي في التنمية المنسقة من طرف الصحافة والأجهزة المختلفة في الكثير من دول العالم. وقد برز هذا بوضوح في الاتحاد السوفياتي الذي أعلن أنه يبحث حاليا عن 16 مليون وظيفة مناسبة للبيروقراطيين السوفياتيين بحيث يتحولون إلى قوة عمل منتجة بعد أن أصبحوا قوة طفيلية عالة على خزينة الدولة السوفياتية. ونفس الظاهرة نلاحظها في الصين ويوغسلافيا والجزائر حيث تشتكي المؤسسات الوطنية من تضخم الوظائف الحكومية وقلة المردودية وانعدام الفعالية في التسيير.
وفي الحقيقة إن الحملة ضد البيروقراطية ليس الهدف منها محاربة البيروقراطية لأن الجهاز البيروقراطي يتكون من جميع موظفي الدولة الذين يحتلون مناصب قيادية عليا ومناصب حكومية في أسفل السلم الإداري، ولكن الحملة موجهة ضد التعقيدات الإدارية التي أصبحت تزعج المواطن وتخنق العمل الإبداعي وتتسبب في تدهور المعنويات وتراكم المشاكل اليومية. وعليه، فإن جوهر المشكل هو التعقيدات الإدارية التي أصبحت تعرقل مسيرة التنمية في المجالات الإدارية والاجتماعية والسياسية، وليس فقط الرجال البيروقراطيين الذين وظفتهم الدولة أساسا لحل مشكل التعقيدات الإدارية. وكما لا يخفى على أي إنسان، فإن اتساع نطاق الخدمات التي تقدمها الدولة إلى المجتمع يتطلب المزيد من الاعتماد على البيروقراطيين الذين تستعين بهم المؤسسات الإدارية لمواجهة الزيادة المطردة في تقديم الخدمات الضرورية للمواطنين.
وما نريد أن نستخلصه من هذه المقدمة أنه لا يمكن التخلص من الجهاز البيروقراطي في الدولة ولا يمكن شن الحرب عليه لأن الاستغناء عنه يعني وقف عملية توسع المؤسسات وإحجام الدولة عن تقديم الخدمات الضرورية لمواطنيها في كل المجالات.
لكن الشيء المطلوب أساسا هو ضرورة قيام القادة السياسيين والبرلمانيين بحملة منظمة إلى تبسيط إجراءات العمل اليومية. ولكي يكون هذا الإجراء فعالا فلا بد أن يصحبه إجراء آخر يتمثل في تنشيط وتقوية دور الخبراء والمستشارين بكل وزارة وبكل دائرة حكومية وذلك بقصد وضع سياسة محددة لكل وزارة في إطار السياسة العامة للدولة، وهنا بدأنا ندخل في جوهر موضوع البيروقراطية بالمفهوم الشعبي، لأن الجهاز الإداري للدولة الذي نطلق عليه اسم البيروقراطية يقوم بتنفيذ السياسة المرسومة من طرف القيادة، وإذا كانت تلك السياسة غامضة وغير مدروسة دراسة علمية فإن الجهاز البيروقراطي المسؤول عن التنفيذ يجد نفسه مضطرا للتصرف والاجتهاد لاتخاذ القرارات المناسبة. وهذا معناه، أن البيروقراطي المسؤول عن التنفيذ أصلا أصبح يقوم أيضا بدور صانع القرار، وبالتالي فإنه يتدخل في ميدان آخر بعيدا عن اختصاصه الذي هو التنفيذ. وعليه فإن غياب خطة تشتمل على الأهداف العامة للدولة في كل قطاع، هي العقبة الكبيرة في وجه العمل الإداري الناجح.
ولعله من المفيد أن نشير هنا إلى أن العمل الإداري الجيد لا يتوقف على وجود إجراءات إدارية مبسطة، ودراسات علمية دقيقة تجسد الأهداف العامة لسياسة الدولة فقط، بل يتوقف النجاح أيضا على وجود جهاز ثالث في الدولة يتكلف بالمتابعة والمراقبة والحيلولة دون الاستمرار قي العمل بطريقة خاطئة، إذا تبين أن هناك ثغرات في الخطة المرسومة. وبناء على ما تقدم، فإن الإدارة العصرية تقوم على أساس وجود ثلاثة أطراف رئيسية في كل إدارة، وهي تكمل بعضها البعض، الطرف الأول هو القيادة السياسية والبرلمانية التي تعتمد على الخبراء المختصين لوضع برنامج علمي مدروس يجسم الأهداف العامة للدولة ولكل وزارة، والطرف الثاني هو الجهاز البيروقراطي الذي يقوم بالتنفيذ وتحويل تلك المشاريع التي أقرتها القيادة السياسية إلى أعمال ملموسة بعد أن كانت حبرا على ورق.
أما الطرف الثالث، فهو جهاز المتابعة والرقابة ودوره ليس تصيد الأخطاء وإنزال العقوبات بالعاملين وإنما التعرف على المشاكل التي تبرز من حيث لآخر وكتابة التقارير إلى المسؤولين في القمة لكي يقوموا بالمراجعة وإدخال اللازمة على المشاريع التي يتبين أن فيها ثغرات عديدة ولابد من التخلص من الأخطاء التي تم اكتشافها خلال عملية الإنجاز.
وإذا سلمنا بهذه الحقيقة وهي وجود ثلاثة أطراف متخصصة في علم التنظيم الإداري فلابد أن نسلم بحقيقة أخرى وهي أن هؤلاء المتخصصين سواء في تحديد أهداف الدولة أو تنفيذ تلك الخطط المرسومة أو القيام بالمتابعة والرقابة، يعتبرون أداة من أدوات النفوذ لكل من يريد أن يبقى في الحكم، وكما قال أحد الأساتذة: فإن مظاهر السلطة السياسية لا تكتمل في معظم البلدان إلا من خلال السيطرة على الجهاز البيروقراطي. وعليه، فالبيروقراطية الحكومية كما يؤكد الخبراء، تعتبر في واقع الأمر معلما بارزا من معالم السيدة القومية، في مجتمعات تتميز بالصراعات الداخلية والمحسوبية وتضارب المصالح وهذا ما يجعلها مطمحا سياسيا هاما لكل من يستولي على الحكم أو يسعى لخلق دولة عصرية تتسامى على الولاءات الإقليمية والفئات المتصارعة في المجتمع(1).
وهذا معناه أن البيروقراطية في الدول النامية تعتبر مصدرا من مصادر السلطة السياسية، أما في الدول المتقدمة فهي عبارة عن جهاز متخصص في الإدارة وتنفيذ السياسات المرسومة من القيادة. وأكثر من هذا فإن الاعتراف باحتلال البيروقراطية لهذا الموقع الاستراتيجي في الدولة نظرا لكونها تمثل جسرا يربط بين القادة والشعب يعني أننا اعتبرنا البيروقراطية هي “الأقلية المبدعة” التي بيدها تنفيذ القرارات وكذلك صياغتها وتحديد أهداف السياسة العامة للدولة. فبالإضافة إلى كونها تحولت إلى وسيط بين القيادة والشعب، تحولت إلى قوة مؤثرة في رجال الحكم بصفتها فئة مهنية متخصصة تزود المسؤولين بجميع أنواع المعلومات التي يحتاجونها لاتخاذ قرارتهم.
وأضحت كذلك قوة متسلطة على المواطنين بصفتها هي العناصر المسؤولة عن تقديم الخدمات لهؤلاء المواطنين. والآن بعد أن شعر المواطنون بأن البيروقراطية تنتهج سياسة عشوائية وتستعمل أساليب بالية في العمل لا صلة لها بالإجراءات الإدارية البسيطة، أصبحوا ينتقدونها علانية. كما أن صانعي القرار في الدولة قد بدأوا يشعرون أيضا بالإحباط وضرورة مراجعة أساليب العمل مع الجهاز البيروقراطي لأن هذا الجهاز قد استولى على جزء كبير من مهام صانعي القرار. ونتيجة لهذا الشعور المشترك والمتبادل بين المواطنين وصانعي القرار بالتجاوزات البيروقراطية، برزت هذه الحملات الموجهة ضد التعقيدات الإدارية وفك الحصار المضروب من طرف البيروقراطيين على رقاب صانعي القرار والمواطنين.
والسؤال المطروح الآن: كيف يمكن تقليص النفوذ البيروقراطي وإعادته إلى حجمه الطبيعي بحيث يتم إعادة تقسيم العمل بين البيروقراطيين على أسس جديدة، ويلعب صانعو القرار دورهم المنوط بهم ويتحكمون في مجرى الأمور، وبالتالي يتخلص المواطنون من التعقيدات الإدارية التي تمنعهم من الحصول على خدمات ترتقي إلى مستوى الطموحات التي يتوقعونها من حكومتهم.
إعلان الحرب من طرف صانعي القرار على التعقيدات الإدارية معناه أن رجال القيادة قد شعروا بالخطر الذي تشكله القيود البيروقراطية على مصير الشعب وعلى مسيرة التنمية الوطنية، وهذا الخوف على سمعة الدولة وهيبتها جعلهم ينتبهون إلى ضرورة تحديد دور البيروقراطية المتمثل في تطبيق القوانين التي سنتها القيادة السياسية ودافعت عليها السلطة التشريعية نيابة عن إرادة الشعب. كما أدرك صانعو القرار بأنه يتعين عليهم أن يلعبوا دورهم الحيوي في وضع الخطوط العريضة للسياسيات العامة للدولة، والبيروقراطيون يقومون بتنفيذ تلك السياسات فقط. كما يتضح من هذه الحملات ضد العمل الروتيني في المؤسسات الحكومية أن صانعي القرار قد أدركوا أن البيروقراطية في غياب السلطة السياسية الرادعة تحتاج باستمرار إلى اكتساب المزيد من القوة والمنعة في وجه التنظيمات الأخرى الأقل تأسيسا في المجتمع(1).
نظريات ومفاهيم للبيروقراطية:
لعله من المفيد أن نوضح منذ البداية أن البيروقراطية في الأصل، هي جهاز متخصص في الإدارة يهدف إلى تنفيذ السياسات العامة لكل دولة، ويرتبط هذا الجهاز باللوائح والقوانين التي تحدد إجراءات العمل وتجم المصلحة العامة. وبفضل هذا التخصص أصبحت البيروقراطية هي المصدر الرئيسي للنفوذ والتأثير السياسي في كل مجتمع إنساني(1).
وحسب رأي هيجل فإن الدولة في كل مجتمع تسعى لتحقيق المصلحة العامة وخدمة المواطنين، وتعتمد في تحقيق ذلك على الجهاز البيروقراطي الذي يعتبر جسرا يربط بين الحكام والمحكومين، والجهاز البيروقراطي غير منحاز، في رأيه، وهو أداة التنمية وتطوير الولاء للدولة ولمؤسساتها الوطنية.
إلا أن كارل ماركس يعارض فكرة هيجل حيث يعتبر أن الدولة تعتمد على البيروقراطية وتعتبرها أداة أو وسيلة لممارسة سيادتها على الطبقات الإجتماعية، والدولة في المفهوم الماركسي لا تمثل المصلحة العامة وإنما تمثل المصالح الخاصة بالطبقة الحاكمة. وعليه، فإن ماركس يؤكد في كل كتاباته أن دور البيروقراطية يتمثل في فرض سيطرتها وتفوقها على جميع المنظمات الإجتماعية التي تخضع للدولة. كما أن وظيفتها الأساسية تنحصر في المحافظة على الإمتيازات التي حققها أصحاب النفوذ والسلطة في المجتمع. والشيء الذي ينبغي أن يكون واضحا بالنسبة لماركس أنه يعتبر مصير البيروقراطية مرتبط بمصير الطبقة الحاكمة، ولذلك يلاحظ أنه عندما تمارس البيروقراطية سلطاتها على الشعب تتحول إلى قوة طاغية ومهيمنة وتوجه الشعب بنوع من التحدي والغيرة على وظيفتها إلى درجة أنها تعتبر نفسها الأمينة الوحيدة على أسرار الدولة ولا تقبل أن تتحداها أية قوة أخرى في المجتمع، وفي نهاية الأمر، يمقتها الشعب نتيجة لفرض القوانين المجحفة على المواطنين وتتوحد القوى الاجتماعية لمجابتها والحد من نفوذها(2).
أما بالنسبة للكاتب المرموق روبرت ميشيل، فإن البيروقراطية تجسم ظاهرة الاستبداد لأنها قوية بالمعرفة التي في حوزتها والملفات التي توجد عندها، والخطر الكبير الذي تشكله البيروقراطية على أي مجتمع أنه يمكن لأية مجموعة قوية أن تستغل تلك المعرفة والملفات وتستأثر بالسلطة من الناحية العملية، وبالتالي تساهم في القضاء على روح المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات.
ولعل أحسن وأدق نظرية للبيروقراطية العصرية نجدها في كتابات الأستاذ ميشال كروزنيي، وهو الكاتب المرموق في هذا الميدان حيث يرى أن هناك علاقات جديدة قد أقيمت بين كبار الموظفين في الدولة وبين موظفين جدد في جهاز الدولة، يتم توظيفهم على أساس الثقة والعلاقات الشخصية وليس على أساس الكفاءة والجدارة في العمل. وعندما تتكاثر المطالب الاجتماعية وتقع الضغوط على مصالح يشرف على تسييرها كبار رجال الدولة، يقوم البيروقراطيون بمفاوضة الجماعات الضاغطة، ويسعون لترضيتها عن طريق اتخاذ قرارات فردية، وبذلك تكون النتيجة في النهاية، هي سيطرة البيروقراطية على الموقف والتحكم في عباد الله واستتباب الأمن والاستقرار(1). ونستنتج من أراء ميشيل كروزيي أن اهتمامات البيروقراطية منصبة على مهادنة الجماعات القوية في المجتمع وترضيتهم والتوسط لدى كبار المسؤولين لمنح البيروقراطيين علاوات ومكافآت وترقيات والانتقال إلى مناصب رفيعة، أي أنهم لا يشغلون أنفسهم بالقضايا التي تهم المجتمع ككل بقدر ما يهتمون بالقضايا التي تخدم مصالحهم الذاتية. ولهذا فإنه من الغلط الاعتماد على القوانين البالية والمراسيم التي فقدت قيمتها في الوقت وتغير الأوضاع، والتستر على العناصر البيروقراطية التي تهمل واجباتها ولا تعيد أي اهتمام لمطالب الجمهور بل لابد من الاعتماد على الأفراد المؤهلين الذين يعملون بروح جماعية وبأسلوب بسيط، وسن قوانين واضحة وغير معرقلة لطموحات ورغبات أبناء الشعب، وتوجيه قوة الدولة ونفوذها لضرب المقصرين في حق المواطنين الذي يجسمون الإرادة العامة للشعب(2).
الممارسات البيروقراطية تختلف عن النظريات:
لعله قد اتضح من التحليل الآنف الذكر، أن المشكل الأساسي في التنظيم البيروقراطي هو أن النظريات والأقوال قد لا تتطابق مع الأعمال، وأن التنظيم البيروقراطي الرسمي ليس هو كل شيء، لأن هناك التنظيم غير الرسمي الذي يطغى على كل شيء. فالبيروقراطية من خلال علاقاتهم اليومية في العمل، يشكلون تنظيما اجتماعيا خاصا أو فريدا من نوعه، قد يتعارض في أغلب الأحيان مع قواعد التنظيم الرسمي، الأمر الذي ينتج عنه أسلوب غير مألوف في العمل. وبكلمة أخرى، فإن البيروقراطي قد يتأثر في هذه الحالة بأقوال وملاحظات الأصدقاء أكثر مما يتأثر بالقوانين العامة وإجراءات العمل اليومية.
ثم، ينبغي أن لا ننسى أن هذه العلاقات التي تنشأ بين الأفراد تتطور وتتحول إلى عناصر قوة لكل فرد، حيث يفكر كل طرف في استغلال علاقاته وتحقيق الرغبات والاحتياجات المتبادلة. وانطلاقا من هذه الأوضاع الجديدة المتمثلة في تفاعلات الأفراد ووجود أرضية خصبة لتبادل الخدمات والمنافع، فإن البيروقراطيين قد يتصرفون ليس على أساس ما يفرضه التنظيم الرسمي والقوانين والإجراءات البيروقراطية وحدها والمتمثلة في قواعد العمل والتزاماته، وإنما يتصرفون أيضا وفق ما تمليه عليهم حاجاتهم وتطلعاتهم الشخصية، حتى ولو تعارضت بعض الأعمال التي يقومون بها مع أهداف وتطلعات المؤسسة التي يعملون بها(1).
وما يمكن أن نستخلصه من هذه الحقائق هو أن المظاهر الشكلية المتمثلة في القوانين والهياكل التنظيمية والشعرات السياسية المعلنة للجمهور، ماهي إلى صورة معبرة على الورق، والخطط الموجودة على الورق والأنشطة المبرمجة لا يمكن إنجازها بطريقة آلية، وإنما تنجز وتبعث فيها الحيوية والنشاط بفضل الأفراد الذين توكل إليهم مهمات تنفيذ الخطط الموجودة، وهنا تتدخل الظروف والأهداف الشخصية التي تؤثر في مسيرة التنظيم لأن الأفراد لهم قيمهم وطرقهم الشخصية في التفكير، وإذا شعر البيروقراطيون أن المنظمة أو المؤسسة التي يعملون بها لا تحقق لهم ما يصبون إليه من رغبات وأهداف، فإنهم سرعان ما ينقلبون ضدها، ويتحول الهيكل التنظيمي الجيد إلى مخطط وهمي صوري ولا فائدة تجدي منه.
إن هذا التوجه لسلوك البيروقراطية المنافي لروح القوانين والواجبات المهنية والأخلاقية هو الذي دفع بالمواطنين في كل بلد أن يظهروا تخوفهم واستيائهم من استفحال نفوذ البيروقراطية لأنه من غير المعقول أن يتعمدوا تعقيد المسائل البسيطة ومضايقة المواطنين وإظهار نفوذهم أمام من يطلب خدمة منهم، والحل الوحيد لهذه المعضلة يكمن في قيام القيادة السياسية بالرقابة الإدارية الفعالة، ووجود سلطة تشريعية رادعة، ورقابة شعبية ديناميكية على كشف العراقيل البيروقراطية وتصويبها للأخطاء التي تقع في الحال.
والحل المقترح يعني بطبيعة الحال، أن عودة الجهاز البيروقراطي إلى حجمه الطبيعي وقيامه بالدور المسند إليهم يتوقف على قيام الجهاز السياسي والجهاز التشريعي للدولة بدورهما بفعالية وإيقاف العمال الإداريين عند حدهم.
وفي الحقيقة أن المشكل الجوهري للبيروقراطية هو غياب السياسة الواضحة والتصور الجيد للعمل المنظم، وعدم وجود أهداف محددة وواضحة، ورؤيا مستقبلية واضحة المعالم، وهي التي تدفع بالبيروقراطيين المسؤولين عن التنفيذ إلى إقحام أنفسهم في مجال الاجتهاد والتخمين والبحث عن المخرج من المأزق الذي تبرز ملامحه في الأفق. ولهذا، فإن الحل المنطقي لهذه المعضلة هو قيام صانع القرار بدوره الأساسي والمتمثل في القيام بالدراسات بمساعدة الخبراء وإزالة الغموض من أذهان المسيرين الإداريين، وتقديم خطط مدروسة مع بدائل للتنفيذ.
أما المشكل الثاني الذي يتخبط فيه الجهاز البيروقراطية هو استئثار صانعي القرار بالسلطة وعدم استشارة أصحاب الخبرة والجهات المعنية بالقرارات المتخذة. ونتيجة لإهمال الرؤساء للمرؤوسين وعدم الاستفادة من آرائهم في المواضيع الحساسة يتحول البيروقراطيون الإداريون إلى رجال سلبيين، وتضمحل شخصيتهم ويتهربون من المسؤولين وينقادون إلى أوامر رؤسائهم وذلك على أمل أن يأتي دورهم في المستقبل ويصبحوا رؤساء ويقومون بتمثيل نفس الدور مع رؤسائهم انتقاما لأنفسهم. ولهذا يتعين على صانع القرار أن لا يجعل من مساعديه مجموعة موالية له، وتخضع لأوامره، وإنما يجعل منهم رجالا يسندونه في مهامه وعندهم الولاء للوظيفة وليس لشخصه.
المشكل الثالث الذي تواجهه البيروقراطية هو التمسك بحرفية القوانين واللوائح والتهرب من المسؤولية وهذا ناتج عن رغبة البيروقراطي في حماية نفسه من العقاب وعدم المخاطرة بمستقبله لأن الموظف الحكومي مسؤول عن تطبيق القانون وليس مسؤولا عن تحقيق نتائج إيجابية. فليس من اختصاصه أي يبدع أو يقوم بمبادرات حيوية لإنعاش عمله، ولهذا فإن مشكلة الاستجابة بسرعة لاستصدار القوانين المنقحة وسد الثغرات التي تحدث نتيجة للتطورات الطبيعية في أنظمة العمل، هي مسؤولية يحتملها القائد المسؤول الذي يقترح على القيادة السياسية والسلطة التشريعية إثراء القوانين وتعديلها بسرعة ومنح صلاحيات وحق إصدار التعديلات الجزئية لمساعديه.
المشكل الرابع الذي يعاني منه الجهاز البيروقراطي يكمن في التحايل على القانون في كثير من الحالات واستعمال نظام الاستثناءات. فالتسامح بشأن بعض الأفراد وتعقيد الأمور بالنسبة لأفراد آخرين هو الذي يحطم المعنويات ويخلق الحزازات. وطبعا فإن انتعاش الوساطة والمحاباة في الوظيفة تجئ في معظم الأحيان نتيجة لاعتبارات سياسية وإيديولوجية أو عشائرية وعليه. إن التخلص من هذه الظاهرة البيروقراطية السيئة يتوقف على إرادة صانعي القرار في الارتقاء إلى مستوى المسؤولية والترفع من هذه الممارسات المضرة بالمصلحة العامة، وبذلك يتعين على مساعديهم المنفذين أن يقتدوا بهم ويضعوا حدا لظاهرة المحاباة والتحايل على القانون ومعاملة جميع الأفراد بعدالة وإنصاف.
المشكل الخامس الذي دفع بالناس إلى شن حملة على الجهاز البيروقراطي هو التباطؤ في العمل وعدم الاستجابة لرغبات الجمهور، وهذا ناتج عن عدم وجود أي تفريق بين التغيير الضروري الذي لابد أن ينبع من المكان الذي تمارس فيه العمليات الإدارية وبين التغيير الذي لابد أن يحظى بموافقة القيادة في القمة ويأخذ الصبغة الشرعية. وعلى هذا، فإن مراجعة كبار المسؤولين، والمرور بالقنوات الرسمية للوصول إلى الرؤساء وإقناعهم بضرورة التغيير، يعتبر من أكبر العراقيل التي تواجه البيروقراطي في عمله لأنه لا يستطيع بمفرده أن يغير مجرى الأمور ويستجيب لطلبات الجمهور حتى ولو كان متفهما لمطالب الجمهور.
المشكل السادس للعمل البيروقراطي ينبع من المجاملات ومسايرة الإنسان المسؤول والانقياد لأوامره حتى ولو كانت نظرته غير عملية. والبيروقراطيون يتخوفون عادة من إظهار أية معارضة أو رأي مخالف لرئيسهم في العمل لأن له سلطة أدبية عليهم. وفي جميع الحالات فإن الأمر سيؤول إليه، وهو حر في اتخذا القرار الذي يراه لائقا. وفي الحقيقة إن هذه المجاملات هي التي تقضي على هذه الموضوعية في العمل، وعلى صانع القرار أن يتجنب فرض آرائه أو قمع الرأي المخالف لوجهة نظره.
المشكل السابع الذي يعاني منه الجهاز البيروقراطي يتمثل في المركزية الشديدة في صنع القرار حيث توجد دائما فجوات كبيرة بين أعمال المخططين على المستوى المركزي والمنفذين على المستوى المحلي لأن التخطيط على الورق يختلف عن الواقع المعيش.
ولهذا فإن البيروقراطيين الذي تسند إليهم مهمة تطبيق السياسات المسطرة يعانون من صعوبة الالتزام بالإجراءات المسطرة والملائمة وبين الاستجابة للاحتياجات الاجتماعية، وبذلك تضعف الفرص أمام الأفراد للتصرف حسبما يتطلب الموقف، وتضعف كذلك الروح المعنوية لدى المرؤوسين وتتراكم المشاكل، وتعجز الكفاءات الإدارية عن تحقيق الأهداف المطلوبة منها (1).
المشكل الثامن مستمد أساسا من تكليف الجهاز البيروقراطي بإنجاز أعمال معينة ومحددة، لكن الإمكانيات المادية غير متوفرة وبالتالي يصعب على العمال لتحقيق الآمال المعلقة عليهم في حل المشاكل التي يتعين عليهم أن يجدوا الحلول الملائمة لها. ولهذا فإن الدعم المادي والمعنوي من طرف كبار المسؤولين في الدولة للجهاز البيروقراطي شيئان ضروريان لخلق المصداقية في جهاز الدولة سواء كسلطة سياسية أو كسلطة تنفيذية.
والمشكل التاسع الذي يعكر صفو العمل البيروقراطي والسياسي ينبع في الأساس من قلة الاستعانة بالعملاء المختصين وعدم الاستنارة بآرائهم. والشيء الذي يؤخذ على البيروقراطية وعلى صانعي القرار، أنهم يأخذون بعين الاعتبار الجوانب السياسية عند دراسة أي مشكل، أي المحافظة على تأييد الشعب وإعطائه وعودا، في حين أن الواقع يفرض عليهم أن يكلفوا خبراء مختصين في الجامعات بدراسة الموضوع من جميع الجوانب، وتقديم الحلول والبدائل التي تساعد، حقيقة، على استئصال الداء وإراحة الناس من العراقيل التي تواجههم بصفة ملموسة لأن المسكنات لا تزيل الأمراض والأوجاع الحقيقية التي تضر الأجسام.
وباختصار، فإن هذه الجوانب السلبية في العمل البيروقراطي والتي هي مرتبطة بصانعي القرار، قد جعلت نسبة كبيرة من السكان يشتكون من القيود والإجراءات الإدارية المعقدة التي تفرضها عليهم الأجهزة البيروقراطية. وفي رأي الشخصي أنه يتعين على القيادة السياسية أن تلتفت بالدرجة الأولى إلى الفئات التي بيدها اتخذا القرارات في كل القطاعات قبل شن أية حملة ضد الجهاز التنفيذي للدولة. وكما أشرت في الصفحات السابقة، فإن الجهاز البيروقراطي مرتبط بالقرارات التي يتخذها رؤساؤهم في العمل، وعندما يتمكن كبار المسؤولين في الدولة من القيام بدراسات وأبحاث دقيقة ويوضحون الرؤيا المستقبلية للعمل يمكن آنذاك أن نسلط العقاب الشديد على كل بيروقراطي يتقاعس في أداء واجباته الإدارية. إن صانعي القرار هم الركيزة الأساسية لأن القانون يسمح لهم بتغيير أساليب العمل وتعديل أهداف السياسة العامة عندما يتبين أن هناك ثغرات.
لكن النقطة الأساسية التي ينبغي التركيز عليها هنا هي أن العمل الإيجابي في مجال الخدمات الإدارية في الدولة يتوقف على تغيير العقلية القديمة وهي أن كل مشكلة تتطلب قانونا لحلها، أن هذا هو الغلط في معظم الأحيان، لأن القانون هو الذي يعرقل العمل إذا كان ليس في المستوى أو ليس متطورا ولا يستجيب للتغيرات التي تحدث في المجتمع. وعليه، فكلي يكون للعمل البيروقراطي معنى حقيقي ونتائج إيجابية، ينبغي أن توجه العناية إلى العمل الإداري نفسه وإلى أسلوب تحقيق نتائج إيجابية وملموسة، وفي هذه الحالة يتم التركيز على عملية التنمية الإدارية، والقانون يأتي كوسيلة لتحقيق النتائج المطلوبة، أي أن القانون يصير عبارة عن إجراءات تنظيمية لتسهيل المهام الإدارية وليس أداة للتحكم في عملية التنمية الإدارية بصوابه وخطئه.
خلاصة واستنتاجات:
وخلاصة القول حول هذا الموضوع الشائك، فإن البيروقراطية كجهاز مهني متخصص في الإدارة والتنظيم وتنفيذ السياسات العامة لأي دولة، تؤدي دورا رئيسيا في توجيه جميع التحولات الكبرى التي تحدث في المجتمعات الحديثة، لأنها هي الجسر الذي يربط بين الجماهير الشعبية والقيادة السياسية في كل بلد. كما أنها تحتل وضعا متميزا عن بقية المنظمات الإجتماعية الأخرى، وذلك بحكم موقعها الاستراتيجي، وخبرة أعضائها الطويلة في التسيير والاحتفاظ بالملفات والأسرار. ولهذا، فإن مظاهر السلطة السياسية لا تكتمل إلا من خلال السيطرة على الجهاز البيروقراطي، وضمان ولائه وانقياده لمتطلبات النظام السياسي الحاكم بالبلاد.
والبيروقراطية التي تحتل مواقع إستراتيجية في الجهاز التنظيمي لأية حكومة، تميل إلى الفساد والاستئثار بالسلطة والنفوذ، شأنها في ذلك شأن أية قوة مدعومة، أو تحتل مراكز قوية في المجتمع. ولهذا، فإن تزايد حجمها واتساع مجالات اختصاصها وتحكمها في المعلومات، سوف يسمح للبيروقراطيين أن يكونوا أكثر قدرة على اكتساب المزيد من الامتيازات والنفوذ، وذلك على حساب المواطنين البسطاء، الذين لا يملكون أية قوة على مجابهتهم أو التصدي لهم. والحل الوحيد لهذا الخطر المتزايد والمتمثل في طغيان البيروقراطية – وبخاصة في غياب السلطة الرادعة – هو تقوية الأجهزة التي توازيها ونقصد بذلك المؤسسات الموازية للبيروقراطية، والتي يمكنها دراسة القضايا التي تتعلق بالخدمة العامة والانحراف البيروقراطي، ثم إصدار القوانين التشريعية التي تساعد على تصحيح الأوضاع، وتقويم الاعوجاج الموجود بالأجهزة البيروقراطية. كما يتعين على كبار المسؤولين بأجهزة الخدمة أو الوظيفة العامة أن يفسحوا المجال أمام المؤسسات الأخرى لكي تنتقد الأعمال البيروقراطية علانية، وتطلع الجمهور والمسؤولين على النقائص والمشاكل التي تحدث باستمرار. وبهذه الطريقة، تستطيع البرلمانات والمحاكم والصحافة والمحالس الشعبية العليا للمحاسبة، أن تثير التساؤلات الإدارية، وتتصدى للعمل البيروقراطي السلبي الذي يضر بالمصلحة العامة وبالمواطنين. إن دور هذه الأجهزة هو حماية المواطنين من التسلط البيروقراطي، والإجراءات المعقدة والروتين القاتل.
إن العمل الإداري في عصرنا هذا، يتوقف على المرونة العالية في القوانين التي ينبغي أن تتطور باستمرار، لكي تواكب التغييرات التي تحصل بكل مجتمع، وهذا ما تفتقر إليه أجهزة الخدمة المدنية في الدول، حيث أن القوانين الجامدة التي تقيد الأنشطة الحكومية، تبقى سارية المفعول مادامت لا تلحق أي ضرر بأصحاب الأمر والنهي.
والدولة التي تنوي أن تحرز تقدما ملموسا في جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هي التي تعرف كيف تراجع قوانينها، وتحرص على تطبيقها على جميع أفرادها بالتساوي، من صانعي القوانين إلى منفذيها. والعبرة في النهاية هي المقدرة على معالجة المشاكل بموضوعية، واقرار مبدأ الحوافز المعنوية والمادية للعناصر الوطنية التي تتوافر فيها عناصر الكفاءة والنزاهة والجدارة في العمل. وفي جميع الحالات، فإن هذا يثبت صحة الحكمة القائلة: لا تستطيع أية جماعة أن تصل إلى أهدافها السامية، دون رئيس يرمز إلى الواحدة، ويقدر على تفسير المصلحة العامة وفرضها على كل فرد، بعد تدريبه وتشجيعه وبث روح التعاون لديه. والقيادة في عصرنا هذا ليست هي خلق شيء بقدر ماهي خلق رجال، أو السيطرة عليهم والحصول على محبتهم، وعظمة المهمة ناشئة عن توحيد الصفوف في سبيل واجب مقدس.
وباختصار، فإن القيادة الإدارية، ليست مجرد اندفاع أو شجاعة أو مهارة أو جمع عدد من المنفذين بقدر ما هي مقدرة تتمثل في جمع الرجال، وتشغيلهم ومعرفة إمكاناتهم واستغلالها، ووضع كل منهم في المكان الذي يلائمه، وبث فكرة القوة والمساواة بينهم، وتوزيع المسؤوليات عليهم، واشراكهم – جميعا – في خدمة المصلحة العامة، على أن يبقى كل فرد منهم ضمن اختصاصه.
* دراسة منشورة بجريدة، بمجلة حوليات جامعة الجزائر ، العدد 2، 1988، ص 73-82 . و هذه الدراسة منشورة أيضا بجريدة الشعب في عدد 30، مارس 1988.
(1) عثمان خيري: البيروقراطية وإدارة التنمية في إفريقيا – القاهرة: المنظمة العربية للعلوم الإدارية 1977، ص. 16.
(1) بكر القباني: الوسيط في الإدارة العامة، القاهرة دار النهضة العربية 1980، ص 321.
(1) عثمان خيري: مرجع سابق، ص 19.
(2) عمار بوحوش: دور البيروقراطية في المجتمعات المعاصرة – عمان المنظمة العربية للعلوم الإدارية 1982، ص 38.
(1) المرجع السابق، ص 196.
(2) عثمان خيري: مرجع سابق، ص 52.
(1) عثمان خيري، مرجع سابق، ص 52.
(1) علي سامي: البيروقراطية في النظرية والتطبيق، القاهر: المنظمة العربية للعلوم الإدارية، 1971، ص 23.